مقالات ودراسات

د. علي خليفة يكتب: ظاهرة الانتحار في المسرح اليوناني القديم


المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات

ـ

د. علي خليفة

(١)
)
تعددت الدوافع التي أدت بانتحار بعض الشخصيات في المسرح اليوناني القديم، وكان لانتحار بعض الشخصيات آثار واضحة على الأحداث في المسرحيات التي جرى فيها انتحار هذه الشخصيات، وسنتعرف في هذا المقال على الدوافع المختلفة للانتحار كما تتبدى في المسرحيات اليونانية القديمة التي نرى فيها حوادث انتحار، وأيضا سنحاول أن نعرف أثر حوادث الانتحار هذه على الأحداث في تلك المسرحيات.
(٢)
وأغلب حالات الانتحار التي نراها في المسرحيات اليونانية القديمة كانت لشعور المنتحر بأنه قد صدرت منه أفعال – سواء أكان بإرادته أم بتدبير من الآلهة الوثنية – تسببت في شعوره بالخزي، وعدم القدرة على مواجهة الناس المحيطين به، وأنه رأى أن خلاصه من هذا الْخِزْي الذي لحقه لن يكون بغير الانتحار.
وهذا هو ما حدث لجوكاستا في مسرحية أوديب ملكا لسوفوكليس، فقد تحققت فيها نبوءة بعض الآلهة، وهي أنها ستتزوج من ابنها من لايوس لو عاش، ولهذا فقد سعت للتخلص منه بعد ولادته مع زوجها لايوس، ولكن الراعي الذي أخذه ليقتله أشفق عليه وأعطاه لراع من بلد آخر، وتتطور الأحداث، وتتحقق النبوءة القديمة، فيقتل أوديب والده لايوس دون أن يعرف أنه أبوه، ويكافأ على تخليص مدينة ثيبة من الوحش أبي الهول بأن يتزوج من الملكة الأرملة جوكاستا، وبعد عدة سنوات يتم اكتشاف كل هذه الحقائق، وتشعر جوكاستا بالخزي لما حدث لها، وترى أنها لا يمكنها أن تواجه الناس بعد أن اكتشف ذلك الخزي الذي كانت تعيش فيه بزواجها من ابنها أوديب وإنجابها منه.
والأمر كذلك في مسرحية أياس لسوفوكليس، فأياس هو أحد أبطال الإغريق في حرب طروادة، وقد صايقه كثيرا أن يحصل صديقه أوديسيوس على أسلحة أخيل بعد موته في تلك الحرب دونه، وكان يرى أنه أحق بها، وتغتاظ الإلهة الوثنية أثينا من تكبره، فتصيبه بالجنون، وخلال جنونه يتخيل أن غنما للإغريق هي جنود لهم، فيقتل هذه الغنم، ويشعر بهذا أنه انتقم من الإغريق الذين لم ينصفوه وكافئوا من هو أقل مكانة منه، وحين يفيق أياس من جنونه يندم على ما فعل، ويرى أنه قد وصم نفسه بالعار، ولا يقبل وهو البطل العظيم إن يتحاكى الناس بقتله لهذه الأغنام بهذه الصورة، فيقرر أن ينتح؛ ليتخلص من عار هذه الحادثة، وتحاول زوجته الوفية تكمسا أن تصده عن هذا الفعل، ويعدها بألا ينتحر، ولكنه يخذلها، وينتحر لأنه لا يستطيع أن يتحمل ذلك العار الذي أصابه بارتكابه هذه الحماقة خلال جنونه.
وفي مسرحية هرقل مجنونا ليوربيديس نرى هرقل يصاب بالجنون بأمر من هيرا زوجة زيوس رب الأرباب الوثنية عند الإغريق؛ انتقاما منه لأنه ابن زيوس من امرأة بشرية هي ألكمينا، وكانت هيرا تريد أن تطفئ بطولات هرقل الكثيرة بما سيقوم به خلال إصابته بالجنون – وقد أصابته بالجنون ربة الجنون وإلهة وثنية أخرى اسمها إيريس، بأمر من هيرا لهما – وقد قتل هرقل خلال جنونه أولاده الذكور الثلاثة، وزوجته، وحين أفاق هرقل من جنونه أدرك بشاعة ما فعل، ورأى أن خلاصه من ذلك العار الذي فعله لن يكون إلا بتخلصه من حياته بالانتحار، وكاد بالفعل أن ينتحر لولا تدخل صديقه ثيسيوس الذي نصحه بألا ينتحر حتى لا يزيد في نكباته، ولا يعطي صورة سيئة للناس عنه وهو البطل العظيم عندهم بأنه لم يستطع مقاومة خزي ما حدث له فاستسلم للانتحار، ويقتنع هرقل بكلام صديقه ثيسيوس، ولا ينتحر، ويستمر في حياته متألما للجرائم البشعة التي ارتكبها خلال إصابته بالجنون.
(٣)
وقد تلجأ بعض الشخصيات في بعض المسرحيات اليونانية القديمة للانتحار خوفا من حدوث فضيحة يتوقع حدوثها، كما نرى في مسرحية هيبوليت ليوربيديس، ففي هذه المسرحية نرى فيدرا زوجة ثيسيوس الملك العظيم تهيم حبا في ابن زوجها هيبوليت، وقد دفعتها أفروديت ربة الحب والجمال عند الإغريق لهذا الحب، وتعترف فيدرا لهيبوليت بحبها له، ويصدها صدا شديدا، لا سيما أنه كان منصرفا عن النساء، ولا يتوجه بعبادته لأفروديت، بل كان يتوجه بكل عبادته لأرتميس ربة الصيد.
وتخشى فيدرا من أن يخبر هيبوليت والده بأنها حاولت أن تراوده عن نفسه وأنه امتنع عليها، فتصيبها الفضيحة، وقد يصيبها ما هو أكثر من ذلك، فقررت أن تنتحر، ولكنها قررت قبل انتحارها أن تنتقم من هيبوليت، بأن كتبت رسالة ذكرت فيها أن هيبوليت هو الذي حاول أن يعتدي على شرفها، وأنها انتحرت لهذا السبب، ونتج عن ذلك أن دعا ثيسيوس على ابنه هيبوليت بالهلاك، واستجاب بوسيدون إله البحر الوثني عند الإغريق دعاءه فأهلكه، وظهرت أرتميس في نهاية المسرحية لثيسيوس وعرفته طهارة ابنه، وجرم زوجته المنتحرة، فندم على دعائه على ابنه هيبوليت.
(٤)
ونرى في بعض المسرحيات اليونانية القديمة أن هناك من يقدمون على الانتحار فيها للتخلص من آلام شديدة يشق عليهم تحملها، كما نرى هرقل في مسرحية نساء تراخس لسوفوكليس، فهو قد لَبْس ثوبا فيه اثار سحر أسود تسبب في إصابته بمعاناة شديدة بعد ارتدائه إياه، وصار لحمه يتساقط منه، ولم ير خلاصه من تلك الآلام في غير الانتحار، فطلب إلى ابنه هولوس أن يقطع له أشجارا كثيرة، ويشعل فيها النيران، وأن يلقى بداخلها حتى يموت، ويتخلص من تلك الآلام الشديدة التي يعاني منها يعد ارتدائه ذلك الثوب، ويفعل ابنه هولوس ما أراده منه، ويموت هرقل بتلك الوسيلة؛ مما يجعل المشاهد لهذه المسرحية يشعر بالعبرة الشديدة بأن هرقل العظيم قد انتهت حياته بهذه النهاية المؤلمة، وأنه يستحق أن يرثي له، ويشعر بالخوف على نفسه في أن تنتهي حياته بتلك النهاية، ومن ثم يحدث للمشاهد التطهير، كما ذكر هذا أرسطو في كتاب فن الشعر.
(٥)
ونرى دافعا للانتحار مختلفا عن الدوافع السابقة في بعض المسرحيات اليونانية القديمة، وهذا الدافع يكون استجابة لأمر أحد الآلهة الوثنية من أجل تحقيق فداء يتسبب عنه خلاص بعد ذلك، كما نرى في مسرحية الفينيقيات ليوربيديس، ففي هذه المسرحية يتنبأ الكاهن تريزياس بأن ثيبة لن تهزم جيوش الأرجيين المعتدين عليها إلا بقيام مونيكس بن كريون بالانتحار، وهو نوع من الفداء، سيعقبه تحقيق النصر لثيبة على الأرجيين المعتدين على بلدهم، وبينما نرى كريون والد مونيكس يحاول إنقاذ ابنه بتهريبه لبلد آخر قبل انتشار تلك النبوءة في أهل ثيبة اذا بابنه مونيكس يعجل بانتحاره استجابة لرغبة بعض الآلهة الوثنية، وحتى يتم النصر لوطنه ثيبة على الأرجيين المعتدين على بلده. وبعد انتحار مونيكس تم النصر لأهل ثيبة على الأرجيين.
(٦)
ومن الملاحظ أننا رأينا أن بعض الرجال والنساء في المسرحيات اليونانية القديمة يقبلون على الانتحار لدوافع مختلفة، وأشد هذه الدوافع هو خشية العار والتشنيع، ويستشعر بشاعة العار والتشنيع الشخصيات العظيمة التي نراها في تلك المسرحيات، ولا تستطيع أن تتوافق مع واقع يخالف ما تعودت عليه، وفيه يمكن أن تلوك الألسن أحاديث عن عارها بعد أن كانت تعيش حياة حافلة بالأمجاد والبطولات والعظمة.
وأيضا ألاحظ أن حادث الانتحار لم يكن الإغريق يرونه جريمة، بل كانوا في الغالب يرونه خلاصا للأبطال الذين ساء مصيرهم بعد أن عبثت بهم الأقدار، وتقلبت بهم صروف الزمان.
بل إنه من الغريب أن نرى بعض حالات الانتحار في بعض المسرحيات اليونانية القديمة لم تكن إلا امتثالا لأوامر بعض الآلهة الوثنية، من أجل تحقيق فداء معين لتحقيق نصر ينتظر تحققه، كما رأينا ذلك في المثال الذي عرضناه من مسرحية الفينيقيات ليوربيديس.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock