مقالات ودراسات

د. محمد سيف يكتب: مسرحية ” أوسويفان”للمخرج بوسرحان الزيتوني ..استنبات لنص “رجل برجل” لبريشت واللعب معه.


المسرح نيوز ـ باريس| د. محمد سيف

ـ

د. محمد سيف
د. محمد سيف

 

لقد أراد المخرج بوسرحان الزيتوني ان يعطي هذه المسرحية التي تعود الى بدايات كتابات بريشت المسرحية (1925)، طابعا يجمع المأساة بالفكاهة الساخرة، ليس فقط من خلال تقديم نوايا نص بريشت، وإنما اللعب معه. وهنا تكمن ميزة العرض وتفوقه على نفسه، إن صح التعبير.ولكن من خلال ماذا؟ الجواب، من خلال استنباته في بيئة مختلفة، ينتمي اليها المخرج وممثليهأكثر مما ينتمي اليها المؤلف نفسه، ووضعه في سياق احداث يعرفها المتفرجبمجرد ما يرجع بذاكرتهإلى الوراء قليلا،رغم اختلاف مستويات تلقيه المعرفي. كيف؟ بجعل المعنى العميق للعمل يكون واضحا بشكل مادي، بإماطة اللثام عما هو غير مرئي ليصبح مرئيا،وان يصل للجميع، من خلال الممثل، السينوغراف، مصمم الأزياء، وحتى العامل المكلف بالديكور وانتقالاته، فالجميع يسعى بشكل ضمني لتحقيق هدف العرض نفسه، مبينا بشكل واضح ان الخشبة تخضعبأكملها للاستنبات الجديد للنص، والكتابة الركحية. اليس كذلك هذا ما كان يريده بريشت نفسه من المسرح، بمعارضته وبقوة أية وسائل أيهاميه توحي بتصديق أن التاريخ لا يمكن تغييره؟

إن عمل ” اوسويفان” يجسد نوعا من هذه المسرحة التي تميط اللثام عن بناء سرد مخالف لذلك السرد الذي تقدمه النسخ الجاهزة تاريخيا. لان التاريخ كما نعلم ليس ثابتا ولا معطى مسبقا، خاصة عندما نقوم بنيشه بشكل واع وإعادة كتابته. لذلك، قام المخرج بوسرحان الزيتوني، بقراءة مسرحية جديدة تعاملت وبحثتفي سياقات تاريخية معاشه من قبل المجتمع التي قدمت فيه مسرحيته أو حاكته، وذلك من خلال تصرفه في لغة الخشبة واستخدامه أجواء مغربية بحتة، تسائل مرحلة من تاريخ المغرب، خلال أربعينيات القرن الماضي؛ استخدم في عرضه، لهجة بيئة عاشت أحداثا ليس غريبة عنها،ربما لا يحتاج متفرجها إلى مرجعيات معقدة وغامضة لإدراكه،وهذا يعني انه خلق لغة مسرحية جديدة، استنبت من خلالها عمل بريشت “رجل برجل”، في بيئة مغايرة لها، لكنها تستخلص منه العبر، أو تعيد رؤية نفسها من خلاله. اليس هذا ما يبحث عنه المسرح المعاصر اليوم؟

 

  • “رجل برجل”لبريشت و”اوسويفان”، للزيتوني: هندسة عاطفية لاكتشاف جوهر الإنسان.

 

عندما سَئِلَ بريشت في عام 1926: ماذا تكتب الآن؟ أجاب: مسرحية كوميدية، بعنوان “رجل برجل”، يجري فيها تفكيك للإنسان، الذي يعاد تجميعه وتركيبه من جديد في جلد شخص آخر. ومن الذي يقوم بهذه العملية؟ أجاب: ثلاثة مهندسين عاطفيين. وهل التجربة تعتبر ناجحة؟ أجاب: نعم، من أجل إرضاء الجميع. وهل يولد، من جراء هذه العملية، إنسان مثالي؟ أجاب: لا، ليس بشكل خاص.

 

تتحدث مسرحية “اوسويفان”، عن رجل يدعى “الغالي”، وهو حمال يخرج من بيته،في أحد الأيام، لكي يشتري سمكا لزوجته، فيجد نفسه يحمل أغراض “فاطمة”، الغانية التي استوحى شخصيتها بوسرحان الزيتوني، من أروقة التاريخ المعتمة لمدينة الدار البيضاء- التي كانت مثل العديد من المدن المغربية، التي أسس فيها الاستعمار الفرنسي ما سمي حينذاك بالأحياء الخاصة “Les quartiers réservées”، مثل حي “بوسبير” الذي أرغمت فيه فتيات مغربيات على امتهان الدعارة في شروط مهينة تحط من كرامة الأنسان والمجتمع[1]-، فتلتقيه دورية عسكرية، فقدت أحد أفرادها الأربعة، ويجب عليها أن تعثر على شخص آخر يحل مكانه، بسرعة فائقة، لتتجنب ثورة وغضب” الكابران بوجمعة”، الرهيب. “الغالي”، رجل لا يعرف أن يقول لا، لأحد. ليس لأنه رجل ضعيف كما يمكن أن نعتقد، بل على العكس، انه الأقوى، ويصبح كذلك بالفعل، بدءا من اللحظة التي ينصهر فيها بالكتلة العسكرية، ويكف عن أن يكون شخصا له ذاته الخاصة. هكذا تبدأ رحلة “الغالي”، بتتبعهللجنود الثلاثة، وشيئا فشيئا، يتكيف مع الملابس، ويتبنى المواقف، والأفكار التي يجب أن يمتلكها المحارب في حالة الحرب. وهكذا يتم تفكيكه وتجميعه وتركيبه مثل سيارة جديدة، لكي يتأقلم مع مجريات الأمور في العالم، وليصبح، في النهاية المطاف، محاربا قويا يبعث على الخوف. إن الجيش في مجتمع ما بعد الحرب العالمية الأولى، كان يريد عصرا تتكاثر فيه الكائنات الخالية من الجوهر، الهجينة، والقابلة للتغيير، والتي تكون كتلة صلبة في الآلة الاقتصادية والصناعية والعسكرية العظمى.ولهذا لجأ بوسرحان الزيتوني في عملية استنابته، إلى مرحلة من مراحل التاريخ المغربي، باستخدامه لغة وتاريخا إقليميا خالصا، يسلط الضوء من خلاله على حياة الجنود المغاربة الذين زجهم الاستعمار الفرنسي في مغامرة حروبه، سواء في حرب التهدئة في المغرب، أو في حروبه ضد النازية والفاشية في فرنسا وإيطاليا أو الهند الصينية.

 

(قد لا يكون العديد من المغاربة يعرفون جيدا فصلا مثيرا من تاريخ المقاومة المغربية التي وجدت نفسها تواجه جزءا من المغاربة الذين اختاروا أن يكونوا ذراعا للاستعمار الفرنسي، والذين نتيجة الفاقة وربما الإغراءات المالية في ظروف عيش قاسية، اعتبروا عملهم ضمن العسكر الفرنسي مجرد عمل ووسيلة)[2]. هذه العملية بحد ذاتها، أي عملية الاستنبات،تحتاج إلى الكثير من الأفكار والتأملات التي تبناهاالمخرج/المؤلف، وأخضعها للتجريب على ” الغالي” المسكين،في مسرحيته. ولكن خلافا لكل المظاهر، لعل هذا الأخير، ليس مجرد ضحية بريئة مثلما يمكن أن نتصور عند رؤيته منذ الوهلة الأولى. ففي مجتمع يسيطر عليه الوهم، والفقر، والتدهورالاقتصادي، وناس فوق وناس تحت،” الغالي” وحده الوحيد القادر على اختيار تحوله.

 

بلا شك أن شخصية “الغالي” تبقى شخصية بريشتيه بامتياز، وهي تشبه في شكلها ومضمونها شخصيات بريشت الكثيرة والمتنوعة، في مصيرها المتداخل باستمرار في جو مرح المتاهة. ويمكنا العثور في هذه الكوميدية التهريجية على بدايات الأسئلة الكامنة في مسرحية “دائرة الطباشير القوقازية”، لبريشت: ما الذي يحدد هويتنا؟ الولادة أم التربية؟ وحتى إذا جردنا الإنسان عن اسمه، فهل يصبح شخصا آخر؟ أسئلة يعيد طرحها وتشكيلها بوسرحان الزيتوني في “اوسويفان”، من خلال عملية تجريد الفرد من شخصيته لصالح المجتمع الذي يستخدمه من دون هاجس. ولكن، نحن لا نعرف فيما إذا كان “الغالي” قد فقد نفسه وروحه حقا، عندما اخذ مظهر جندي متعجرف، أم لا ؟،

 

وهذا السؤال يمكن طرحه أيضا، على رجل المجتمع، والرجل العادي اللذان اجتمعا هنا في هذه المحاكاة الساخرة للشرط الإنساني، المكتوبة بلهجة قاسية تؤكد على أكثر الحالات بشاعة؛ تتحدث المسرحية، عن دوار الهوية الذي يغرق الحبكة في دوامة من التهور، والتراجيدية، والكوميدية؛ عن إزالة هوية رجل، ووضعها في جلد نسخة أخرى أكثر ترتيبا وتكثيفا ربما. مثلما ما فعل بوسرحان الزيتوني، عندما نقل أحداث وشخصيات وعوالم مسرحية “رجل برجل” إلى مكان ومناخ أخر، وجعلها تنتمي لحقبة زمنية أخرى مختلفة، وغير أسماء شخصياتها التي كانت: (غالي غاي، المرأة بغيبك جس، جيب، بولي، يوريا،والرقيب فيرتشايلد)،فأصبحت (الغالي، البوهالي، البودالي، الجيلالي، الكابران بوجمعة، وفاطمة)، حاذفا شخصية الزوجة، الخادم، وشخصية الكاهن وانغ، ومستبدلاغناء الجنود في الحانة، بغناء جنوده الثلاث، لغرض تكثيف الحدث وجعله اكثر تركيزا على عملية التحول، واضعا الفرد أمام الهاوية مباشرة، بحيث عندما نشاهد ونقرأ أحداث الحكاية نصاب بنفس الدوار الذي أصاب صاحبنا ” غالي غاي”، عندما كان أمام نعشه الخاص:

  • وإذا كنت خيالا؟ وإذا كان الرجل، ليس إلا صفحة بيضاء فارغة، نستطيع في أوقات الفراغ، محو هويته ورسم شخصية جديدة؟ فتجيبه الأرملة بغيبك:
  • لا تتعب نفسك بذكر اسمك، ما الفائدة؟ طالما أنك تقصد به دائما شخصا آخر؟
  • ماذا يبقى من الإنسان عندما نجرده من تاريخه، وعائلته، بل وحتى من اسمه؟
  • غالي غاي: إذن، بإمكاني أن أصبح شخصا آخر. وهكذا يصبح ” الغالي”، الجندي “جرايا جيب”، كلبا من كلاب الحرب.

 

أن تكون، يعني أن تصبح. وبصرف النظر عن حركة الكينونة هذه، أو بعيدا عنها، لم يعد فعل التحول، إلا ضرب من الخيال فحسب. علينا مراقبة هذا الذي يبقى من الإنسان عندما يتم تجريده عن هويته. هل سيستسلم إلى شهواته كليا، مثلما حصل لصاحبنا “الغالي”؟ ثم، هل أن ما حصل له بسبب مكائد ثلاثة جنود مكلفين بمهمة حقيرة، حقا؟ من خلال هذا التساؤل يثير انتباهنا بوسرحان الزيتوني، نفسه إلى: إن “الغالي” هو دهشتنا الكبرى، وعالمنا المعاصر، الذي يدافع عنه، هذا الأخير، من خلال جعل قضيته تأخذ شكلا مأساويا، ويربح، في نهاية المطاف، نتيجة لتداخل المواد في جوهر روحه، بدليل أنه بمجرد ما تنتهي عملية تغير اسمه وشخصه، يصرح بأنه في صحة جيدة. إذن، إننا لسنا أمام مسرحية تتحدث عن عملية غسل الدماغ. لأن ” الغالي”، الوحيد الذي يبادر في عدم الرد، على اسمه، ولم يعد يتعرف حتىنفسه في المشهد الثاني، عندما يضعوا جثته أمامه:

 

  • الغالي: يا لاه قولو لي دابا اشكون هذا؟
  • البودالي:(متباكايا) خليني عليك في همي..
  • الغالي: الجيلالي … اشكون هذا واعلاش عينيك جغمة دم؟
  • الجيلالي:(متباكايا بتصنع) إنا لله وإنا إليه راجعين
  • الغالي: ونعم بالله.. اشكون هذا؟
  • الجيلالي: شوف
  • الغالي: آش
  • الجيلالي: اشكون هو؟
  • الغالي: نشوف واحد ميت؟

 

هناك سر عميق، هو أننا لم نصنع من تراكب حالاتنا المتعاقبة، مثلما يفكر مارسيل بروست؟ كائنات تنزع نفسها باستمرار، مثل الأفاعي، وتنظر إلى جلودها القديمة دون الاعتراف بها؟ لقد كان بريشت أكثر وضوحا من بروست، عندما قال: “الذات المستمرة هي خرافة”. فالأنسان يتخلى عن قناعه الخاص من اجل أن يصنع له، على الفور، واحدا آخر. ومن هوية إلى أخرى، ومن حزن إلى ثان يرسم الإنسان مساره، وحركته، وأثره. مثل قلم الرصاص في الرسم اليدوي، حيث يأخذ القلم، في كل لحظة، اتجاها مختلفا، ويرسم شيئا مختلفا عن الشكل الأول. وكلما يتردد القلم في اليد، ينفتح عالم ممكن، نحو الأفضل أو نحو الأسوء. وفي الفترة الفاصلة بين القديم والجديد، تولد الوحوش.

 

لقد نشرت مسرحية “رجل برجل” في عام 1927، بعد فترة كتابتها بعامين، أي في الوقت الذي عرفت أعمال هذا المؤلف البافاري الذي يدعى “بريشت” العظمة، والانحطاط مع صعود النازية. إذن، ألم تكن هذه المسرحية نوعا من التنبؤ والاستشراف للاضطراب الوجودي الذي عانى منه بريشت فيما بعد ؟، وربما لهذا السبب، قد قال عنها، في عام 1939: ” إن مشكلة هذه المسرحية، هو الكذب الجماعي، والفرقة السيئة، والقوة الإغرائية”. إن الكذب الجماعي، بمثابة تنديد بتأثير النظام النازي، الذي دفعه إلى المنفى، في السويد، وفنلندا، وكاليفورنيا في عام 1941. والفرقة السيئة، فرقته وانقطاعه عن والديه في عام 1918، والأعرابالصريح عن مرارته من أمريكا، التي طردته من أراضيها في عام 1947، ومن الحلفاء الذين لم يسمحوا له بالعودة إلى ألمانيا الغربية. أما القوة الإغرائية، فهي بصمة رجل مسرح يشار إليه دائما من خلال أعماله، التي أكسبته إمكانية الاستقرار في برلين الشرقية، وتأسيس فرقة مسرح البرلين انسامبل، مع زوجته هيلين فايكل، الموجودة دائما حتى وقتنا الحاضر.

 

ما الذي يصنع جوهر الإنسان؟ هذا هو السؤال الوجودي الذي يحاول ربما بوسرحان الزيتوني الإجابة عليه أو بالأحرى مناقشته معنا في عرضه المسرحي.ولكن، لكي يقص علينا هذه الحكاية، اختار المخرجسينوغرافيا”حنفي مراد”، المجردةوالخالية من التضخيم والزخرفة، لكي يجعل للقيمة الإنسانية، كعادته في أعماله جميعها تقريبا، حاضرة بكل معانيها، ولكي يحقق آلية سيمولوجية من خلال فعل اللعب، وملئ الفراغ المسرحيبالأحاسيس.بحيث بدت هذه السينوغرافيا، في علاقة حميمية مع المكان اللعبي والهم الإنساني الذي انشغل به العرض، من البداية حتى النهاية. لقد سمحت مفرداتها، شيئا فشيئا، بتأثيث فضاء متعدد ومتنوع. فمرة، يكون معبدا بوذي، وأخرى، حانة للجنود، أو قاطرة قطار، وثكنة عسكرية، وساحة قتال.

 

وكلما ما بقي من الفضاءظل مفتوحا وبشكل واسع على التاريخ، وفي نفس الوقت مغلق على الحكاية. وبهذه الطريقة ترك الإخراج مجالا كبيرا إلى الكوميدية الجسدية، والغروتسك الذي جملَّ القبح والحيلة والكذب؛ والأداء المتقن من قبل فريق من الممثلين البارعين حقا- كمال كاظمي، أمين الناجي، عبد النبي البنيولي، وسعاد الوزاني-، الذين يمتلكون حرفة التمثيل في الدم. كان الممثلون يميلون في أدائهم في البداية إلى الكوميدية التي جسدوها ببراعة مدهشة، مستحضرين من خلالها شخصيات نمطية يمكن التعرف عليها بسهولة في حياتنا اليومية، ولكن هذه الكوميديا،أصبحت، وبشكل تدريجيفي نهاية المسرحية مرةً،حامضةً قارصه، اتخذت من الصرامة لغة ولهجة قادت العرض نحو الجدية أكثر فأكثر، وأكسبته رؤية عميقة، وذلك من خلال طرحه ضمنيا للسؤال التالي: هل أن الإنسان قابل للاستبدال؟ وأمام الضغط، يوافق “الغالي” على انتحال هوية أخرى، لأن ذلك أفضل دائما من أن يطلق عليه الرصاص. إن مسرحية “أوسويفان”، تذكرنا من خلال نكاتها الهزلية الساخرة، بأن نفي الإنسان، يبدأ دائما بحيلة.

 

بدت هذه المسرحية كما لو أنها وعاء يغلي بالمشاهد الأصلية، الخيالية، والاحتفالية في آن واحد، على خشبة المسرح، لعبت فيها شخصيات فاحشة بشكل خاص، مثل “الكابران بوجمعة”، الملقب بالخماسي الدموي، وصاحبة الحانة “فاطمة”. ولقد استدعى الإخراج الخيال بحيوية كبيرة، صانعا جماليته من الكل، جاعلا من: الحركة، الرقص، الغناء، الملابس، الإضاءة،الصوت، والأشعار المنطوقة أو المغناة في مقابل الأقوال المكتوبة،تمثل نثر العرض وشعره،وكذلك توزيع الأدوار الملفت للنظر.

 

إن ” أوسويفان”، مسرحية غنية جدا، ويستحق اختراقها نوع من الصمت، ويجب علينا أن نعترف بأنها كما هي تعتبر مسرحية كثيفة جدا، وكثيرة الخصال، وإنها تطلب من مشاهدها نوعا من التماسف الذي تكون وظيفته ” وسيلة لتغير المنطق ومحاولة لتأسيسه، وعلى المشاهدين أن يشاركوا في تلك المهمة مع النص والإخراج”[3]، لأن المتفرج ليس متلقي فقط لما يقدم له وإنما جزء منه. لقد أختار المخرج “بوسرحان الزيتوني” أن يذهب في هذه المسرحية إلى قلب الزهرة مباشرة،أي مشيا على الأقدام، من خلال الحذف، التغير، الإضافة، التشذيب أو التقصير. فهو قد قلل من طولها، وكثف من أحداثها، كي لا يسمح لتسلل الضجر إلى بعض المشاهدين غير الصبورين. فالضجر شيطان ثقيل المعشر، ما أن يحل ضيفا على العرض مرة، حتى يصعب التخلص منه بسهولة، فهو يدعو المتفرج للكلام مع من بجانبه، ويسمح له بالتأفف، أو للالتفات يمنة ويسرة أحيانا، وهكذا دواليك. ولهذا جاء العرض على النحو الذي شاهدناه فيه، حدثا مدويا، وصدى حادا وقويا، ربما، لأن اللوحات التي اقتبسها بريشت من العصر الكولونيالي، لم تنتهي بعد من تحديها لنا. وربما أن المخرج أراد من خلال استنباته للأحداث،أن يجعلنا أمام أنفسنا من خلال استنطاقه لشريط الماضي القديم الذي مازال يمارس علينا تأثيره، لا سيما أن الاستعمار لم ينتهي بعد، حتى وان رحلت آلته الحربية وجيوشه المدججة، يبقى جاثما على الصدر مثل كابوس ليس له نهاية.

 

 

[1]– الملف الصحفي للعرض.

[2]– المصدر نفسه.

[3] – Postmodern Brecht, by Elizabeth Wright, edition by Routledge, 1989, P. 32.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock