ننشر أوراق المؤتمر الفكري.. التجارب المسرحية المغربية.. الامتداد والتجديد.. مسارات الفنان المخرج عبدالمجيد فنيش

المسرح نيوز ـ القاهرة| مسابقات ومهرجانات

ـ

المغرب| الدار البيضاء| إعلام الهيئة العربية للمسرح

 

كلمة الفنان عبد المجيد فنيش في حديثه عن تجربته في الندوة الفكرية: أفتتح البوح بإعادة الشكر والامتنان للأعزاء الطيبين في الهيئة العربية للمسرح، الذين أسدلوا علي رداء لا أظنني أهلا له وذاك من فيض نبلهم.

وأنا الآن أستجمع شتات عبارات مستعصية لأتحدث بنفسي عن نفسي، في سعي الى تشكيل ملمح لمسار متواضع لعبد ضعيف.

أعترف أني لم أبذل جهدا كبيرا لولوج دنيا الفنون مبكرا، ذلك أن الأسرة الأندلسية المهجرة مما سمي بالفردوس المفقود، ظلت جيناتها متناقلة بين الأجيال على امتداد سبعة قرون، وقد أصابني من عدواها الحميدة ما أصابني، وأنا أعيش بتطفل الطفولة علنا أو خلسة في أجواء ثقافة تراثية بدءا من قاموس يومي، مرورا بطقوس وعادات، وصولا إلى تعبيرات فنية بحمولات بلاغية وطبوع و أنغام وإيقاعات وزنية.

وتزامنا مع سلطة الاسرة، عمقت لدي دروب مدينة سلا العتيقة احساسا بمدى سلطة هذا الموروث في بناء الذوات، وقد تأجج هذ ا الشذوذ السلوكي قياسا مع سلوكيات أقراني آنذاك عامل انتظامي المبكر في حضور حلقات الدروس بالجامع الاعظم في سلا، وحصص فني المديح والسماع التي كانت تؤثث ضحى كل جمعة قبل رفع اذان الظهر، الى جانب الطواف على أبرز زوايا اقطاب الصوفية في المدينة. امتثالا لقولهم:

هم الملوك والسادات والأمراء فألزم رحابهم وإن خلفوك ورا.

وقد كان من طيب المصادفات ،  وأنا في العاشرة من العمر، أن أدمن متابعة جل برامج التلفزة المغربية، وأساسا ما هو فني  تراثي وما هو تمثيلي  تلفزي، ومسرحي على الخشبات، وهنا ستكون الهزة الفارقة ، و محدثكم  يتابع  جل أعمال فرقة المعمورة- الكثير منها بأنفاس تراثية -خاصة مع تأليف و استنبات الأيقونة احمد الطيب العلج ، ثم المبادرات الخلاقة  مع  العميد الأصيل المتجدد الطيب الصديقي ؛ من خلال” المقامات” “النور والديجور”  “ديوان سيدي عبد الرحمان المجذوب” وقبل هذا أو ذاك ، وتزامنا  معهما،  شغف الإصغاء إلى  إبداعات  فرقة التمثيل للإذاعة المغربية ، التي جعلت من التراث مادة أولى لأعمالها.

هكذا كانت الانطلاقة منسجمة مع ميولاتي المبكرة نحو ما هو تاريخي وتراثي، وظل الأمر كذلك خلال مرحلة التعليم الإعدادي فالثانوي حين أسسنا جمعية أنجزنا داخلها نصوصا لا تخلو من مادة تراثية ما بين فصيح ودارج.

ولما نادى المنادي لاختيار المرحلة التعليمية ما بعد الحصول على البكالوريا، كان الهاجس الأول هو الالتحاق بمعهد عال للمسرح إما في فرنسا، أو في أحد البلدان العربية، لكن إكراهات كريهة حالت دون هذا، فكان البديل هو الإلتحاق بالمعهد العالي للصحافة في الرباط، من منطلق يقيني بأن الصحافة والإعلام هما الأقربان الى الفنون عامة، والدراما على وجه الخصوص.، ولذلك كان بحث التخرج، حول موقع المسرح المغربي في الحيز الثقافي الفني في الصحافة المغربية.

وقد تزامن الإلتحاق بهذا المعهد سنة 1979 مع انطلاق حضوري المنتظم المتواصل في مجالس الشعر الشعبي المغربي المسمى “الملحون”.

موازاة لهذا، إنطلقت تجربتي مع مهرجان مسرح الهواة سنة 1981- في غياب مهرجان آخر -وكانت مع نص مستلهم من سيرة الشاعر الصعلوك “عروة بن الورد” وهو من تأليف “مولاي أحمد العراقي“، -وبعد سنة- وفي نفس المهرجان سأقدم مسرحية “عنترة في المرايا المكسرة” “لعبد الكريم برشيد” وسيفضي هذا الى انضمامي التلقائي الى “جماعة المسرح الاحتفالي”، التي ستعمق فيّ ما هو تراثي.

وبعد خمس سنوات، وبالضبط في صيف 1985, سيستقبلني مهرجان مسرح الهواة مرةً ثالثة، لكن بعمل من تأليفي واخراجي، وهو مسرحية “خمس ليالي في حضرة الجيلالي”، التي قدمت فيها قراءة للشعر الملحون المغربي من خلال شخصية شاعر القرن السابع عشر، “الجيلالي متيرد“.

وقد اعتبر البعض ساعتها أنها انطلاقة لمشروع، وذهب آخرون الى القول بأنها لا تتجاوز حدود استنساخ لأعمال من توقيع “الصديقي” وهما “المجذوب” و “الحراز”

وهنا أقف بين المنزلتين لأقر باني لم أدع ان لدي مشروع -لا آنذاك ولا الآن- وكل ما فعلته هو أني ذهبت إلى تفاصيل في الثقافة الشعبية معتمدا على الإنخراط اليومي فيها، وقد تبدو غريبة بل وحتى مستهجنة عند البعض.

من هنا ترسخت لدي قناعة بأن أقصى ما يمكن أن أسهم به في المشهد المسرحي، هو الإشتغال على متون تتيح لي بعض الإمكانية في حضور خصوصية مدينة ” سلا ” في تشكيلتها الثقافية، خاصة وأن تلك المرحلة عرفت تجارب راهنت على خصوصيات المدن التي تتنفس تلك التجارب هواءها، ومنها تجارب في مراكش، الدار البيضاء وفاس أساسا.

وحين كان التعامل بالمقام الأول مع المؤلف عبد الكريم برشيد عبر 12 مسرحية وظفت فيها تقنيات الإعداد الدرامي بكل جرأة، من أجل التقليل من سلطة الأدب وذلك بفضل ما راكمت عبر القراءة والمشاهدة وحصيلة دورات تكوينية داخل المغرب وخارجه.

وقد أصبح الإعداد الدرامي من أبرز أدواتي التي شهد لي بالتميز فيها المتضلعون في معرفة الفرق بين النصوص الأصلية وحضورها في العرض.

فقد أوجدت موقعا لتراثياتي المحلية في تلك الأعمال، وفي أخرى مع مؤلفين منهم “عبد السلام الحبيب“، “بشير القمري “،”عبد الله شقرون“، “أحمد الطيب العلج“، “عبد السلام الشرايبي“، “سعد الله ونوس “،”عبد الإله بنهدار” ….

قد سعيت كثيرا إلى إثراءه فنيا وتقنيا، وبلوغ هذا المسعى لم يتحقق بالشكل المنشود، لإعتبارات في مقدمتها تزامن مرحلة خصوبة إنتاجاتي مع سياق إتسم بندرة المتخصصين في السينوغرافيا، هذا العالم الذي ستكتمل ملامحه ويتعدد محترفوه في المغرب منذ ربع قرن فقط.

وكبديل قد يحقق بعض التوازن، فقد أجهدت النفس من أجل الإشتغال داخل فرقة من الممثلين من نفس المدينة وأحيانا من نفس الحي، و دوما بنفس الميولات التراثية التي أظنها قد ساهمت في شيء من الإنسجام والتناغم كعنصر مميز، وذلك على مدار أكثر من ثلاثة عقود، مع التركيز في التشخيص على تقنية التباعدية التي هي من خصوصيات الفرجة التمثيلية المتوارث، إلى جانب تأطيرها وفق خلاصات أهم المدارس التي ميزت القرن 20 .

ومعلوم أن الزمن المغربي والعربي عامة، عرف في سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين حيوية تنظيرية للمسرح، واتسمت تلك الحيوية بإصطفافات بلغت سقوفا عالية من حدة التجاذبات، فكان مساري معنيا بإيجابية أو سلبية التعاطي النقدي، بحكم أن هذا المسار مصنف ضمن إختيار مسرحي معين، وقد يكون نفس التعاطي النقدي قد تم مع مسارات أخرى من إختيارات أخرى، في إطار الفعل وردة الفعل.

وأعترف، إني لم أقل لحظة إني أقدم مسرحا إحتفاليا، وإنما هو مسرح يتلمس بعض أدواته من هذا الإختيار. والأكيد أن كل إنجازات تلك المرحلة من مختلف الإختيارات تقر بأنها لا يمكن أن تكون أبدا هي الصورة المثلى تطبيقيا لإختيار نظري، مع التأكيد على أنني من جيل هضم كل المدارس نظريا، في غياب شروط الإحتكاك بها داخل مختبراتها.

لقد أتيحت لنا -وبإمكاناتنا الخاصة في جل المناسبات تقديم عدد من أعمالنا في عدد من البلدان العربية والأوروبية، وكم كنا نحس بالإنتشاء حين نرى أو نقرأ أو نسمع بعض الأصداء التي تفيد بأن الجمهور قد اكتشف معطيات عن خصوصيات مغربية في: النطق، في الدور المركزي للجوقة، في خصوصيات آلات العزف، في الإنشاد والغناء، في الأزياء في توظيف المنمنمات المغربية التي تعود إلى أوج الدولة الموحدية، وفي الشخصيات النوعية بحمولاتها التراثية، وفي السخرية من الموروثات التي تجر إلى الخلف.

هاته المقومات وأخرى كانت ناظمة لتركيبات أعمالي وبنسب متفاوتة طبعا، مع الحرص أولا على توفير آليات التواصل مع جل الفئات والأذواق دون إفراط في النخبوية، ولا تفريط في الجماهيرية.

لكن وبكل يقين شخصي فإن هاته الأدوات تم توظيفها بقناعة ضمن سياق أنتجه عمق معرفي، وهذا ماجعلني أفتت بعض الثوابت في الفهم السائد لبعض المفاهيم والقواميس الفنية التراثية، وحتى بعض المسلمّات، إذ حولت مجادلة ومناظرة مشاهد ومعطيات تراثية بلمسة أحيانا مشكِّكة، وأخرى مصحِّحة، وكان من الطبيعي أن يشمئز المحافظون من خلخلة موروثات يُضفون عليها الحرمة وربما القدسية.

هكذا تجلت في تقديري المتواضع لبنات اشتغالي، وقد وجد بعض هذا الإشتغال بعض صداه وأخفق بعضه في بلوغ ذاك الأثر..

ولن أجازف إذا قلت إن الأدوات التي اعتمدت، قد وجدت من إعتمدها قبلي، وأن جل الأسماء من جيلي قد تقاسمتها رغم القول بالإنتماء إلى هذا التيار أو ذاك.

وفي الختام، فان الأمر كله مختزل في عبارة” قل كلمتك وانصرف”، وأظنني قلتها، وأما مداها وصداها، فهذا مجال الآخرين.

 

 

أعتذر إن كنت قد قدمت نفسي بما هي ليست أهل له، وأعتذر لنفسي إن كنت قد غبنتها فيما هي أهل له.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock