نصوص

مونودراما “أحلام منصف النهار” للكاتب: محمد محمد مستجاب


محمد محمد مستجاب

قاص وكاتب روائي مصري

ـ

اللوحة الأولي
‮( ‬في‮ ‬أحد الجوانب باب قديم وضخم ومغلق،‮ ‬كتب عليه‮ :”‬العدل أساس الملك‮”‬،‮ ‬بجواره جدار رمادي‮ ‬عتيق به نافذة بقضبان حديدية،‮ ‬وفي‮ ‬الأعلي‮ ‬تمثال العدالة المعروف لامرأة معصوبة العينين،‮ ‬وقد أمسكت في‮ ‬يدها ميزان العدل وفي‮ ‬اليد الأخري‮ ‬السيف،‮ ‬بجوار الجدار أسفل النافذة صندوق ضخم،‮ ‬يضيء التمثال باللون الوردي‮ ‬فيزداد‮ ‬غموضاً،‮ ‬ثم إضاءة علي‮ ‬الباب،‮ ‬المرأة تنهض من علي‮ ‬الصندوق،‮ ‬تتمطي،‮ ‬ثم تتجه إلي‮ ‬الباب وتطرقه بكلتا‮ ‬يديها بقوة ولا مجيب،‮ ‬تعاود المرأة طرق الباب في‮ ‬غضب،‮ ‬ثم تتراجع في‮ ‬ضيق ويأس وتنظر للتمثال‮) ‬ألم‮ ‬يحن الوقت للدخول إليكِ‮..‬؟ أنتِ‮ ‬تريني‮ ‬هنا منذ سنوات طويلة‮.. ‬وكلما طرقت الباب لا‮ ‬يفتح‮.. ‬وقد مللت من تلك الإجابة‮: ‬لا تستطيعين الدخول في‮ ‬الوقت الحالي‮.. ‬انتظرت وانتظرت‮.. ‬سنوات وسنوات‮.. ( ‬تقترب من التمثال‮) ‬قال الحارس الملعون‮: ‬لم‮ ‬يحن الوقت بعد‮ .. ‬فقلت له‮: ‬متي؟‮.. ‬قال‮: ‬ربما ذات‮ ‬يوم‮!.. ‬كل شيء محتمل‮ .. ‬لكن ليس الآن‮.. ‬وأرجوكِ‮ ‬لا تقفي‮ ‬أمام الباب‮ ( ‬تتجه للحضور وبنبرة‮ ‬يأس‮ ‬‮) ‬كنت أعتقد أن الدخول إلي‮ ‬العدالة متاح للجميع‮.. ‬فكرت أنه من المستحسن أن أنتظر إلي‮ ‬أن‮ ‬أحصل علي‮ ‬الإذن بالدخول‮.. ‬لذا جلست هنا‮ (‬تذهب للجلوس بجوار الجدار ثم تنهض بسرعة‮ ‬‮) ‬لكن الحارس لعنه الله عليه سخر مني‮ ‬وقال‮: ‬لماذا تلتصقي‮ ‬بالجدار،‮ ‬إنها لن تنجيكي‮ ‬ولن تقف معك أمام العدالة‮.. ‬حتي‮ ‬ظلك الواقع عليها لن‮ ‬يساعدك‮.. ‬فلا ظل‮ ‬يعاون ظلا‮ ( ‬صوتها‮ ‬يرتفع في‮ ‬غضب‮ ‬‮) ‬وأنا لا أريد أن‮ ‬ينجيني‮ ‬أحد‮.. ‬أنا أريد المثول أمام العدالة‮.. ‬فمنذ ذلك الزمان وأنا هنا‮.. ‬لم‮ ‬يعد لي‮ ‬أي‮ ‬شيء في‮ ‬الدنيا إلا هذا المكان‮ .. ‬وهذا الصندوق به أشيائي‮ ( ‬تنظر للتمثال‮ ‬‮) ‬لم أكن أعرف أن الدخول إليكِ‮ ‬يحتاج إلي‮ ‬كل هذا الزمان‮ (‬تهبط جالسة وسط المسرح‮ ‬‮) ‬ولم أتوقع كل هذه الصعوبات‮.. ‬ومع ذلك فخلال تلك السنوات‮.. ‬كان الحارس أحيانا‮ ‬يرتدي‮ ‬قناع الحكمة ويصطنع صوت الحكيم في‮ ‬حديثه معي‮.. ‬مما‮ ‬يزيدني‮ ‬أملاً‮ ‬بأنني‮ ‬ذات‮ ‬يوم أنجح في‮ ‬الدخول للعدالة‮.. ‬وكان‮ ‬يقول لي‮: ‬إن صبري‮ ‬هذا‮ ‬يؤكد أن بي‮ ‬مس من النبوة‮.. ‬للحق كنت أحياناً‮ ‬أفهم كلامه وأحيانا كثيرة لم أكن أفهم ما‮ ‬يقول‮.. ‬لذا كنت أظل أهز رأسي‮ ‬دلالة علي‮ ‬فهم محتوي‮ ‬كلماته‮.. ‬إلا أن ذلك كان‮ ‬يغضبه ويعتبرها إهانة له‮.. ‬فيصمت ويحك قفاه ثم‮ ‬ينظر إلي‮ ‬السماء ويقول‮: ‬لا أملك أن أتكلم معك‮.. ‬ثم‮ ‬يخبرني‮ ‬في‮ ‬نهاية كل‮ ‬يوم بأنه لم‮ ‬يسمح لي‮ ‬بالدخول بعد‮.. ‬وذات‮ ‬يوم فكرت ووصلت إلي‮ ‬حل‮ .. ‬لماذا لا أعطي‮ ‬الحارس رسالتي‮ ‬التي‮ ‬تحمل شكواي‮ ‬كي‮ ‬يقدمها للعدالة‮.. ‬لكنه كعادته سخر مني‮ ‬بقوة ومد‮ ‬يده خلف هذا الباب وتناول سلة المهملات‮ ( ‬بحسرة‮ ‬‮) ‬كانت مليئة بالرسائل والخطابات للكثيرين الذين‮ ‬يريدون الدخول للعدالة‮.. ‬ثم نظر إليّ‮ ‬وقال‮ ( ‬تقلده‮ ‬‮): ‬يجب أن تعلمي‮ ‬أنني‮ ‬لست رسول فأحملها عنك‮.. ‬يجب أن تقدميها أنتِ‮.. ‬وأنتِ‮ ‬وحدك‮.. ‬قلت له‮: ‬إن رسالتي‮ ‬ليست ثقيلة‮.. ‬بل هي‮ ‬بضعة أسطر،‮ ‬فقال لي‮ ( ‬تقلده‮ ‬‮): ‬ولماذا تريدين مقابله العدالة؟‮.. ‬قلت له ابني‮ ‬مقبوض عليه‮!‬،‮ ‬قال‮: ‬وما تهمة ابنك؟ قلت له‮: ‬متهما بالبحث عن الحرية‮.. ‬وضح علي‮ ‬وجهه التشاؤم العميق‮.. ‬وهز رأسه‮.. ‬وكأنه كان‮ ‬يقلب تلك التهمة داخل عقله‮.. ‬ولم‮ ‬يتحدث معي‮ ‬إلا بعد فترة طويلة‮.. ‬وقال‮ : ‬ياااه،‮ ‬هذه جريمة كبيرة وتهمة ملعونة‮.. ‬إن ابنك عاص ومتمرد‮.. ‬يجب أن تبحثي‮ ‬عن من‮ ‬يساعدك‮ ( ‬تتراجع وتطل للتمثال‮ ‬‮): ‬لا‮..‬لا هذا باطل‮ ..‬هذه ليست الحقيقة‮ ..‬إن ابني‮ ‬وُلد ليتمرد‮.. ‬فقد كان‮ ‬يبحث عن‮ ‬غده وعن مستقبله وعن حريته التي‮ ‬سلبوها منه‮ ( ‬تنهض في‮ ‬غضب وتتجه وتطرق الباب بقوة‮) ‬يا من بالداخل‮.. ‬يامن بالداخل‮!.. ‬متي‮ ‬يسمح لي‮ ‬بالدخول‮ ( ‬تتجه‮ ‬للحضور بهدوء‮) ‬كما ترون لا أحد‮ ‬يفتح لي‮ ( ‬بسخرية‮ ‬‮) ‬حقاً‮: ‬إن المثول بين‮ ‬يدي‮ ‬العدالة ليس بالأمر الهين‮.. ‬ليس بالأمر الهين‮..( ‬إضاءة صفراء علي‮ ‬المرأة وعلي‮ ‬الباب،‮ ‬وتبدو مرهقة ومتعبة،‮ ‬تتحدث بهدوء‮ ‬غريب‮) ‬لأبقي‮ ‬هنا وحيدة وليس أمامي‮ ‬إلا هذا الباب الغليظ‮.. ‬باب بدون روح‮.. ‬لم‮ ‬يشعر بآلامي‮ ‬ومعاناتي‮ (‬تنظر للجمهور‮): ‬هل رأيتهم من قبل امرأة تكلم باباً‮.. ‬إن هذا الباب‮ ‬لا شيء‮.. ‬لكنه‮ ‬يمنعني‮ ‬من الدخول إليكِ‮ .. ‬لكن هذا الباب لا‮ ‬يستجب لدعائي‮ ( ‬ساخرة‮ ‬‮): ‬هل أقدم له قرابين‮ ( ‬تنظر للجمهور‮): ‬نعم‮.. ‬نعم،‮ ‬رشوة مقنعة‮ ( ‬تتداعي‮ ‬لنفسها‮ ‬‮) ‬إذا كان للمال أهمية فالحياة الإنسانية لا أهمية لها بدون العدالة‮ ( ‬تضحك بجنون‮ ‬‮) ‬هل لأننا فقراء‮.. ‬هل لأننا ليس لدينا ظهر في‮ ‬هذه الدنيا‮.. ‬يحدث فيّ‮ ‬هذا‮..‬هل لأنني‮ ‬لا أريد شيئا من هذا العالم إلا ابني‮ ( ‬بجدية وهي‮ ‬تجلس‮ ‬في‮ ‬المنتصف‮) ‬إن هذا العالم عديم الأهمية بدون العدالة‮ ( ‬ترفع رأسها‮ ‬‮) ‬ومن‮ ‬يعرف ذلك‮ ‬يحصل علي‮ ‬حريته‮ ( ‬بجدية‮ ) ‬فأنا أكره كل من خلف هذا الباب فهم‮ ‬غير أحرار‮.. ‬حتي‮ ‬أنتِ‮ ‬يا إله العدالة‮ (‬تنهض‮): ‬نعم أنا أقف هنا‮ .. ‬يبدو أنني‮ ‬حرة‮.. ‬لا‮.. ‬إن مصيري‮ ‬يوجد خلف هذا الباب‮.. ‬مصيري‮ ‬هو ابني‮.. ‬لقد أقسمت أنني‮ ‬لن أعود لداري‮ ‬إلا معه‮.. ‬لقد أقسمت‮.. ‬وإلا سأظل هنا للأبد‮..‬
اللوحة الثانية
‮( ‬المرأة نائمة علي‮ ‬الصندوق،‮ ‬يضيء المسرح،‮ ‬بينما صوت دقات تأتي‮ ‬من داخل المبني،‮ ‬ونسمع صوت جلبة من الداخل وضحكات وهمهمات،‮ ‬تستيقظ المرأة ويتهلل وجهها‮): ‬ها هي‮ ‬العدالة تعمل‮ .. ‬تتحاور وتحلل وتسأل للوصول إلي‮ ‬الحقيقة‮.. ‬ولا داعي‮ ‬لكي‮ ‬أزعجها اليوم كي‮ ‬تعمل في‮ ‬هدوء‮ .. ‬لكني‮ ‬أتساءل هذا السؤال الذي‮ ‬لم أعد أعرف‮ ‬غيره‮ .. ‬هل سوف‮ ‬يفتح الباب اليوم؟ إن قلبي‮ ‬يمتلء كل‮ ‬يوم بالأمل‮ (‬تتجه للحضور‮ ‬‮) ‬حقاً‮ ‬لا مكان في‮ ‬الدنيا‮ ‬يخلو من الخطر‮.. ‬حتي‮ ‬علي‮ ‬أعتاب هذا الباب الذي‮ ‬أعتقد أنه ملاذي‮ ‬الأخير،‮ ‬لا‮ ‬يوجد أمان‮ ( ‬تتجه وتخبط الباب بعنف ولا مجيب‮ ‬‮) ‬لقد جربت مع هذا الباب كل شيء‮.. ‬الطرق والخبط ومراراً‮ ‬حاولت كسره‮.. ‬لكنه كان أقوي‮ ‬مني‮.. ‬حتي‮ ‬مفتاح الصبر لم‮ ‬يصلح معه‮ ( ‬ساخرة‮ ‬‮) :‬إن مفتاح الصبر‮ ‬يعلوه الصدأ من عدم الاستعمال‮.. ‬وساعات الانتظار هنا ليس لها قلب‮.. ‬مقطوعة من حجر بدون تاريخ‮ .. ‬ومع ذلك فالوقت‮ ‬يسقط دون رحمة علي‮ ‬الأرض‮.. ‬والليل‮ ‬يجعل الحزن‮ ‬يفيض علي‮ ‬هذه الجدران‮ (‬تتجه للجدار وتتلمسه‮) ‬سكرانة أحجار هذه الجدران من الظلم‮.. ‬يسمع منها‮.. ‬صراخ قديم‮.. ‬لطم‮ ‬يقرع‮.. ‬نحيب عجوز‮ (‬تتجه للصندوق وتخرج منه بعض الأوراق‮ ) ‬لكن كل هذا لا‮ ‬يهمني‮ .. ‬كل ما‮ ‬يهمني‮ ‬ابني‮.. ‬لقد أعددت خطابي‮ ‬ونمقت كلامي‮.. ‬فكلماتي‮ ‬تولد من قلبي‮.. ‬وتتغذي‮ ‬علي‮ ‬صبري‮.. ‬وتتحدث عن عجزي‮(‬تصرخ‮ ‬‮) ‬أقوالي‮ ‬أجنحة محببة‮.. ‬ورموز كلماتي‮ ‬أخرجها من تابوت أجدادي‮.. ‬أحرفي‮ ‬مغمسة بمداد النار‮.. ‬كلماتي‮ ‬لا‮ ‬يحملها أحد عني‮.. ‬لا أعرف شيئاً‮ ‬عن كلماتي‮ ‬ولا ألوك الأفكار الفارغة‮.. ‬عظام كلماتي‮ ‬تحتاج إلي‮ ‬لحم شهي‮.. ‬ولا أملك أن أتكلم الآن،‮ ‬فلتتكلم عني‮ ‬الجدران،‮ ‬فليتكلم عني‮ ‬صمتي‮ ‬الأبدي‮.. ‬فليتكلم عني‮ ‬انتظاري‮ ‬القديم‮.. ‬انتظاري‮ ‬القديم‮..‬
اللوحة الثالثة
‮( ‬المسرح‮ ‬مظلم تماماً،‮ ‬إضاءة حمراء علي‮ ‬المرأة المتكورة في‮ ‬منتصف المسرح‮) ‬حياتي‮ ‬ليل طويل‮.. ‬وساعة الليل هذه لا قلب لها‮ .. ‬وخلال كل تلك السنوات الطوال التي‮ ‬قضيتها هنا في‮ ‬انتظار الدخول للعدالة‮.. ‬كنت أقطع سنوات انتظاري‮ ‬بالغناء‮.. ‬غناء لا‮ ‬يُحرك شعوراً‮ ‬أو‮ ‬يثير عاطفة‮.. ‬وأحيانا أستمر في‮ ‬قراءة أدعية لقرون‮..‬وكان الليل‮ ‬يأتي‮ ‬عليّ‮ ‬فيغرقني‮ ‬في‮ ‬أحلام بلا ضمير‮.. ‬ويثقل فؤادي‮ ‬بالسواد‮.. ‬وأنام كل ليلة بدائي‮ ‬الأليم‮.. ‬وفي‮ ‬الفجر تولد روحي‮ ‬من جديد‮.. ‬وأحتفي‮ ‬وسط زقزقة العصافير بأني‮ ‬ما زالت حية‮.. ‬كنت أحكي‮ ‬الحكايات لقطع أيام السنوات وأحيانا أتحدث بالأمثال‮.. ‬وكانت جميع كلماتي‮ ‬غارقة في‮ ‬الدموع وحكايتي‮ ‬مليئة بالأحزان والهزائم والتوجع‮.. ‬فالحزن جزء أساسي‮ ‬من تاريخي‮..‬وانتظاري‮ ‬يردم الهوة التي‮ ‬تفصلني‮ ‬عن الموت‮.. ‬والوقت توقف هنا‮ ‬يبحث عن من‮ ‬يشعل عود ثقابه‮ ( ‬إضاءة خافتة علي‮ ‬وجه التمثال،‮ ‬المرأة تحدث التمثال‮) ‬وأنت‮ ‬يا سيدة العدالة‮.. ‬بين عيونك وعيوني‮ ‬تطل أعين من نوافذ حزينة تتحدث بحديث مرتجف وملحّ‮ ‬كوصايا الرب‮.. ‬وجهي‮ ‬متوجع وشفتي‮ ‬تعطي‮ ‬للألفاظ معانيها وروحي‮ ‬تسكن هنا منذ زمن‮.. ‬ولغتي‮ ‬لا‮ ‬يصبها العطب‮.. ‬ولا شيء حولي‮ ‬سوي‮ ‬الصمت‮.. ‬وأصوات خافتة تأتي‮ ‬من بعيد‮.. ‬دليل علي‮ ‬أن الحياة تسير‮.. ‬وأنا جديدة كما لا شيء‮.. ‬لماذا لم تنظري‮ ‬ذات مرة‮ ( ‬بغضب‮ ‬‮) ‬أيتها العمياء التي‮ ‬بدون قلب‮.. ‬إنك قاسية‮.. ‬قاسية‮.. ‬مجرد تمثال دون قلب‮ ( ‬بغضب مكتوم‮ ‬‮) ‬متي‮ ‬سوف تنظرين لي؟ ومتي‮ ‬يفتح بابك الصامت؟ ومتي‮ ‬ينتهي‮ ‬هذا الليل؟ إنك قاسية‮.. ‬قاسية‮ .. (‬بهدوء‮ ‬‮) ‬ولكني‮ ‬أتساءل‮: ‬لو كان لك ابن مثلي‮.. ‬هل عنئذ تشعرين بمعاناتي؟‮ (‬تتراجع بخوف وتبكي‮) ‬لا‮ ..‬لا تنظري‮ ‬لي‮ ‬هكذا‮.. ‬ساميحني‮ ‬علي‮ ‬تطاولي‮.. ‬لكني‮ ‬ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟‮ ( ‬إضاءة وردية تغزو المسرح معلنة بداية‮ ‬يوم جديد،‮ ‬مع صوت هديل اليمام‮) ‬اليمامة التي‮ ‬تقف علي‮ ‬عمود الإنارة تسدعي‮ ‬الفجر بهديلها المُلح‮.. ‬فيأتي‮ ( ‬تهز رأسها وهي‮ ‬تتجه للحضور‮ ‬‮) ‬هل العدالة مثل احتياجات الأطفال التي‮ ‬لا‮ ‬يمكن الوفاء بها‮ ( ‬بغضب‮ ‬‮) ‬وإذا كانت هذه هي‮ ‬الحقيقة التي‮ ‬توصلت إليها طوال سنوات حياتي‮.. ‬فما جدوي‮ ‬الحياة؟ وهل السماء نائمة لم تسمع ابتهالاتي‮ ( ‬تصرخ في‮ ‬وجه السماء‮ ‬‮) ‬أيتها السماء المخضبة بالنجوم‮.. ‬متي‮ ‬تستيقظين؟‮.. ‬متي‮ ‬تستيقظين؟‮ ( ‬تبكي‮ ‬وتتكور علي‮ ‬نفسها‮) ‬لقد جفف البكاء عيني‮..‬وروحي‮ ‬تذوي‮.. ‬ولكني‮ ‬لم أيأس بعد‮.. ‬لم أيأس بعد‮..‬
اللوحة الرابعة
‮( ‬المسرح مظلم،‮ ‬إضاءة حمراء علي‮ ‬تمثال العدالة وعلي‮ ‬المرأة،‮ ‬والمرأة تنظر للتمثال وتحدثه بغضب مكتوم‮ ‬‮) ‬كنا مستعبدين بروحنا وعقلنا‮.. ‬وكان ابني‮ ‬يرفض هذا‮..‬لكن الطغيان هو الذي‮ ‬ساقه للحرية بعنف‮.. ‬نعم لجأ للعنف‮.. ‬وهل الطريق للحرية بالكلمات فقط؟‮.. ‬كانت الحرية عقيدته وقبلته‮.. ‬كان‮ ‬يقول نحن أمة مستعبدة‮.. ‬وطغيان الحاكم فاق الاحتمال‮.. ‬وأي‮ ‬قيمة لأي‮ ‬حياة بدون حرية‮ ( ‬تتجه للحضور‮ ‬‮) ‬ابني‮ ‬كان سيد إرادته‮.. ‬قالوا إن الكتب التي‮ ‬يقرأها قد دمرت عقله‮.. ‬لا‮.. ‬لا ليست الكتب‮ .. ‬بل ما كان‮ ‬يشاهده‮.. ‬تعلم وحصل علي‮ ‬شهادة‮ ‬ولم‮ ‬يعمل‮.. ‬أحب ولم‮ ‬يتزوج حبيبته‮.. ‬كان‮ ‬يخرج كل‮ ‬يوم مع شروق الشمس للعمل وفي‮ ‬نهاية اليوم لا‮ ‬يجد في‮ ‬جيبه أي‮ ‬نقود‮.. ‬كان‮ ‬يمرض ولا‮ ‬يستطيع أن‮ ‬يجد ثمن الدواء‮.. ‬كنت أشاهده وشبابه‮ ‬يموت بين‮ ‬يديه ولم أستطع أن أفعل شيئاً‮.. ‬أي‮ ‬حياة تلك التي‮ ‬تتحدثون عنها‮ ‬كي‮ ‬يرتضيها ابني‮..‬؟‮ ( ‬تتحدث بنبرة حنان وتداعي‮) ‬كان‮ ‬يقول لي‮: ‬إن الشجاعة هي‮ ‬مفتاح الحرية‮.. ‬وخير لنا أن نموت واقفين من أن نموت راكعين‮.. ‬وإن حريته من الله وإن فقدتها فأنا وحدي‮ ‬المسئول عن ذلك‮.. ‬وإن الناس من خوفهم من الذل‮ ‬يعيشون في‮ ‬ذل‮.. ‬وأن الحرية لا تهبط الي‮ ‬الشعب‮.. ‬بل علي‮ ‬الشعب أن‮ ‬يرتفع إليها‮.. ‬نعم كان‮ ‬يبحث عن الحرية الحقيقية‮.. ‬لكنه لم‮ ‬يلجأ للعنف أو للعصيان‮.. ‬لكنكم تعلمون أن أي‮ ‬حاكم‮ ‬يتهم من‮ ‬يخالفه بالخيانة‮.. ‬ولديه من الأساليب والوسائل لتأكيد ذلك‮ ( ‬تعود وتنظر للتمثال‮) ‬وأنتِ‮ ‬كنتِ‮ ‬شاهدة علي‮ ‬كل ذلك ولم تتحدثي‮.. ‬عبثوا في‮ ‬أوراقك ولم تتحدثي‮.. ‬ضللوك ولم تتزمري‮.. ‬ووضعوا المقتول مكان القاتل ولم تتكلمي‮ .. ‬وفي‮ ‬النهاية قلت إنك لا تشاهدين شيئاً‮ ‬بسبب العصابة التي‮ ‬علي‮ ‬عينيك‮.. ‬لكن هذا ليس حقيقياً‮.. ‬فأنا أعلم أن قلبك‮ ‬يعرف الحقيقية‮.. ‬لكن شُلَ‮ ‬كما شُل الكثير من بديهيات الحياة حولنا‮ ( ‬تتراجع وهي‮ ‬تضحك وتواجه الحضور‮) ‬حقاً‮ ‬قال لي‮ ‬قبل أن‮ ‬يختفي‮ .. ‬أن تتوقع من العالم معاملتك بعدل لأنك شخص صالح بمثابة أن تتوقع من الثور عدم مهاجمتك لأنك إنسان نباتي‮.. ‬وكما أن السلام لا‮ ‬يتحقق دون حرب‮.. ‬فلا‮ ‬يمكن أن تكون العدالة لطرف واحد‮ .. ‬نعم لم‮ ‬يطع ابني‮ ‬الحاكم‮.. ‬فكما‮ ‬يقولون‮: ‬إذا رغب الملك عن العدل رغبت الرعية عن طاعته‮.. ‬وإذا لم تحترم الدولة قواعد العدالة‮.. ‬فإن العدالة لن تحترم قواعد الدولة‮ .. ‬إن ابني‮ ‬كان في‮ ‬حرب مع الحياة‮ .. ‬حرب لا ناقة له فيها ولا جمل‮ ( ‬تهز رأسها في‮ ‬حسرة‮ ‬‮) ‬وأنا أعيش هنا حرب وجودي‮.. ‬حربي‮ ‬مع هذا الباب‮.. ‬بينما الشعوب تفكر في‮ ‬اقتسام النجوم كمسكن لها‮ ( ‬تضع‮ ‬يدها علي‮ ‬قلبها وتتحسس جسدها‮) ‬الروح تصفر في‮ ‬هذا القلب مما‮ ‬يثبت أنني‮ ‬حية‮ (‬تحدث التمثال‮ ‬‮) ‬وأنتِ‮ ‬هنا وحيدة مثلي‮.. ‬فلماذا لا تعيرني‮ ‬اهتمامك‮.. ‬أنت امرأة لكنك لست أم‮ .. ‬لذا لن تشعري‮ ‬بمعاناتي‮.. ‬لن تشعري‮ ‬بمعاناتي‮.. ‬كنت أتساءل لماذا أنتِ‮ ‬امرأة‮.. ‬آه لو كانوا صعنوك رجلا‮ (‬تنظر للجمهور نظرات إغراء‮ ‬‮) ‬كنت تزوجته،‮ ‬أغريته،‮ ‬أغويته،‮ ‬كنت جعلته لا‮ ‬يستطيع أن‮ ‬يستغني‮ ‬عني‮.. ‬وكان من المؤكد سيشعر بمعاناتي‮ ‬كي‮ ‬أستطيع الولوج من هذا الباب وأقف بين‮ ‬يديك‮ (‬تصرخ في‮ ‬التمثال‮ ‬‮) ‬وأنت أيتها المرأة العمياء‮.. ‬أنا أعلم أنك لا تريني‮ ‬لأنك خلقتي‮ ‬عمياء‮.. ‬لكن‮.. ‬ألم تشعري‮ ‬بعذابي‮ ‬ومعاناتي‮ ‬بعد‮ ( ‬تهز رأسها وتتراجع للخلف‮) ‬أعلم أنك لا تلتفتي‮ ‬للعواطف والتوسلات‮.. ‬وإنك تطبقين القانون فحسب‮.. ‬أي‮ ‬قانون هذا الذي‮ ‬يمنع إنسان من حريته‮.. ‬لكن واضح أنك عمياء كي‮ ‬لا تري‮ ‬الحقيقة‮.. ‬لا كما‮ ‬يدعون كي‮ ‬تري‮ ‬الحقيقة‮.. ‬يا أيتها العمياء صاحبة القلب القاسي‮.. ‬أه لو استطعت مواجهتك‮.. ‬كنت‮ ( ‬تتوقف فجأة وتتحول إلي‮ ‬إنسانة وديعة‮) ‬لا‮.. ‬لا لن أستطيع أن أفعل شيئا كي‮ ‬لا‮ ‬يقولوا إنني‮ ‬مشاغبة أو إنني‮ ‬لا أريد تطبيق القانون‮.. ‬نعم أعلم أن لديهم من الجرائم والتهم ما تغرق هذا الجسد‮ ( ‬تتراجع وتواجه الحضور وهي‮ ‬تضحك‮) ‬إن الحقيقة تتلون كرغبات الناس‮.. ‬فعندما‮ ‬يمر الناس بجواري‮ ‬كل‮ ‬يوم‮.. ‬اعتقدوا أنني‮ ‬مجنونة‮ ( ‬تتحدث للتمثال‮) ‬وأنتِ‮ ‬تعلمي‮ ‬أنني‮ ‬لست مجنونة‮ ( ‬بهدوء‮ ‬‮) ‬أنا لست مجنونة‮.. ‬ورغم كل ما‮ ‬يقال‮.. ‬أريد العدالة‮.. ‬أريد العدالة‮.. ‬ليبحث الجميع معي‮ ( ‬تتجه للحضور‮ ‬بشموخ‮ ‬‮) ‬وأنتم أيضا ابحثوا أيضا عن العدالة‮ (‬تتراجع للخلف وهي‮ ‬تشير للحضور‮ ) ‬أنتم‮ ! ‬لا‮..‬لا‮.. ‬أتعرفون لماذا؟‮ ..‬لا‮.. ‬لا‮ ..‬الحقيقة المؤلمة إن الناس‮ ‬يموتون وهم ليسوا سعداء‮.. ‬وأنا هنا أقف وحيدة‮.. ‬أنتظر ابنِي‮ ‬أن تعثروا عليه‮ ( ‬تحدث التمثال برجاء‮) ‬أيتها الأخت الحنونة كالحمامة‮..‬الشهية كالنار‮..‬أيتها السابحة في‮ ‬أقاصي‮ ‬الوجدان‮.. ‬آه،‮ ‬آه‮.. ‬إن الوصول إليك حلم عزيز المنال‮.. ‬وهذا الباب الغليظ لا‮ ‬يفتح لي‮.. ‬يقولون لم‮ ‬يأتي‮ ‬دورك بعد‮ ( ‬تذهب ناحية النافذة‮ ‬فتضيء النافذة‮) ‬وتلك النافذة لا‮ ‬يعبر منها صوتي‮ ‬ولا توسلاتي‮.. ‬لماذا نافذتك بقضبان حديدية‮.. ‬هل خائفة منا أم علينا أيتها العدالة؟‮ ( ‬تتجول أمام النافذة بهدوء‮) ‬إن الناس قضي‮ ‬عليهم بالموت‮.. ‬وإنهم لا‮ ‬ينعمون بالسعادة في‮ ‬هذه الحياة‮.. ‬لكن من حسن الحظ أن آلامهم لا تدوم‮ ( ‬تجلس علي‮ ‬الأرض وتنظر للتمثال‮) ‬آه‮.. ‬أنت تعلمي‮ ‬أنني‮ ‬لن أبرح مكاني‮ ‬هذا دون أن أدخل إليكِ‮.. ‬وهذا الحارس الذي‮ ‬يقف خلف الباب‮.. ‬لا‮ ‬يتكلم معي‮ ‬إلا قليلا‮.. ‬كلماته لا تدلني‮ ‬علي‮ ‬شيء‮.. ‬وكأنه‮ ‬يتلذذ بجلوسي‮ ‬هذا‮ ( ‬تواجه الحضور‮ ‬‮) ‬حقيقة أن السماء أحسنت صنع الأشياء‮.. ‬أبدعت العدالة‮ (‬بتداعي‮) ‬وأجادت في‮ ‬وصفك‮.. ‬لكن ابني‮ ‬أخذ مني‮.. ‬وأنا هنا وحيدة مثلك‮ (‬تنهض بسرعة وفي‮ ‬غضب‮ ‬‮) ‬ولا شيء‮ ‬يمنعني‮ ‬أن أواصل انتظاري‮ ‬علي‮ ‬بابك حتي‮ ‬لو كل متاريس الأرض أحكمت إغلاق هذا الباب‮.. ‬حتي‮ ‬لو كل رصاص الأرض توجه إلي‮ ‬هذا القلب‮.. ‬فابني‮ ‬يصرخ بي‮.. ‬يطالبني‮ ‬بالبحث عنه‮.. ‬قومي‮ ‬يا أمي‮ .. ‬واصعدي‮ ‬مدارج العدالة‮.. ‬واصغي‮ ‬إلي‮ ‬صهيل روحي‮.. ‬فأنا أعاني‮ ..‬أعاني‮.. ‬وحيدة أتوه عبر الزمان وأحتل قلاع الصبر حتي‮ ‬أغدو أنا وهو أصدقاء‮.. ‬لكن لا حيلة لمن‮ ‬يختار‮ (‬بسخرية‮) ‬فعلا لا حيلة لمن‮ ‬يختار‮.. ‬إن المصائب كالزواج‮.. ‬تحسب الواحد أنه‮ ‬يختار‮.. ‬فإذا به‮ ‬يقع في‮ ‬الشرك‮.. ‬لكن لا حيلة لأحد‮…‬لا حيلة لأحد حتي‮ ‬يجد باب مثل هذا تقف خلفه العدالة‮ ( ‬وهي‮ ‬تتجول‮) ‬وكل هذه الأشياء لا تبدو مرضية‮ .. ‬هذا العالم كم هو لا‮ ‬يطاق‮ .. ‬أنا لا أحتاج إلا ابني‮.. ‬يعود إلي‮ ‬حضني‮.. ‬إلي‮ ‬أمه‮ ( ‬تواجه الحضور‮ ‬‮) ‬من‮ ‬يستطيع مساعدتي‮ ‬وله حريتي‮ .. ‬من‮ ‬يستطيع مساعدتي‮ ‬وله‮ ( ‬تفكر لحظات‮- ‬بهدوء‮) ‬جسدي‮ ( ‬تشعر بعيون الناس تنظر إليها،‮ ‬ثم تحضن نفسها في‮ ‬خوف علي‮ ‬جسدها‮) ‬أنا لست عاهرة‮.. ‬أنا لست عاهرة كي‮ ‬أبيع جسدي‮.. ‬لكن صبري‮ ‬تحول إلي‮ ‬يأس‮.. ‬أيامي‮ ‬أصبحت أعوام‮.. ‬وأعوامي‮ ‬قرون ولم أحصل علي‮ ‬ابني‮.. ‬من‮ ‬يستطيع مساعدتي‮ ( ‬تصرخ‮) ‬من؟‮.. ‬من؟‮.‬
اللوحة الخامسة
‮( ‬المسرح مظلم،‮ ‬المرأة نائمة علي‮ ‬صندوقها،‮ ‬ثم إضاءة خافتة عليها،‮ ‬تنهض وكأنها كانت تحلم،‮ ‬تتحرك بين الحلم والواقع،‮ ‬بينما‮ ‬يأتي‮ ‬صوت هتاف خافت من بعيد،‮ ‬هتاف المظاهرات‮: ‬مش هنخاف مش هنطاطي‮.. ‬إحنا كرهنا الصوت الواطي‮.. ‬علّي‮ ‬وعلّي‮ ‬وعلّي‮ ‬الصوت‮.. ‬اللي‮ ‬بيهتف مش هايموت‮.. ‬يا حرية فينك فينك‮.. ‬الفرعون بينا وبينك‮) ‬ابتهجوا‮ ‬يا سكان مصر‮ ‬فقد جاءكم أخيرا شاب‮ ‬يعلمكم الحرية‮ ( ‬تصرخ‮ ‬‮) ‬أيها الناس اذهبوا وأعلنوا‮ ‬لمصر أن حريتها قد ردت إليها أخيرا‮.. ‬إذا الشعب‮ ‬يوما أراد الحياة‮.. ‬فلابد أن‮ ‬يستجيب القدر‮ ( ‬تهدأ‮ ‬‮) ‬ومع هذه الحرية تبدأ محنتها الكبري‮ ( ‬موسيقي‮ ‬جنائزية،‮ ‬تتجه نحو تمثال العدالة وتحدثه‮ ‬‮) ‬هل فهمتي‮ ‬الآن ما الذي‮ ‬حدث؟‮ ( ‬تخرج من بين ملابسها صورته وتتأملها‮) ‬ها هو ابني‮.. ‬صورته وهو‮ ‬يهتف في‮ ‬المظاهرات مطالبًا بالحرية‮.. ‬بالغد‮.. ‬بالبحث عن مستقبله‮.. ‬كان هو وشباب كثيرون‮.. ‬كانوا جميعا فرحين‮.. ‬سعداء بثورتهم‮ ( ‬وكأنها تتذكر هتاف المظاهرات‮ ‬يأتي‮ ‬الصوت من الخارج مرة أخري‮: ‬مش هنخاف مش هنطاطي‮.. ‬إحنا كرهنا الصوت الواطي‮.. ‬علّي‮ ‬وعلّي‮ ‬وعلّي‮ ‬الصوت‮.. ‬اللي‮ ‬بيهتف مش هايموت‮.. ‬يا حرية فينك فينك‮.. ‬الفرعون بنا وبينك‮) ‬هل سمعتم صوته‮.. ‬كان هو‮.. ‬كان محمولا علي‮ ‬الأعناق‮.. ‬كان صوته وهتافه‮ ‬يهز عرش الفرعون‮.. ‬وكان‮ ‬يقول‮ ( ‬صوتها‮ ‬يعلو تدريجياً‮ ‬‮) ‬يا أمي‮ ‬الخوف لا‮ ‬يمنع الموت ولكنه‮ ‬يمنع الحياة‮.. ‬وكان‮ ‬يقول‮: ‬ماذا نصنع بالقوة إذا لم‮ ‬يكن بمقدورنا تغير نظام الأشياء‮ .. ‬وكان‮ ‬يقول في‮ ‬ثقة‮: ‬سأجعل الحاكم وزبانيته‮ ‬يرتعشون‮.. ‬سوف ألخلخ كرسيه العفن‮.. ‬وسأحارب الأستبداد في‮ ‬أقاصي‮ ‬الأرض‮ .. ‬وجاءني‮ ‬في‮ ‬هذا اليوم‮.. ‬كان سعيداً‮ .. ‬حضنني‮ ‬وقبل‮ ‬يدي‮.. ‬وقال‮: ‬افرحي‮ ‬يا أمي‮ ‬لقد جاء اليوم الذي‮ ‬نعيش فيه بحرية‮.. ‬معا إلي‮ ‬عالم مليء بالحرية والنور‮.. ‬كان حماسه‮ ‬يحطم كل شيء حوله‮ (‬‮ ‬بانكسار‮ ‬‮) ‬لكنه نسي‮ ‬في‮ ‬فوره حماسه‮.. ‬إن فرعون ذهب كي‮ ‬يأتي‮ ‬آخر‮.. ‬نعم فرعون‮ ‬يرحل ويأتي‮ ‬فرعون‮ ( ‬يرتفع صوتها شيئا فشيئا وتتجه للحضور‮ ‬‮) ‬لكن هذا العالم لا‮ ‬يردد إلا أناشيد الخوف‮ (‬تبكي‮) ‬آه‮…‬آه ما أقسي‮ ‬وما أمر أن‮ ‬يصبح الإنسان حرًا‮ ( ‬تتجه للتمثال‮ ‬‮) ‬المرء‮ ‬يموت لأنه مذنب‮ .. ‬وابني‮ ‬في‮ ‬نظرك مذنب لأنه‮ ‬يبحث عن مستقبله وحريته‮..‬وحيث إن الناس جميعها خائفة‮.. ‬إذن فالناس جميعا مذنبون‮ (‬‮ ‬تبدو منهكة القوي‮) ‬كل الناس‮ ‬يجدون الحياة في‮ ‬المتعة مع الخوف‮.. ‬وهذا ما‮ ‬يعينهم علي‮ ‬الاستمرار‮.. ‬فالخوف أرخص بكثير من الشجاع‮ ( ‬تغير نبرتها‮) ‬قال الناس‮: ‬لقد رآوني‮ ‬أجري‮ ‬كالمجنونة‮.. ‬لا‮ ..‬لا‮.. ‬لم‮ ‬يفهم الناس‮ ‬حق الفهم‮ (‬بحزن‮) ‬كنت أجري‮ ‬بحثاً‮ ‬عن ابني‮.. ‬كنت أبكي‮ ‬فبكت معي‮ ‬السماء والأرض‮.. ‬فكيف لي‮ ‬أن أنسي‮ ‬حرائق روحي‮ ‬وحزن قلبي‮ ‬وانتظاري‮ ‬هذا‮.. ‬وأن أصعد إلي‮ ‬هذه المرأة التي‮ ‬تدعي‮ ‬العدالة‮ .. ‬إنني‮ ‬أشعل زيت قلبي‮ ‬صلاة لك أيها العدالة‮.. ‬فهل من المستحيل أن‮ ‬يكون الإنسان عادلا ؟‮ ( ‬تنهار ثم تنهض وهي‮ ‬تحدق في‮ ‬الحضور وتتقدم خطوات‮ ) ‬لقد حقق ابني‮ ‬تقدما طفيفا في‮ ‬الطريق نحو الحرية‮ ( ‬ترفع رأسها نحو‮ ‬التمثال‮ ‬‮) ‬لكن‮ ‬يوجد الكثيرون لا‮ ‬يحبون هذا‮.. ‬وأنا أعلم ذلك‮ ( ‬تواجه التمثال بقوة‮) ‬يكفي‮ ‬أن تكون قاسيا مثلها‮ (‬تتقدم نحو أول الخشبة‮ ‬‮) ‬أنا لست مجنونة كي‮ ‬أحدث باباً‮ ‬أو أتحدث مع صنم لا‮ ‬يسمع ولا‮ ‬يري‮ ( ‬تصرخ وتدور في‮ ‬المسرح‮ ‬‮) ‬نعم لست مجنونة‮ ..‬أنا روح أم هذا البطل المكبل بالاغلال خلف تلك الجدار وخلف هذا الباب‮.. ‬قالوا‮: ‬إنه خطر‮.. ‬وإذا حصل علي‮ ‬حريته فسيغير كل شيء‮.. ‬وسيصيح المستحيل ممكنا‮.. ‬سيغير وجه الأشياء مرة واحدة‮.. ‬لم لا‮ .. ‬إنه شاب والشباب‮ ‬يبحث عن التغيير‮..‬من‮ ‬يدري‮ …‬لماذا‮ ‬يعاملونا كأننا أطفال صغار لا نعرف مصلحتنا‮ ( ‬تنظر حولها ثم تخرج ورقة ملفوفة من صدرها وترفعها عاليا ثم تلوح بها للتمثال‮ ‬‮) ‬قالوا إن هذا دليل الخيانة والمؤامرة‮.. ‬ها هي‮ ‬الخطة لقلب النظام‮.. ‬وهذا هو دليل الإدانة‮ ( ‬تضحك وتشير بالورقة للحضور‮) ‬انظروا كيف‮ ‬يصنعون أدلة الإدانة‮.. ( ‬تحدث التمثال‮ ‬‮) ‬لكنهم‮ ‬يستطيعون بالقانون الذي‮ ‬بين‮ ‬يديك أن‮ ‬يضللوك‮.. ‬إنما أنا لن أضلك‮.. ‬لأنه ليس لي‮ ‬مطامع في‮ ‬هذه الحياة‮.. ‬مطمعي‮ ‬الوحيد ابني‮.. ‬وهذا ما رزقني‮ ‬به الله‮ ( ‬تنظر للتمثال ساخرة‮) ‬آه‮..‬تذكرت فأنت لا ترين حقاً‮ ( ‬تواجه الحضور‮) ‬انظروا‮.. ‬إن الآلهة لا تمنح الغفران إلا بعد أن تعاقب‮ .. ‬لنرقص جميعا رقصة العدالة العرجاء‮ ( ‬تبدأ‮ ‬الإيقاعات النحاسية والمرأة تتكلم وهي‮ ‬ترقص‮ ‬‮) ‬عما قريب سيفتح هذا الباب وأدخل‮.. ‬وسوف تسمعي‮ ‬شكوتي‮.. ‬فالموت لا‮ ‬يكفيني‮.. ‬والحب لا‮ ‬يكفيني‮.. ‬أريد ابني‮ ( ‬تطرق الباب وهي‮ ‬ترقص‮ ‬‮) ‬يا من بالداخل هل أنتم صم حتي‮ ‬لا تسمعون صوتي‮.. ‬هل أنتم عمي‮ ‬حتي‮ ‬لا تروني‮ ‬أثناء دخولكم وخروجكم‮.. ‬هل أنتم بجلد‮ ‬غليظ حتي‮ ‬لا تشعرون بمعاناة أم تنتظر ابنها أمام مبني‮ ‬العدالة منذ دهور‮ ( ‬تتوقف عن الرقص‮ ‬‮) ‬إنها المحنة التي‮ ‬أعيشها منذ الأزل‮.. ‬محنة الليالي‮ ‬الموجعة وألم السنين العجاف‮.. ‬أنا وحدي‮ ‬الذي‮ ‬يسمع صوتي‮.. ‬وهذا المكان أصبح قبري‮ ‬بدلا من أن‮ ‬يصير طريقي‮ ‬للوصول‮.. ‬لكني‮ ‬سأحسم قراري‮ ‬هـــذا اليـــوم‮.. ‬فإما الدخول وإما لتنهار تلك السيدة‮ ( ‬وهي‮ ‬تشير علي‮ ‬التمثال‮ ‬‮) ‬وأنهي‮ ‬كل العذاب‮.. ‬فلكل شيء نهاية‮.. ‬ولكل من‮ ‬يأتي‮ ‬بعدي‮ ‬ويقف هنا‮.. ‬فالتقولوا له‮: ‬هذا المكان كان‮ ‬يسكنه امرأة عجوز طيبة القلب‮.. ‬ذهب ابنها في‮ ‬أحد الأماسي‮ ‬ولم‮ ‬يعد‮.. ‬وكانت تهمته أنه كان‮ ‬يحلم فقط‮.. ‬يحلم فقط‮ ( ‬ورقة طائرة تهبط من السماء علي‮ ‬أرض المسرح،‮ ‬المرأة تلتقطها،‮ ‬وتنظر فيها،‮ ‬ثم تضحك بقوة شديدة بعدها تبدأ في‮ ‬البكاء المرير‮) ‬قدرك أن تظلِ‮ ‬تنتظرين العدالة ولا تصلي‮ ‬إليها أبدا‮.. ‬إنها كأحلام منتصف النهار،‮ ‬لا تتحقق‮ ( ‬المراة تتكور علي‮ ‬الأرض،‮ ‬بينما تمثال العدالة‮ ‬ينهار‮).‬
تمت

ـــــــــــــــــــــــــــــ

النص المسرحي:نص مونودراما أحلام منصف النهار
تأليف:محمد محمد مستجاب
منشور في جريدة مسرحنا العدد رقم :٣


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock