د.محمد أمين عبد الصمد يكتب ذكرياته حول نصه المسرحي “سيدنا”

المسرح نيوز ـ القاهرة | د. محمد أمين عبد الصمد

كاتب مسرحي مصري

ـ
حول نص (سيدنا) :

شغلتني لفترة ليست بالقصيرة دراسة ثقافة الغجر وفنونهم (الفترة من 2000- 2004) , وكانت دراستي الميدانية تنصب على بعض الجماعاعت الغجرية في الفيوم وبني سويف وكفر الشيخ , مع إنتقالات بعضهم الموسمية طبقاً لمهنهم وحِرفهم , وكان عالم الغجر قبلها بالنسبة لي عالم سحري مغلف بالغموض وبالصور النمطية , ورؤية المجتمع لتلك الجماعات وثقافتها …
وجماعات الغجر بوصفها جماعات وظيفية قامت بأدوار شديدة الأهمية للحفاظ على الفنون المصرية وتقديمها ..وصبغها أحياناً بصبغة (غجرية) متميزة حية وساخنة , وموافقة لمتطلبات كل مجتمع على حدة , بل لكل شريحة داخله ..مثل أدائهم للسيرة الهلالية بأشعار تقترب من الشعر المرسل مع إهتمامهم في تقديمها بأجزاء معينة , تراعي ذائقة الجمهور وتركيبته الاجتماعية , فلا يشغل شريحة معينة مثلًا من الجمهور بطولات وألاعيب أبي زيد الهلالي أو صمود وفروسية الزناتي خليفة أو نبل وشجاعة الخفاجي عامر..بل يشغلهم قصة حب عزيزة ليونس وسعدى لمرعي ..والعشق الممنوع / المستحيل/ المخفي في ثنايا النص والأحداث من الجازية أم محمد أخت السلطان حسن لأبي زيد الهلالي …

سيدنا
وقدم الراوي الشعبي (الغجري ) قصص الغرام غنائياً بأسلوبه هو وأداءاته شديدة الخصوصية , فكان الراوي الغجري يعرف متطلبات جمهوره المتعطش لقصص الغرام , فلم يخرج الراوي عن السيرة , لكنه اختار منها , وصبغ ما اختاره بصبغته الأدائية والنفسية , كما اهتم في روايته بـ (عاديات الزمان) وهو ما يشبع الراوي نفسه -قبل مستمعه – الذي يعاني بكل تأكيد من رؤية المجتمع له ولمهنته ..!!
أذكر هذا لأن في هذه الفترة كتبت نص (سيدنا) وكنت قد وقعت في أسر وهوى تلك الثقافة وقصصها وعاداتها وتقاليدها , وكذلك معتقداتها , وإستغرقتني معايشة ودراسة , والتي تتماس وتتشابه بل أحياناً تتماثل مع ثقافات الغجر في مناطق متعددة من العالم ..!! فكانت شخصيات المسرحية على خصوصيتها الثقافية الواضحة في الشخصيات واللغة معبرة عن المجموع , حاملة خطابي المستهدف .
وهنا قد يتساءل متلقي هذا العمل : ( لماذا إخترت لأحداث مسرحيتي المجتمع الإسباني ؟) بداية إسبانيا من أكثر المجتمعات إبرازاً لثقافة الغجر وتوظيفاً لها – ولا أقول إحتفاءً- وهذا المجتع الفسيفسائي يجمع تنوعاً ثقافياً ثرياً وفاعلاً , وقد يكون خشناً أحياناً , فكان اختياري لهذا المجتمع لأنه يسهم في مناقشة الفكرة بعموميتها وشموليتها , ومحاولة مني لإيجاد مسافة بين المتلقي (قارئاً أو متفرجاً) والعمل الفني بما يسمح له بالتساؤل ومناقشة الأفكار دون تنميط سابق أو نمذجة .
كما أن هناك سبب آخر وهو أني في التوقيت السابق لهذه المسرحية كنت قد إنتهيت من كتابة مسرحية ( لامبو) وهي مسرحية من وحي قصيدة الشاعر الكبير الراحل عبد الرحمن الأبنودي , وكانت المسرحية في ذات السياق الثقافي والاجتماعي لمسرحية (سيدنا) , وهو ما أسهم بتأثيره بشكل ما في هذه المسرحية أيضاً .
عن نص (سيدنا) :
لم تفقد السلطة في زمن من الأزمنة أدوات السيطرة بتخليق الوعي الزائف , الذي يُرسخ للسلطة , ويدعم أدوات قهرها , ويصورها ويصور أفعالها وسلوكها تجاه المحكومين على أنها المعتاد من الأمور والحياة .فواجه الإنسان دائماً دعاوى تغييب العقل – وبالتالي تغييب الفعل – في مواجهته للسلطة وعنتها
وتُراوح السلطة في استخدام آلاتها للسيطرة والقيادة بين الأدوات الروحية من معتقدات دينية وأفكار عاطفية تغازل الشعب وأفراده , مازجة بين السلطة والوطن , فأي خروج عن السلطة هو – من وجهة نظرهم – خيانة للوطن .
ومن جهة ثانية أدوات مادية متمثلة في الربط المُحكم بين إنصياع وإنقياد الفرد وتأمين الحد الأدنى من احتياجاته المعيشية , وتخويفه دائماً من مستقبل قاتم بغير هذه السلطة وبالذات , وأن كل ممارساتها القمعية – وإن عظمت – هي لحمايته وحماية المجتمع .
ومسرحية (سيدنا) عمل درامي يبحث في علاقة السلطة بالمحكومين , وأساليبها في السيطرة عليهم والقضاء على أي حلم بالتغيير , مستعينة بكل الوسائل المادية والروحية وبث الفرقة بين المواطنين أنفسهم , وخلق صوت جماعي يستمرئ الظلم ويتعايش معها .
وعمد المؤلف إلى اختيار صورة غربية للمجتمع وذلك لخلق مسافة ذهنية تسمح بالقراءة العقلية الجدلية التي تطرح أسئلة على المتلقي ( القارئ / المتفرج) أكثر من طرحها أو سعيها لطرح إجابات .
فساندور هو حلم حرية وكرامة , تواجد وسط الناس , وواجه السلطة , ولكن عيب هذا الحلم أنه لم يؤمن بنفسه تماماً , لم يجحد ظالميه أيضاً تماماً , , فكان نصف ثورة ونصف تغيير , , والنصف في قانون الحياة والتاريخ هو والعدم سواء .
ومسرحية (سيدنا) تقدم قراءة لفكرة تتسم بالعموم والشمول , وتطرح سؤال شديد الأهمية : هل تنجح نصف ثورة ؟؟
وتدور أحداث المسرحية في قرية إسبانية – نموذجاً للكثير من قرى العالم ومجتمعاته – حيث الفقر وجشع السلطة والإستغلال والإستقواء بتفسير معين للدين وتوظيفه لصالح السلطة واستمراريتها .
مع محاولة دائمة من السلطة للسيطرة على مقدرات القرية / المجتمع بتجويعه وإغراقه في احتياجات لا تنتهي , ولا تُلبى كذلك , وحصر هذا في اختيارات محدودة , وكلها تُفقد الإنسان ذاته وانسانيته وإحساسه بالحياة .
فالفقر والجهل والضغط بالتجريم والتعييب , ومطاردة كل فكرة حرة هي أدوات كل سلطة غاشمة قاتلة للأفكار ملتهمة لمواطنيها .
فأبناء القرية يعمل معظمهم في أراضي (سيدنا) , متقبلين ظلم معاونيه , باحثين عما يرضيه , من صمت وتقبل للواقع دون محاولة للتغيير أو التحسين , معتبرين أن هذا قدر عليهم الصبر والتعايش معه , إلى أن يأتي لهم ساندور بحلمه من أجل التغيير وحماية إنسانيتهم , فيتبعونه بعد فترة محاولين محاكاته , فكان موقف السيد : إغتيال معنوي لساندور , وحرق لحلمه بأيدي محبيه وأهله , الذين حلم وقاتل من أجلهم .
وكان ختام المسرحية مفتوحاً ليعطي فرصة لحوار عقلي مع ما تطرحه المسرحية.
(الملك حوحو) :
تتناول مسرحية ( الملك حوحو) فكرة صناعة الطاغية في المجتمعات التي بطبيعة آلياتها الاجتماعية والثقافية تصنعه وتستسيغه , وتجد من يروج له , حتى ولو كان ثورياً وإصلاحياً سابقاً , فالسياق الاجتماعي والسياسي لو لم يتم إصلاح جذوره وبنيته فلا صلاح لأي فرد يتولى , بل الواقع والتاريخ يثبت أنه يجاري السياق ويستجيب بالتدريج لآليات صناعة الطاغية .
فالشخصية الرئيسة هي شخصية (ابن حمدي) الذي يعاني في حياته من مظالم إنسانية واجتماعية تهدم أسرته , وتهدم حياته المستقرة على شظفها , وتقبله لمظالمها . وفي لحظة حكمتها تراكمات الظلم وظرف رد الفعل يتحول (ابن حمدي) إلى خارج على النظام – وخارج على القانون – ويلتف حوله أمثاله من المعدمين والمضطهدين والمظلومين , ويقومون تحت قيادته بأعمال متتالية لرد المظالم ورفعها , ومحاسبة الظالمين المتدثرين بالسلطة , وقانون صنعوه بأنفسهم لحماية مصالحهم ووجودهم .
ولأن ألاعيب أبناء السلطة وسدنتها لا تنتهي , ولأن (ابن حمدي) بخروجه على نظامهم أصبح رمزاً مقلقاً لهم , مهدداً لمصالحهم , بل لوجودهم ذاته , فإنهم يتحينون الفرصة – بعد فشلهم في القضاء عليه – لإستقطابه ثم إعادة إنتاجه بما يتلاءم مع النظام السائد والمستقر والخادم لمصالحهم أفراداً وجماعات .
ويبدأ تحويل (ابن حمدي) بداية بإدعاء تبنيهم لأفكاره , ورغبة أكيدة من ملك البلاد لتطبيقها , ثم يُغرقون ابن حمدي رويدأ رويداً في عالمهم , وكلما تعمق في عالمهم ابتعد عن جذوره , وتنكر فعلياً لما ينادي به نظرياً , ويجعلونه بأساليبهم بوقاً لهم , ومردداً لما يريدون , وجسراً لما يرغبون , مستغلين نقاط الضعف البشري والإنساني التي تغرق صاحبها إن إستجاب لها .
وفي النهاية يكون ابن حمدي (الملك حوحو) بمقياسهم ومعاييرهم محافظاً وحريصاً على حمايتهم , وحارساً ومدافعاً عن مكاسبهم …فكيف صنعت آليات المجتمع الطاغية ؟ وكيف حوّلت الثوري إلى نسخة ممن ثار عليه ؟ هذا ما تجيب عنه مسرحية (الملك حوحو) في سطورها وأحداثها .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock