مقالات ودراسات

رقص – “الحدود” عرض راقص لندى كانو في “مسرح المدينة” بحثاً عن الجنّة!


مي منسى
ـ

الرقص تفاعل وجداني في رسالة ندى كانو، ينطلق فيه الجسد من الدائرة الأستيتية البحتة إلى رؤى كونية، يكتشف فيها الوجود والمعرفة. “حدود”، هو العرض الذي تقدّمه في “مسرح المدينة”، مع ثلاث راقصات وراقصين، مدعوكين في هذه العجينة التي تخلق من حركة الجسد، متوحدا أكان، متشابكا، متعاركا، مصلّيا، مفتونا، أم مهزوما، إنسانا لا يزال منذ سفر التكوين تحت وطأة الخطيئة، يحاول الانعتاق منها بالهرب منها أو بالتكفير. هل هي حكاية الانسانية القديمة العهد إلى يومنا هذا، أعادت ندى كانو كتابتها بالرقص، اللغة التي طالما حكت بها؟

للجسد ما يقوله، حامل رسالة الإنسان الباحث عن أناه، الانسان الضائع، العاشق، المفتون بالله، المتجرّب في الخطيئة، الساعي بالإيمان إلى أن يتخطّاها، مرتفعا فوق الكلمة المكتوبة، إذ في كل حركة منه مادة للقراءة. ما نشاهده في “حدود” هو قراءة شاعرية للجسد في الزمن الحديث، حيث ينبغي للعين الشاهدة اختراق الجسد الراقص بلوغاً إلى الانسان المضطرم في داخله. ندى كانو، بين أنوار خافتة وظلال، أطلقت، هي المتحرّرة من مسرح الرقص التقليدي، الوجه الآخر لمسرح تعبيري، يتفنّن فيه الراقص في علاقته مع جسده.
في المشهد الأول، يرتفع الراقصون بتنانير سوداء طويلة على أعمدة، فيما الضوء منحسرا على الجزء الأعلى من الراقصين، تنطلق موسيقى كونية، تعرّي الأجساد القابعة في العتمة من إنسانيتها لتغدو الأيدي المرفرفة، أجنحة طيور سامية هائمة في الفلك.
من هنا يبدأ الجسد يحكي عن ذاته، يغدو موضوعا، سؤالا، يتوسع في الرقص ويتطوّر بإمكانات هائلة، ترافق أحلامه وطموحاته. فقد يكون هذا العرض الحامل كلمة “حدود” عنوانا للدرس والتحليل، يتخطى الإغراءات البصرية التي يقدمها الرقص الكلاسيكي عادة، لبحث فلسفي، ميتافيزيقي، خطيبه الجسد المتكلّم ببلاغة الحركة.
من مشهد إلى آخر تتغيّر القوة الديناميكية المسيّرة خطوات الراقصين، فالعوامل العاطفية تجعل منهم كائنات خاضعة لحركة الكون المحيطة بهم. قبل بداية العرض شئت أن أستطلع من ندى كانو عن فحوى العنوان: “الحدود، فكرة لسؤال شامل، كيف يعيش مجتمع حين الكائن فيه يفقد معالمه؟ في المشهد الأول، كائنات متعاظمة بنفسها كنصف آلهة. في المشهد الثاني يبدأون يواجهون الواقع وقسوته. يلجأون إلى الغفران والصلوات وحلمهم الفردوس. لكن النصف إله القابع فيهم سيبتلعهم، يطردون من الفردوس، تتبلبل اللغات في ما بينهم ولا يعود الحوار ممكنا بينهم كبرج بابل. هذا العرض الراقص يقول إن العالم متعلّق بالمظاهر، غافل عن جوهر الوجود”.
على مدى أكثر من ساعة، كنت في مواكبة دقيقة لكل نبذة من أجساد الراقصين، حتى لا أفقد الخيط الذي عليه تجلّت الحركة بديناميتها وانعتاقها من قشرتها الأرضية. التعبير بأدوات الإنسان كلّه، خلق على الخشبة قراءة شاعرية، تتوهّج من خلالها الشهوات النفسية والجسدية، الارتدادات عن الخطيئة والغرق في تناقضات عبثية لها، استمد معانيها مما حكته لي ندى كانو، ومما يعبر أمامي في هذا الفن الطليق حيث خمسة راقصين، من شادي عون وبادي عيد وسندي جرماني ومايا نصر ويارا نصّار، أطلقوا العنان لحواس أجسادهم بالاعتلاء في الفضاء كطيور لا حدود لتحليقها، كما بالهبوط والانزلاق ككائنات فقدت ألوهيتها مكسوةً بخطيئة الإنسان الأول.
من برج بابل، إلى آدم وحوّاء، ومن الحلم بالفردوس إلى النفي منه، يتقدم الراقصون من الحدود ويتراجعون، يهمّون بالتحرّر من كابوس الخطيئة بالصلوات ويبقى الجسد الراقص في أبهى تجلّياته، على ذلك الخط النوراني الذي اسمه الرقص.

may.menassa@annahar.com.lb

ــــــــــ

النهار


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock