نصوص

ننشر القسم الثالث والأخير من ملحمة الإسراء والمعراج للكاتب السوري الكبير عبد الفتاح قلعة جي


المسرح نيوز ـ القاهرة| نصوص

ـ

 

القسم الثالث والأخير من ملحمة الإسراء والمعراج.

 

في القسم الأول كانت زيارة محمد (ص) بيت المقدس والسموات ولقاؤه الأنبياء، وفي القسم الثاني كانت زيارته للنار، وفي هذا القسم زيارته للجنة ثم عودته إلى مكة. وهذه الجنة هي جنتي أنا كما أتصورها. أتمنى لكم قراءة ممتعة، وكل عام وأنتم بخير بعيد فطر سعيد.

 

 

    في مقام الفردوس
     
    (يعود محمد في الرفرف إلى السدرة حيث ترك جبريل في انتظاره)
جبريل : نَعِمْتَ برؤية ربك يا محمد.
محمد : لقد رأيت وسمعت ما لم يره أحد قط أو يسمعه، ولا خطر على قلب بشر.
جبريل : لقد بلغت مكانة لم يبلغها أحد من الأنبياء قبلك.
محمد : هل انتهت رحلتنا يا جبريل؟
جبريل : سنزور الجنة قبل العودة، هيا معي يا محمد. سترى الناس وهم مقبلون نحو أبواب الجنة الثمانية، وفيهم من قضى ما عليه في نار المطهر حسب ذنوبه فتطهر وصار مؤهلاً لدخول الجنة، وستراهم داخل رياض الجنة يمارسون حياتهم كأن لم يموتوا ويبعثوا.
    *   *   *
    (في الدرب إلى باب الجنة سهل منبسط، ثمة شجيرات متفرقة ونبع ماء تحتها، يلوح رجل متعب مرهق خارج من نار المطهر ، وهو يمشي تارة ويكبو أخرى ويلتفت بين الحين والآخر إلى الخلف ليرى مدى ابتعاده عن لسان النار الذي يلاحقه، وعندما ينقطع اللهب يجلس مطمئناً إلى صخرة في الدرب، ويلاحظ عن بعد شجرة ونبع ماء).
الرجل : تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله شيئاً ما أعطاه أحداً من الأولين والآخرين (ينظر فيرى شجرة وماء عن بعد) يا رب أدنني من هذه الشجرة أستظلُّ بظلها وأشرب من مائها.
    (تنار الشاشة وتسقط عليها كسر الكتابة كَسراً وترجمة مع الصوت التسجيلي المرافق)
الصوت : يا ابن آدم لعلي إن أعطيتك إياها سألتني غيرها؟
الرجل : لا  يا رب.
    (يحمله ملك فيضعه تحت الشجرة، يستظل، ويشرب فيرتوي ويستريح، يرى عن بعد واحة صغيرة وماء)
الرجل : يا رب، أدنني من هذه الواحة الصغيرة أشرب من مائها وأستظل بظلها، لا أسألك غيرها.
الصوت : يا ابن آدم، ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها، لعلي إن أدنيتك منها تسألني غيرها.
الرجل : لا يا رب.
    (يحمله الملك فيضعه تحت شجرة في الواحة، يستظل، ويشرب فيرتوي ويستريح، يرى عن بعد شجرة أمام باب الجنة ونبع ماء)
الرجل : يا رب، أدنني من هذه الشجرة أستظلُّ بظلها وأشرب من مائها.
الصوت : يا ابن آدم ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها؟
الرجل : بلى يا رب .. لا أسألك غيرها.
    (يحمله ملك فيضعه تحت الشجرة، يستظل، ويشرب فيرتوي ويستريح، ويستعيد قواه، ويسمع أصوات الناس من وراء الباب في الجنة، ينظر من خلل الباب ثم يخاطب الرب)
الرجل : يا رب، أرى وراء الباب روضة غناء ومياه  وناساً وجسمي مازال عليلاً، أدخلنيها فأستكمل شفائي من النار.
الصوت : يا ابن آدم ما يقطع سؤالك عني* (الرجل صامت ومحرج) أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟
الرجل : (يقفز) يا رب؟؟ أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟
الصوت : (يضحك) إني لا أستهزئ ولكني على ما أشاء قادر.. افتح له يا رضوان باب الجنة ليدخل.
    (يُفتح الباب، يبرز رضوان مرحباً)
رضوان : أهلاً بك، “ادخلوها بسلام آمنين”.
    (يهرول الرجل راكضاً ويدخل الجنة، يقف رضوان أمام الباب متفحصاً إن كان هناك شخص آخر، يرى من بعيد شاباً مندفعاً وهو يركض باتجاه الباب حاملاً كيساً فيه بعض الكتب، يهم رضوان بإغلاق الباب،يندفع الشاب وما تزال على جسمه آثار حروق، يضع رجله بين درفتي الباب).
الشاب : أدخلني الجنة يا رضوان.
رضوان : (يكلم الشاب من شق الباب) كيف أسمح لك بالدخول ولم يصلني اسمك بعد يا عبد الله.
الشاب : وهل نجاني ربي من النار كي أجلس في العراء أمام الباب كنازح متشرِّد، أما كفاني أنني في الدنيا عشت ما بين السجون والخيام نازحاً علي الحدود بسبب تلك الحرب اللعينة؟
    (ينار جدار الزمن ليعرض مشهد لنازحين من الحرب على حدود دولتين، وخيامهم متفرقة يتجول بينها بعض أطفال ونساء ورجال بائسون وعاصفة ثلجية تضرب المكان، وترى في لقطة قريبة الشاب مولياً ظهره ثم يلتفت وعلى ملامحه حزن أليم)
رضوان : أنا أرثي لك، ولكنني عبد مأمور، ابق أمام الباب وعندما يصل اسمك سأناديك.

(يكاد الباب يغلق)

الصوت : افتح الباب يا رضوان وليدخل عبديَ الجنة.
رضوان : (رضوان يفتح الباب مرحباً) أهلا بك..”ادخلوها بسلام آمنين”، ولكن قل لي: ماذا في هذه الجعبة التي تعلقها في كتفك؟
الشاب : بضعة كتب هي ما تبقى من مكتبتي التي أحرقها المتقاتلون على السلطة.
    (الرجل يدخل مسرعاً، رضوان يغلق الباب. الرجل يسير منبهراً بالمروج الخضراء والأشجار المثمرة وجداول المياه، يتطلع فيرى قصراً منيفاً على رابية زاهرة)
الشاب : الحمد لله الذي نجاني من النار، ومن حياة الخيام والجوع والشقاء. يا رب..أعطني هذا القصر أنس به شقائي.
الصوت : لعلي إن أعطيتكه سألتني غيره.
الشاب : لا يا رب، لا وعزّتك لا أسألك غيره.
    (يحمله ملك إلى القصر المؤثث بكل ما هو باهر ونفيس، يتجول في غرفاته، يخرج ويقف أمام باب القصر، وهو يشعر بالوحدة)
الصوت : لمَ أنت حزين يا عبدي، أتريد أن أعطيك قصراً غيره أكبر وأعظم.
الشاب : لا..  يا رب.. لقد أسبغت عليَّ كرمَك، ولكن ما ينفعني قصر عظيم منفرد عن الناس، وأنا الذي نذرت نفسي لخدمة الناس، كنا في الدنيا نقول” الجنة بِلا الناس ما تِنداس”.. ألحقني بالناس يا رب.
    *   *   *
    (باب الجنة مغلق، يصل مجموعة من الأطفال الصغار وهم يدورون ويرقصون في حلقة ويغنون)
الأطفال : دور دور يا عصفور      فاطمة بنت الرسول

شايلة تمر حنّة*    في طريقا للجنة

مكتوب ع باب الجنة    باب الجنة للشطار

وباب النار للكفار

(يطرقون الباب وهم يرقصون ويغنون على إيقاع الطرق)

افتاح افتاح يا رضوان   نحن متنا ولسا زغار

افتاح   الباب وفرجينا   على  آباءنا  ودّينا

افتاح الباب يا رضوان

افتاح الباب يا رضوان

افتاح

افتاح

رضوان : (يفتح الباب) ما هذه الضجة يا أطفال؟
الأطفال : هذه ليست ضجة، هذا غناء.
رضوان : حسن، ادخلوا الجنة أنتم صغار ولا حساب عليكم.
الأطفال : وآباؤنا.
طفلة1 : هل نلتقيهم في الجنة؟
رضوان : تلتقون بعضهم، لأن الآخرين عليهم ذنوب وسيئات فهم يحاسَبون عليها ويطالَبون بها.
طفل1 : لن ندخل إذا لم نجد آباءنا في الجنة.
طفلة1 : نعم لن ندخل. كنت عائدة من المدرسة وأنا أمشي على الرصيف أصابتني رصاصة متفجرة في تلك الحرب الأهلية القذرة، وظلت أمي تبكي عليَّ سنوات.. صَبَرت على فقدي.. لن أدخل الجنة بدونها.
طفل2 : وأنا حين نزحنا بسبب تلك الحرب، وركبنا أحد زوارق الموت ناجين بأنفسنا، غرق المركب، وظل أبي يبحث في الشواطئ عني لعلَّه يجد جثتي. وكنت أرى دموعه تنفر من عينيه. لن أدخل ما لم يدخل أبي معي.
طفل3 : ولدت متوحداً وكانت أمي وأبي عالمي الوحيد الذي أعيش فيه، قضى عليَّ الصمت والحزن من أجلهما، أما وقد شفيت اليوم أريدهما معي الآن ليفرحا بي.
طفلة 4 : سنوات ووالداي يسهران من أجلي، وكان السرطان يأكل جسمي قطعة قطعة، لا.. لن أدخل الجنة ما لم يدخل والداي.
طفل3 : لقد صبر آباؤنا على فَقدنا رجاءَ الثواب عن ذلك اليوم.
الأطفال : لن ندخل ما لم يدخل آباؤنا..

(في أداء إيقاعي محبب)

لن ندخل..لن ندخل..

يا رضوان.

رضوان : يا رب، هؤلاء الأطفال يرفضون دخول الجنة إلا مع آبائهم وأمهاتهم.
الصوت : أحضروا لهم آباءهم وأمهاتهم وليدخل الجميع.
رضوان : ادخلوها بسلام آمنين  أنتم وآباؤكم.
    *   *   *
    (فضاء السيكلودراما مشهد بانورامي للجنة برياضها وأنهارها وقصورها وأكواخها وشوارعها وحركة الناس فيها وهم يعملون ويمارسون نشاطاتهم المتنوعة،

تحت ظلال الأشجار أناس يتسامرون، وآخرون يمرحون ويرقصون، أو يتناولون  الطعام. وبعضهم يقرؤون ويكتبون، ومن الشرفات تطل فتيات وفتيان رائعو الجمال  يتبادلون كلمات وإشارات الغزل. وعلى ضفاف نهر الكوثر صيادو السمك وبعض المقاصف المزودة بأرائك ومتكآت وعلى الطاولات كؤوس المشروبات المتنوعة.

يعبر الشوارع والحارات ملائكة بوجوه جميلة وأجنحة ملونة، وفتيات يلبسن الثياب الرقيقة يكشفن عن مفاتنهن.وجنيات يراقصن الشباب من جنسهن.

 لا يختلف هذ المشهد في الفردوس عن الطبيعة والحياة في الأرض إلا أنه أكثر جمالاً وسلاماً وهدوءاً ونعومة وكأن المرء في حلم ملوَّن جميل.

وبالتوازي على خشبة المسرح تجري مشاهد حية محددة هي استكمال لمشاهد الشاشة)

    *   *   *
    (فضاء المسرح. بضعة أشجار وطبيعة جميلة على المسرح هي امتداد لمشهد الشاشة، عالم سحري بأضوائه وظلاله وأشكاله. بعض الأفراد يمرون في خلفية المنظر بشكل عفوي ويخرجون. الشاب على خشبة المسرح /وهو الشاب نفسه الذي رأيناه يدخل عنوة إلى الجنة/  يدخل حاملاً جعبته على كتفه، يختار شجرة ويجلس تحتها، يتناول من الجعبة كتاباً ويقرأ، تدخل فتاة شابة هي زوجته السابقة، نرى مشهد لقائهما أيضا على الشاشة متوازياً مع مشهدهما على الخشبة)
الفتاة : (تنظر إليه وتتعرف زوجها السابق) أما زلت تقرأ؟
الشاب : (ينظر إليها ويتعرفها) من؟ طليقتي؟
الفتاة : (ممازحة) نعم طليقتك، الحمد لله الذي نجاني منك كما نجاني من النار.
الشاب : وهل الذي تزوجتِه بعدي كان أفضل؟
الفتاة : لا..صرت أقول: الله يرحم النباش الأول*. كان رجلاً جاهلاً فظاً دعيّاً، أرخى ذقنه ليحتال بها على الناس.
الشاب : صرت تترحمين عليّ. ألم أقل لك إذا طلقتك ستندمين؟
الفتاة : كلا.. لم أندم، كانت مخالعةً بالرضى، نصفُ حياتك معي قضيتَها في السجون السياسية، ثم أصررت على الهجرة والنزوح، وأنا أكره الدخول في المجهول.
الشاب : كنتُ صاحبَ رأي وموقف. ولكن هذا يعني أنك ما زلت تحبينني.
الفتاة : آااا.. ربما.. وأنت؟
الشاب : بعدكِ صرتُ حصوراً وما عادت لي رغبة في النساء.
الفتاة : (تظهر السرور لعبارته) وهذا أعمق الحب.. حسنٌ، والآن؟
الشاب : الآن كما أنا وكما كنتُ.
الفتاة : لعلك طامع في إحدى الحوريات، إنهن شديدات الإغراء.
الشاب : وأين الحوريات؟ إنهن مجرد صور جميلة ملونة.
الفتاة : آراؤك دائماً شاذة وغريبة، أنت لم يبدلْك الحساب والعقاب ولا الجنة.
الشاب : اسمعي يا منى، استباحنا الغزاة وأثاروا الحروب والفتن، كلٌّ كان يطمع في أن يحصل على حوريات يضاجعهن بعدد من يقتل، وإذا قُتل سموه شهيدا ويحق له أن يستبيح كل من في الجنة من الحوريات.
الفتاة : لا أدري وأنت على هذه الأفكار كيف غفر الله لك وأدخلك الجنة؟
الشاب : الله محبة وغفران ومرحمة وليس كما يصورونه سادياً يتلذذ بتعذيب عباده.
الفتاة : أنت لم تتغير عما كنت، ربما هذا جانب من دواعي حبي لك.
الشاب : هاااا ها أنت تعترفين بأنك ما زلت تحبينني.
الفتاة : والآن كيف ستكون العلاقة بيني وبينك يا مراد.
الشاب : ستكونين صديقتي، صديقة فحسب، وبما أنكِ دخلتِ الجنة قبلي، وأنا دخلتها للتو،  فأنت تعرفينها جيدا، ستكونين دليلتي في زيارتي وتجوالي فيها.
الفتاة : يعني دليلة سياحية!
الشاب : وصديقة حبيبة أيضاً.
    *   *   *
    (إظلام سريع وبقعة ضوء على الشاب معلقاً جعبته على كتفه مع الفتاة)
الشاب : إلي أين الآن يا صديقتي؟
الفتاة : إلى مجلس المهدي، وهذا ملائم لتوجهاتك السياسية التي أرهقتني وفصلتني عنك.
الشاب : هذا الذي يقولون: إنه سيأتي ويملآ الدنيا عدلاً بعدما ملئت جوراً… ها.. أعتقد أنه مجرد حلم.. حلم الفقراء والضعفاء والمقهورين.
الفتاة : ستراه بنفسك وتحدثه.
    (إضاءة على مجلس المهدي وهو بين صحبه وفي يده عصا)
المهدي : أحدثكم عن الثورة، وعن إرهاصة الثورة، وكان الظلم ألواناً وأزماناً.

أباطرةٌ وَلَغوا في دماء شعوبهم، وشعوب أنهكها الفساد والقهر والاستعباد.

الشاب : وجئت أنت .. هل حقاً جئت؟
المهدي : أراك مشككاً يا صاح.
الشاب : لست مشككاً، ولكني قرأت أن لكل أمة تعاني من الظلم والقهر مهديُّها المنتظر، قلت لعل ذلك من اختراع الحكام أنفسهم  كي يخضع العامة فلا يثوروا وينتظروا المخلص.
المهدي : ولكني أتيت حقاً.
الشاب : ومن أين أتيت؟
المهدي : أتيت من الحقول الغاضبات لظىً، غرست عصاي في حلق الدم المهدور، صاح الناس: جاء محمد* من أَبْهرٍ مقطوع، ومن إرنانة الموجوع، أتى ليبعثر الأرماس.
الشاب : يبدو أنك شاعر أيضاً.
المهدي : بل أنا قائد ثورة.
المجموعة : عاش المهدي المنتظر.. عاش.. عاش.
رجل1 : وثار العامل.. الفلاح.. والفقراء.
رجل2 : شبت ثورة البؤساء.
رجل3 : ومن باعوا إلى السلطان أحرفهم لواهم حافر التاريخ.
رجل4 : ومن باعوا الشعوب بزائف الدينارْ

على أرماسهم رقص الدم الفوّار

المهدي : هوى فرعون، هوى النمرود، هوى قيصر.. وعاش الشعب
المجموعة : عاش الشعب.
الشاب : مالكم متحمسون هكذا؟ كأن بكم لوثة! أما زلتم تحملون شعاراتكم المحنَّطة معكم !؟ الشغب والمظاهرات والشعارات السياسية ممنوعة في الجنة (للجميع مبتسماً) اهدؤوا.. ها قد ثُوِّبتم بجنة “لا تحسبن” (يجر الفتاة من يدها وينسحب بسرعة)

(إظلام سريع)

    *   *   *
    (بقعة ضوء على الشاب وجعبته على كتفه والفتاة)
الفتاة : لماذا جررتني من يدي وهربت؟
الشاب : خفت على نفسي منهم، هؤلاء ثوار مجانين قد يكفرونني ويُحلون دمي.
الفتاة : إن بقيت هكذا أعتقد أنك ستطرد من الجنة كما طرد آدم.
الشاب : مادمت معي ياااا طليقتي فلا بأس بذلك. لساني يسبق أفكاري،كان يجب أن يشرِّعوا ختاناً للسان.
الفتاة ةأة : رغم عيوبك الكثيرة فأنت صاحب دعابة.
الشاب : حسن والآن إلى أين تسوقينني؟
الفتاة : (تبتسم) أسوقك! وهل أنت غنمة؟
الشاب : جمالك هذا، والثوب الأخضر الفاضح الذي ترتدينه يغريني بأن أكون غنمة أرعى عند ذيل ثوبك.
الفتاة : يا للهول! أتحبني كل هذا الحب؟
الشاب : لا تعجلي، أنت تغريني فقط.
الفتاة : سنزور منزل رابعة العدوية في الجنة.
الشاب : وهل في الجنة متصوفات أيضاً؟ حسبت أن الجنة مكافأة إمتاعية لمن تعبَّد واتقى في الدنيا.
الفتاة : سترى، وحاول أن تقصر لسانك الطويل.
    *   *   *
    (إضاءة. رابعة العدوية تلبس ثوباً زهرياً شفيفاً يكشف عن صدرها وساعديها وهي أمام المرآة تتزين وتمشط وترسل شعرها على كتفيها. يدخل الشاب والفتاة)
الشاب : نعمت بالجنة يا رابعة.
رابعة : ونعمت أيضاً. من أنتما؟
الشاب : أنا واحد من عباد الله منَّ الله علي برحمته وأدخلني الجنة، وهذه كانت طليقتي في الدنيا.
رابعة : يبدو أنك ما زلت تحبها.
الشاب : ليس كحبك أنت بعد أن قرأت أشعارك حتى إنى أحتفط بها هنا في جعبتي.
رابعة : هذا يسعدني.
الشاب : يا رابعة ألست القائلة:

أحِبُكَ حُبَيْنِ حُبَ الهَـوىٰ*وحُبْــاً لأنَكَ أهْـلٌ لـِذَاكَ

فما هو حب الهوى، وهل وجدت في شباب أهل الجنة مثل هذا الهوى؟ وإلا فلمن تتزينين؟

رابعة : يبدو أنك شابٌّ مشاغب بأسئلتك هذه. أما الزينة فإن المرأة تتزين لمن تحب أو تزور وكانت عائشة أم المؤمنين تتزين لمحبوبها رب العالمين عندما تزمع الحج. أما حب الهوى فلكل مقام مقال يختلف في الأرض عما هو في السماء.. لا تنس أننا في الجنة حيث تتوفر فيها كل موجبات السعادة وما كنا محرومين عنه في الدنيا الفانية.. ولكنك شاب مازلت غِراً وتحب أن تصطاد في الماء العكر.
الشاب : ولكنكِ قلت:

عرفت الهوى مذ عرفت هواك*وأغلقت قلبي على من عداك

يبدو لي أن قلبك اليوم منفتح على من عداه.

رابعة : نحن في الجنة، ونحن على مائدة الرب، وأي هوى آخر إنما هو من طعام الحبيب.
الشاب : ألم تقولي: إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، ولكنك رب تستحق العبادة. فأين هذا مما أنت فيه الآن.
رابعة : وما زلت على قولي، ولكنها الجنة اليوم بسعاداتها، هبة الله للمتقين، ومن يرفض هبات الرب فإنه لا يستحق القرب.
الفتاة : (لرابعة) سيدتي أنا آسفة، صديقي هذا كثير الأسئلة، وأسئلته استفزازية، لكنه طيب القلب، إنه حديث عهد في الجنة وأخشى أن تكون هذه الجعبةُ التي يحملها وما فيها من أفكار وكتب السببَ في طرده من الجنة. (للشاب) هيا يا مراد.

(يخرجان، ورابعة تعود للتزين وعلى وجهها علامات حيرة).

    *   *   *
    (الشاب والفتاة تحت بقعة ضوء)
الفتاة : أنت تحرجني يا مراد، ما كان لك أن تحاور المهدي وتسأل رابعة بمثل هذا؟
الشاب : ولم لا..؟ هنا كل شيء مطلق، لا حدود له، المعرفة، الحرية، الجمال، الحب، السعادة.. هذا فحوى القول في ” مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر”.
الفتاة : أنت محاور داهية كما عهدتك في الدنيا، أراك ستغير قناعاتي.
الشاب : ومن ذا الذي يا صديقتي لا يتغير، حتى ونحن في العاجلة كنا كل لحظة في شان. الجنة خلود ولكنها ليست ثباتاً ولا تكراراً وإلا فقدت معناها ومتعتها، إنها فقط جدلية إيجابية في طريق سعادتنا التي هي في عين الله.
الفتاة : كنت أحسبك مشاغباً وتجدف.
الشاب : كلا.. أنا الآن مفعم القلب والعقل بالإيمان وبحب لا يحدّ. والآن إلى أين ستقودينني؟
الفتاة : إلى روضة العشاق حيث الشعر والحب والجمال.
    *   *   *
    (إضاءة. روضة غناء وفي ظلال الأشجار وعلى ضفاف جداول منسابة، يتوزع فيها الناس مثاني وجماعات، عشاقاً وأسراً متحابة وأطفالاً يلعبون، وفي عرزال على شكل زهرة كبيرة يجلس عاشقان “هو وهي” يتناجيان)
هو : وتعزف عيناك لحناً رضيَّ السجوِّ فأغرق في ثبج النغمة الحانية

هما الكوثر العذب.. وافرحتاه!

فقد كنت أخشى بأن لا أراك هنا في الجنان.

هي : أحن إلى نثرات الشجى يوم كنا هنالك في الفانية

فتاتُ التألم لو تستفاد

ليالي التأرِّق لو تستعاد

لو أن التباريح تعصف في سا كنات الجنان فأبكي، ألملم دمع الفراق

هنا كل شيء متاح

هنا لا يكدِّر صفو الحبيب الجفا والبعاد

لو أنّ.. آه

لقاء. يليه لقاء.. بعمر الجنان.

تأزَّل إحساسنا باندهاش التواصل، والفرح السرمديّ

(ينزلان من العرزال ويسيران يتبادلان ذكريات أيامهما في الدنيا الفانية)

هو : وقبل التقينا على شاطئ الكون، كان الزمان غريضاً.
هي : وكنا يغلِّفنا الستر والشوقُ
هو : كنا حبيبين باعد ما بيننا الأهل
هي : غريبين كنا عن السائد القبليِّ نعيش انعزال التوحُّد، كنا قناعين، كنا بعيدين رغم التواصل، ما بيننا حائط من رفات الكلام، ِ التقاليد، الرواسب، عرف الظلام.
هو : وها قد عبرنا من العاجلة.. إلى الآجلة.
ه : (تقوده من مكان إلى مكان وكأنهما ما برحا الأرض)

تبصر حبيبي

هنا كان مرتعنا والشباب

رعينا شياه القبيلة

وفي الزمن الآلة التهمتنا المصانعُ، ثم غزتنا الحروب.

هو : رويدك.. هل تذكرين

إذا ما سجى الليل نمسح أتعابنا، ونجمع في سلة الصمت بعض النجومِ

وعند انسيال السحور، نبعثر تلك النجوم على شاطئ الفجر.

هل تذكرين؟

هي : أما زلت قَبْضَ الخيال، وتقرض شعر المحال؟
هو : بل الأرض عادت لنا جنتين، تشابه وجه الوجودين، هذا هو الحلم السرمدي لتوق الحياة، وعاد إلى الكون وجه الحياة القديم-الجديد، وعاد السلام هنا في الجنان، وصرنا نعيش بلا أقنعة.
هي : هنا تخلع الأقنعة، يعود إلى المرء وجه الجمال الدفين.
    *   *   *
    (بقعة ضوء على الشاب والفتاة)
الشاب : هذا اللقاء بين العاشقين أعجبني، ذكرني بالقصائد التي كنت أكتبها.
الفتاة : مازلت أحفظ بعض قصائدك لي أيام الخطبة.
الشاب : ذكريني بإحداها، فليس في هذه الجعبة شيء منها.
الفتاة : لعلك أتلفتها بعد أن حدث الفراق بيننا.
الشاب : كلا.. ولكن ديواني غرق في البحر حين انقلب بنا زورق الموت.
الفتاة : أحاول أن أتذكر واحدة منها (تصمت وتفكر) كانت ليلة باردة حين التقينا وقرأت لي هذه القصيدة.

لوجهك أشرعت فلكيَ في المستحيل

وجئتكِ ممتطياُ صهوة الليلة الباردة

لوجهكِ، للنور يمطر من وجنتيكِ

تزودت من سكَّر الذكريات

وأبحرت في لجة الشوق

أبحث عن شاطئ

أنت فيه المنارة والفلك والبحر

أنت الزمان

وأنت المكان

الشاب : يا للهول.. كم كنت أحبك يا فتاة.
الفتاة : هه.. ثم ركبت البحر وتركتني!
الشاب : دعيني من العتاب الآن، ولا تفسدي عليَّ اللحظة، نحن في الجنة، لا زعل ولا عتاب، وقولي إلى أين تأخذين حبيبك الآن.
الفتاة : ها أنت يزل لسانك وتعترف بالحب، ولكن هل أنا بالنسبة لك حبيبة أم طليقة أم صديقة؟
الشاب : أووه.. كفّي عن محاصرتي.. هذه في الجنة كلها مترادفات، ألا يكفي أنني فضلتك على أية حورية عيناء، تضج بالإغراء، لتكوني مرافقتي في هذه الجولة؟
الفتاة : (تضحك) ثعلب لغوي مراوغ، أوتيت جوامع الكلم. سنزور جزيرة الحوريات وننتظر وصول الوفد الأركب.
    *   *   *
    (فضاء السيكلودراما.على الشاشة، تتلألأ الجزيرة بالأضواء، في التلال المحاذية للشاطئ مشاعل وحفلة ألعاب نارية، ومن  السماء تتساقط الشهب المضيئة، وأصوات الموسيقا تصدح، والحوريات يطللن من شرفات منازلهن التي تغمرها الأضواء الملونة. على الشاطئ جمع من الحوريات في أيديهن المناديل البيض ينتظرن وصول مراكب العشاق، تلوح القوارب بأنوارها عن بعد فيبدأن التلويح للرجال بالمناديل وينشدن:
الحوريات : (المشهد على المسرح)

تعالوا.. تعالوا

يا أيها العشاق

نحن الحوريات

نحن الخالدات فلا نبيد

ونحن الآمنات فلا نبْأَس

ونحن الراضيات فلا نسخط

طوبى لمن كان لنا وكنا له

    (متابعة للمشهد على الشاشة. ترسي المراكب على الشاطئ، ينزل الرجال، ويختار كل واحد منهم حورية يعانقها فتربط منديلها حول عنقه، وينتظم الجميع في حلقة رقص مفعمة بالموسيقا والغناء).
الرجال : (فضاء المسرح. الرجال يغنون ويرقصون مع الحوريات)

سارت بنا أشواقنا

أرست مراكبنا على الجزيرة

ويالها جزيرة نضيرة

في قلبنا أمنية كبيرة

بأن تكونوا خيرة الأزواج

ومهركم أعمالنا

الحوريات : (يغنين ويرقصن مع الرجال)

يا أيها الزوار

يا أيها العشاق

نحن الحوريات العين

نحن الخالدات فلا نمتنه

ونحن الآمنات فلا نخفنه

ونحن المقيمات فلا نظعنَّه

طوبى لكم بنا، ولنا بكم

يا أيها العشاق

    (ينفض الرقص ويسير الأزواج إلى منازل الحوريات في سعادة غامرة)
    *   *   *
    (إضاءة.بقعة ضوء على الشاب والفتاة)
الشاب : كان مشهداً مسرحياً رومانسياً جميلاً. مراكب تصل، حوريات يلوحن بالمناديل، ثم يتخاصر الجميع للرقص. حب يُختصر بالوصال، لا مناجاة، لا معاناة، لا فراق، لا لقاء، لا تهاجر، لا عزول، حتى ولا حب من النظرة الأولى… كان الحب في الأرض أجمل.
الفتاة : اتق الله يا رجل، أنت في جنة الثواب، يبدو أنك تخرجت من النار وما يزال لديك شيء في حسابك.
الشاب : مجرد مقارنة، هل هذا ممنوع، هذه جنة الثواب، هذا صحيح، وحرية التعبير أيضاً، أما كَفَتنا الممنوعات ولجم الأفواه في الأرض التي أرهقتنا وساقتنا إلى السجون والتشرد؟
الفتاة : لماذا لا تعود إلى الأرض مادمت معجباً بحياة الشقاء والذل؟
الشاب : للأسف لم يعد هنالك أرض “يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات”.
الفتاة : إذن عليك أن تعيش حسب القوانين الجديدة، ألا تعجبك كل هذه التسهيلات في الجنة، ألم تُغْرك جزيرة الحوريات بالمشاركة في الرقص والحب المباح.
الشاب : منى، هل الحوريات من لحم ودم؟
الفتاة : طبعاً، ولم هذا السؤال؟
الشاب : أخال أنهم مجرد رسوم على الورق؛ إذ لا أب لهم ولا أم، أو أن جبريل نفض جناحيه فتساقطت منه الحوريات. نحن نعيش وهماً لذيذاً ولكن كمن يضاجع الهواء.
الفتاة : كفى يا مراد، أنت رجل ما زلت سفسطائياً، لم تتخلص بعد من لوثة الدنيا. هيا ولنذهب إلى سوق الجنة محطتنا التالية.
    *   *   *
    (فضاء السيكلودراما. على الشاشة مشهد بانورامي سينمائي لسوق الجنة الرئيسي وتتفرع عنه أسواق جانبية، وجميعها مسقوفة بسقوف وقبب عالية من الياقوت والزمرد، تزيدها الأضواء الموزعة جمالاً، المحلات التجارية على جانبي السوق، وهناك استراحات كمقاه لشرب القهوة والشاي والعصائر، وحركة البيع والشراء وتبادل البضائع قائمة، والأسواق ذات اختصاص،  ورواد السوق يشكلون مهرجاناً كرنفالياً احتفالياً بألبستهم المتنوعة والفولكلورية حسب جنسياتهم، وهناك أطفال ونساء وحوريات وملائكة يتجولون ويبيعون ويشترون، إنها تشبه إلى حد بعيد أسواق حلب التاريخية المسقوفة وهي أجمل وأطول أسواق في العالم لكنها أكثر بهاء وأنساً وجمالاً.

يلاحظ بين المارة في السوق الشاب والفتاة وهما يسيران متخاصرين).

    *   *   *
    (فضاء المسرح والسيكلودراما بالتوازي.

على المسرح يدخل المنادي لابساً القنباز الطويل المقصب، ومعمماً بعمامة خضراء، وفي يده طبلة كطبلة  مسحر رمضان يقرع عليها وينادي متنغماً، ونرى صورته وحركته على الشاشة في المشهد السينمائي وهو يعبر الأسواق وينادي بالتوازي مع مشهد المسرح).

المنادي : (في دائرة ضوء المتابعة)

وحِّدوه

فاز ونجا من وحّد الله

نوح الحمام على الغصون شجاني   ورأى العذولُ صبابتي فبكاني

إن الحمام  ينوح  من ألم  النوى     وأنا   أنوح  مخافة  الرحمان

وحِّدوه

يا أهل الجنة

فتح السوق وجاء الزوّار

وعلت أصواتُ الباعةِ

وازدحم الشارون

أهلاً بكمُ

النقدُ اليوم العملُ الصالح.

وعلى الحصّالات ملائكة

كتبوا نُثَرَ الأعمال

لا نقدَ اليوم سوى

ما تحمله من إيمان أو خير أو حب

لا نقد سوى نقدِ الذات

وحّدوه

فاز ونجا من وحّد الله

(يخرج)              

    (على المسرح، الشاب والفتاة يتطلعان باتجاه الشاشة مستمتعين بمناظر السوق، وبالتوازي نشاهدهما في ركن الشاشة وهما في الوقفة نفسها. تدخل المسرح بائعة الصور وهي تحمل لوحات فنية على عربة كمعرض جوال)
بائعة الصور : لوحات فنية

لمشاهير الرسامين

إن شئت تزيِّن جدران القصر بها

أو شئت دعوت الصورة صارت حورية

جسداً دَفِئاً ذا حيوية.

الشاب : فنانة وشاعرة أيضاً يا صبية!

حوريتي معي، لست بحاجة إلى حورية ، هات أرني ما لديك.

بائعة الصور : بعض هذه اللوحات من رسمي وبعضها الآخر لفنانين من الجنة. (تعرض إحداها) في هذه اللوحة نهر الكوثر، وعلى ضفتيه الأشجار، والعشاق.(تعرض لوحة أخرى) وهذه لوحة لقصر من قصور المقربين الذين اختصهم الله بالحب والقرب . (لوحة أخرى) وهذه لوحة لمنازل الشهداء، بيوت من دم الياقوت والمرجان، مساكن من أقاموا دولة الإيمان. (لوحة أخرى) وهذه لوحة للأنهار الأربعة، هذا نهر العسل المذاب والحوريات يقدمنه للرواد في كؤوس من الياقوت الأحمر, وهذا نهر اللبن يحب أن يشرب منه الأطفال، وهذا نهر الخمرة من كروم في الجنة، إنها خمرة لم تعتصر، خمرتها تصقل الفكر ولا تسكر،  وهذا نهر الماء، مياهه ترياق مقدس، يستحم فيه الناس فيتجدد شبابهم.
الشاب : اسمعي أيتها الفاتنة، هل عند رسوم للأطلال وبعض الآثار؟ أنا من هواة الأطلال وكانت تفتنني قصيدة الشاعر التي يصف فيها طللاً دارساً ويقول:

لقد تَعِبَت منه كفُ الدمار   وباتت تخافُ أذى لمسِه

هنا ينفض الوهم أشباحَه    وينتحر الموت من يأسه*

بائعة الصور : كلا.. لا يوجد عندي، هنا الجنة يا سيدي، لا أطلال ولا آثار. عالمَ جديد لا يعرف الزمن ولا البِلى.
الشاب : إذن شكراً لك، لا حاجة لي عندك.
بائعة الصور : (في استغراب وأسف) أنت وما تهوى (تمضي خارجة)
الفتاة : لو كنت اشتريت منها لوحة وجبرت خاطرها.
الشاب : أنا أشتري ما يعجبني. (يخرجان)
    (يدخل فتى وسيم يسوق أمامه دولاباً علق فيه بعض الثياب النسائية للبيع، يتوقف في منتصف المسرح منتظراً أحد الشارين، تدخل امرأة زنجية تحمل محفظة في يدها وترتدي ثوباً أبيض أنيقاً)
الزنجية : سلاماً أيها الفتى  الوسيم.
الفتى : سلام الله عليك يا سيدتي.
الزنجية : (تتفحص شالاً أصفر في البضاعة) زوجي أعجبه الثوب وقال: ينقصه شال أصفر.
الفتى : هو ملك يديك.
    (تنتحي جانباً وتضع الشال على كتفيها وتتناول من المحفظة مرآة وترى كيف يبدو عليها. تدخل صبية شقراء مندفعة نحو الفتى)
الصبية : يا حسنا خلَّده الله، انقطعت أنفاسي وأنا ألحق بك.
الفتى : لبيك وسعديك، يا فاتنة الجنة يا شقراء، ماذا تأمرين؟
الصبية : أترى ذاك الثوب تلبسه الزنجية؟
الفتى : حلاّه اللابس، ذاك رداء أناس رفع الله منازلهم. هي في علّيين.
الصبية : أهوى ذاك الثوب الأبيض، بعني أدفع من صالح أعمالي.
الفتى : (ينتقي لها ثوباً مشابها) هذا ثوبك يا فاتنتي، لا يحزن في الجنة أحد.(يخرج)
الصبية : (للزنجية) يا قطعة ليل

كيف رقيت إلى علّيين؟

الزنجية : لولا الليل، يا شقراء

ما كان نهار

نحن المضطهدين

يرفعنا الله إلى منزلة القرب.

الصبية : هل يعلوكم أحد؟
الزنجية : يعلونا من أعلن ضد الظلم الثورة

الجنة يا أمَةَ الله مراتب

أعلاها رسل الله

ثم الصدّيقون

ثم الشهداء.

(تخرجان)

    (تدخل ثلاث جنيات وهن يتراشقن كرة بالأيدي ويغنين، الجنيات يلبسن الأحمر الناري، ويزينَّ رؤوسهن بالزهور، ولهن أجنحه قصيرة، فهن على شكل فراشات)
الحنيات : (يغنين)

نخن الجنيات

نلعب نلهو

نتشكل مثل ملائكة الله

ندخل أرض الجنة

.   .   .

نحن..نحن الجن

مخلوقات من نار قدسية

من قال بأن النار

لا تدخل في الجنة؟

أو قال بأن الجنة

لا تدخل في النار؟

.   .   .

نحن الجنيات

من يعشقنا

إنسياً أو جِناً

لا بد وأن يحترق بنار العشق

ويسافر في رعش الوصل الأقدس

فالعشق هو الجنة

والعشق هو النار

نجمع فينا الجنة

نجمع فينا النار

نحن الجنيات

    (يدخل بائع ألعاب فيتجمعن حوله)
جنية1 : ما عندك من ألعاب يا أيها الفتى الوسيم، فقد مللنا من لعب الكرة؟
جنية2 : أنت وسيم حقاً.. هل تتزوجني؟
جنية3 : أنت أنانية يا صديقتي. اختر واحدة منا، وأنا الأفضل.
البائع : (يبتسم ممازحاً) أنتن في الفِراش مثل النار (يضحك) بل أنتن النار، ستحرقنني وأنا إنسي من لحم ودم وطين. وإذا لج بي الغرام ستتشيطنَّ كعهدكن وتطرن بأجنحتكن إلى عاشق آخر وتتركنني وحيداً مع وسادة خالية.
جنية2 : (يتضاحكن) إذا أحببتنا سنبرد أجسامنا بنهر الكوثر ونخلع لك أجنحتنا.
البائع : (يتناول من عربته قوساً وسهماً) سأبيعكن هذا القوس؟
جنية1 : وما نصنع به؟ هذا ليس لعبة، ونحن لا نهوى الصيد.
البائع : هذا القوس اسمه لعبة الحب، إذا رأيتن شاباً أَعجب إحداكن فلترمه بهذا السهم فإن أصاب قلبه هام بها حباً وصار لها زوجاً، ثم تسلِّم القوس لصاحبتها وتغادر هي اللعبة.
جنية1 : (تأخذ القوس) أووه الحب لعبة، وهذا سهم كيوبيد. شكراً أيها الفتى الوسيم.
البائع : (يسوق عربته خارجاً) وداعاً أيتها الجنيات الحلوات.
الجنيات : وداعاً أيها الفتى الوسيم.

(يرقصن ويغنين)

نحن الجنيات

جنيات الجنة

نلهو، نرقص في الأعراس

ننثر فوق شفاه الناس

أزهار البسمات

.   .   .

نحن الجنيات

جنيات الجنة

نحن حملنا لسليمان

عرش الملكة

نحن سكنّا الأرض

قبل الإنس

عمّرناها

هه.. هه..

وفسدناها

ثم غزانا الإنس

عمروا ..فسدوا

هه..هه

طردونا منها

جَمَعتنا الجنة

(يخرجن)

    *   *   *
    (بقعة ضوء على الشاب والفتاة تحت شجرة مثمرة وفي يدها تفاحة)
الشاب : ما هذه في يدك، ومن أين حصلت عليها؟
الفتاة : تفاحة قطفتها وأردت أن أشاركك بها.
الشاب : (ممازحاً) احذري قد تخرجنا هذه التفاحة من الجنة إن أكلناها.
الفتاة : لا تخف نحن في دار الخلود.

(تحاول أن تقسمها نصفين)

الشاب : انتبهي لأظفارك.
الفتاة : لا تخف إنها لينة وتبدو لي أنها فارغة. (تقسمها) يااااي.. فيها رسالة (تخرج وريقة شجرة منها مكتوب عليها كلمات) فيها رسالة.
الشاب : رسالة في ثمرة..!
الفتاة : لا تعجب، أنت في الجنة، قد تقطف أية ثمرة من شجرة مثمرة وتقسمها فتخرج لك منها حورية أو شاعر جوّال يعزف لك ويغني أعذب الألحان.
لشاب : حسن، سأقطف من هذه الشجرة واحدة وأرى حظي.
    (يقطف الشاب تفاحة من الشجرة، يقسمها فيتصاعد منها دخان كثيف تتراجف خلاله نقطتان من النور وتتسعان ثم تتشكلان إنسانين، شاعراً جوالاً يعزف ويغني، وراقصة غجرية تلبس ثوباً طويلا بلونين أحمر وأصفر وتلبس حذاء بكعب عال تضرب به الأرض فيصدر صوتاً موسيقياً متناغماً مع الأداء العام، وهي ترقص مع الموسيقا وتعبر بجسمها ووجهها عن صور الأغنية)
الشاعر : طالعة من بيت أبوها      رايحة لبيت الجيران

لابسة الأحمر والأصفر     وعيونا تضرب سلام

قلتلاّ يا حلوة اسقيني    عطشان وميّه اسقيني

قالت لي روح يا مسكيني    الميّه ما بتروي العطشان

.   .   .

طالعة من بيت أبوها    رايحة لبيت الجيران

فات وما سلم عليّه     يمكن الحلو زعلان

قلتلاّ يا حلوة ارويني   ع طولك فرجيني

قالت لي روح يا مسكيني    يا طولي زرعة ريحان

.   .   .

طالعة من بيت أبوها    رايحة لبيت الجيران

فات وما سلم عليّه     يمكن الحلو زعلان

قلتلاّ يا حلوة ارويني    ع عيونك فرجيني

قالتلي روح يا مسكيني    يا عيوني عيون الغزلان

.   .   .

طالعة من بيت أبوها      رايحة لبيت الجيران

لابسة الأحمر والأصفر     وعيونا نضرب سلام*

    (مع تصاعد موسيقا نهاية الأغنية يتحلل الشاعر والراقصة إلى ذرات ويختفيان)
الشاب : يااااه  هل كنا في حلم؟
الفتاة : كلا..وإنما فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت.
الشاب : هذه الأغنية غنيناها في الأرض ورقصنا عليها في عرسنا، هل تذكرين؟
الفتاة : كانت الأرض جنة للإنسان لكنه أفسدها وأفسد أغانيها.
الشاب : صحيح، والآن نعود إلى تفاحتك، ماذا في الرسالة؟
الفتاة : (تقرأ) دعوة من رضوان لزيارة الرب.
الشاب : دعوة لك ! ولماذا لم توجه لي مثل هذه الدعوة؟
الفتاة : أنت لم تقطف شيئاً من الثمار، ثم إن الدعوة عامة. سترافقني ونزور الرب، ولكن احفظ لسانك.. الحوار ممنوع.
الشاب : ولماذا؟ لقد حاوره أنبياؤه ورسله وسألوه، أحدهم قال: ربِّ أرني كيف تحيي الموتى، والثاني قال: إن هي إلا فتنتك. والثالث قال: إن كنت قلته فقد علمته.**
الفتاة : احفظ لسانك، أنت لست نبياً ولا رسولاً.
الشاب : لست نبياً ولا رسولا، ولكن النبي سيستغفر لي وأعتقد أن استغفاره هو الذي أنقذني من النار.
الفتاة : وكيف؟
الشاب : كأنك لم تسمعي بحديث الرسول: أن النبي صلى الله عليه وسلم، تلا قول الله تعالى في إبراهيم: “رب إنهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فإنه مني ..” وقال عيسى : “إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم،  ورفع محمد يديه ـ وقال: “اللهم أمتي .. أمتي” وبكى، فقال الله لجبريل: “يا جبريل، اذهب إلي محمد فسله: ما يبكيك؟” فأتاه فسأله، فأخبره الرسول بما قال فقال الله: “يا جبريل، اذهب الى محمد، فقل: “إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك”
الفتاة :  أنت قوي الحجة حاضر الاستشهاد منذ أن كنت في الأرض. اسمع: سنذهب معاً، وأمسك براحة يدك حين اللقاء، فأنا حريصة على أن تبقى معي في الجنة فلا يرميك رضوان وراء الباب ثانية.
الشاب : تريدين ملامستي؟ هذا يعني أنك ما زلت تحبينني.
الفتاة : ليس هذا يا صياد الكلمات، وإنما كلما رأيتك تهم بالكلام سأضغط على راحتك، وأرميك بنظرة محذرة فتسكت.
الشاب : حسن سأسكت، لك عينان جميلتان جارحتان، ومن يستطيع أن يرفض لك أمراً يا طليقتي الحسناء، أنت تذكِّرينني بقول الشاعر:

كل السيوف قواطعٌ إن جُرِّدت   وحسامُ لحظك قاطعٌ في غمدهِ

إن شئت تقتلني فأنت محكَّم   من ذا يعارض سيداً في عبده

(إظلام)

    *   *   *
    (فضاء السيكلودراما. على الشاشة مشهد سينمائي بانورامي للزيارة. أرض واسعة تتوضع فيها واحات خضر، أشجار، تلال، في وسطها يقوم جبل مماثل لجبل عرفة، جماهير الزيارة تتوزع فيها فمنهم من يتجول، وآخرون افترشوا أكثبة الرمل والمسك والكافور، نشهد لقاءات عابرة بين أصدقاء وأقرباء يجتمعون لأول مرة في هذه الزيارة بعد مفارقة الحياة الدنيا، ثمة حركة دائبة مرحة، والأنوار تتشعشع في أرجاء المكان فهي مهرجان للأضواء. تقبل ملائكة وهي تحمل صواني الطعام، موائدَ الرب ويوزعونها على مجموعات الزوار، فيبدؤون تناول الطعام.

على تلة صغيرة خضراء يجلس داود وهو يعزف ويرتل مزاميره لقدوم الرب وتردد معه أصوات لجوقة خفية كأنَّ كل ما في الطبيعة يشارك في هذه الترانيم، ومن خلفه ثمة أغنام وغزلان ترعى وفتاة قروية تحمل طاقة من الأزهار وتلوح بيدها.

نلاحظ في هذا المشهد وجود الشاب والفتاة منتحيان جانباً وهما يجلسان إلى طاولة مذهَّبة وعليها بعض من فواكه الجنة، تمر أمامهما امرأة يتبعها كلبها)

داود : (يعزف ويغني)

احلولى الزمان، والبلبل الهيمان يصب أغاريده في شفاه الورد

وغزلان الخمائل في مساقط أنداء الغمام ترعى بساط النور

وفتاة القرية العاشقة تنادي من بعيد عازف الناي للشياه

وأنا على رابية الانتظار، أصطلي على النار, منتظراً مطلع الجمال.

.    .    .

مواكب النور تزحف على مفارق الجبال

وصوت أجنحة جبريل يتهادى فوق المنائر الخضراء

ولعروج الروح تنفطر السماء، وببخور السدرة تعطر الملائكة الأجواء

و يحمل العرش  ثمانية لهذا اللقاء

.   .   .

يا أيتها النفس المطمئنة ها قد رجعت إلى ربك راضية مرضية

لاح السرادق، ونسمت رياح التجلّي، وأقبل الساقي الصبوح فهنّا وبشّر

وإسرافيل يسير في دروب الجنة وفي يده الصور معلناً قيامة أهل الهوى

أما أنا فتيممت بصعيد عشقي، وتوضّأت بدماء حروفي ولحوني للقاء الحبيب.

    *   *   *
    تغمر المكان أنوار قادمة كأنها انفجارات نجم يولد، خلالها يصل موكب العرش الذي تنبثق منه أنوارٌ تبعث الرهبة والجلال والسرور تحمله ملائكة العرش الثمانية وتحف به الملائكة الروحانيون، ولا يرى على العرش إلاّ نورُ نورِ الأنوار، أنظار الزوار متجهة نحو العرش في خشوع، ويسجد الجميع لقدوم الرب.

على الشاشة تتوضع كلمات الرب كسراً من الحروف مع ترجمتها، ويصحبها الصوت من خلال الأنوار الصادرة عن العرش)

الصوت : عبادي وخلقي وجيراني ووفدي قد طعموا وفكهوا وكسوا وطُيِّبوا. لأَتجلَّينَّ عليهم حتى يروني.
الزوّار : ربنا أنت السلام ومنك السلام.
الصوت : مرحباً بعبادي وضيوفي، أنا السلام وأنتم المسلمون، وأنا المؤمن وأنتم المؤمنون، وأنا الحبيب وأنتم المحبون.

هذا كلامي فاسمعوه

وهذا نوري فاستضيئوه

وهذا وجهي فانظروه

رجل1 : (لصاحبه) يا صاحبي أنت من دين مختلف، ومن زمان ومكان مختلفين، إنه وجه ربي حقاً، فهل رأيت ما رأيت؟
رجل2 : الرؤية مختلفة والحقيقة واحدة، إنه يتجلى للمؤمن الموحِّد بالصورة التي كان يعبده عليها في الفانية.
    (الزوار يأسرهم نور وجه الرب فتشرق وجوههم بالأنوار، وتشخص أبصارهم بالجمال الكلي المطلق، ويرقون إلى مقام الفناء فيه).
الصوت : يا معشر الأحباب، تمنوا ما شئتم واشتهيتم، لقد كشفت لكم عن نور وجهي الحجاب، قوموا لما أعددته لكم من كرامة، ثم ارجعوا إلى منازلكم فإنني راض عنكم، وقد غفرت لكم، وزدت في حسنكم.

(تطفأ الشاشة)

    *   *   *
    (على المسرح الشاب والفتاة تحت بقعة ضوء يجلسان إلى طاولة مذهبة وعليها بعض فواكه الجنة كما شاهدناهما على الشاشة)
الشاب : (يتناول حبة عنب) هذه فاكهة كالتي كانت لنا في الأرض ولكنها أطيب وأحلى، لها طعم لذيذ لا يوصف.
الفتاة : لا تنس أننا في الجنة، وهذه فاكهة الجنة.
الشاب : هل نذهب، أعتقد أن الزيارة قد انتهت.
الفتاة : كلا.. لم تنته بعد، إن الرب يحب أن يتحدث إلى بعض عباده ويساررهم.
الشاب : لعله يساررني أيضاً.
الفتاة : ربما.. وتأدب في الحضرة الإلهية.
الشاب : إذا لم يساررني سأفعل أنا.
الفتاة : ستبقى مشاكساً حتى وأنت في الجنة.
    *   *   *
    (بقعة ضوء ومتابعة، يدخل رجل1 موفور الصحة في ملابس في ثياب فاخرة وفي هاتف محمول يستخدمه كحاسب، يتوقف، يكتب ويجمع أرقاماً)
رجل1 : أوه.. ستمئة وسبعون مليونا.. كانت صفقة رابحة.
    تهبط من الأعلى حزمة من النور، وعلى الشاشة ترتسم الكلمات كسراً وترجمة يصحبها الصوت)
الصوت : يا ابن آدم.
رجل1 : من يناديني (ينظر إلى حزمة النور) لبيك يا مولاي وسعديك.
الصوت : يا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي.
رجل1 : يا رَبِّ كيفَ أعُودُكَ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ؟
الصوت : أما عَلِمْتَ أنَّ عَبْدِي فُلانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أما عَلِمْتَ أنَّكَ لو عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟
    (تختفي حزمة النور)
رجل1 : (مخاطباً نفسه) هذا حق، أنا خجل من تقصيري. كان جاراً تفاقم عليه مرض السرطان وكنت مشغولاً بأعمالي وتجارتي، اليوم تبدو لي حياتي كلها كانت ذرة غبار في وجود عابر.. يا لخجلي! يزوره الرب ولا أزوره! هه.. ولكنه غفر لي ودخلت الجنة (يخرج)
    *   *   *
    (بقعة ضوء على رجل2 تحت ظل شجرة مثمرة وأمامه سلة فيها أنواع من الفواكه والخضار وهو يتناول منها ويأكل. تسقط حزمة نور من الأعلى ، ترتسم الكلمات ويسمع الصوت)
الصوت : يا ابن آدم.
رجل2 : أسمع من يناديني (ينتبه للنور) لبيك يا رب وسعديك.
الصوت : يا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي.
رجل2 : يا رَبِّ وكيفَ أُطْعِمُكَ؟ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ؟
الصوت : أما عَلِمْتَ أنَّه اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلانٌ، فَلَمْ تُطْعِمْهُ؟ أما عَلِمْتَ أنَّكَ لو أطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذلكَ عِندِي.
رجل2 : هذا حق، لَوْمٌ حق، كانت مجاعة في المدينة بعد حرب أهلية طويلة، والوباء يحاصر السكان في البيوت، فقد الناس أعمالهم وارتفعت الأسعار بشكل جنوني، وساد الاحتكار، ولم يجد أغلب الناس ما يأكلونه، وغفلت عن صديق لي كنت أحسب أن أحواله ميسورة ولم أعلم أن الجوع أضر به.. أين أواري خطيئتي من ربي.. آه.. يا له من غفور رحيم.
    *   *   *
    (بقعة ضوء على رجل3 ملتح وأمامه ماء وعصائر وطعام ينتظر الإفطار)
رجل3 : (ينظر في ساعته) حان وقت الإفطار، الحمد لله،كانت المياه مقطوعة عن المدينة المحاصرة وكنا وحدنا نتمتع بنعمة الماء فقد كنا نحن الذين نحاصر المدينة.. الحمد لله هنا في الجنة لا حصار والأنهار جارية، والصيام والإفطار طوعيان. (يرفع الكأس ليشرب فيهبط عمود النور مع الصوت)
الصوت : يا ابن آدم.
رجل3 : أسمع من يناديني، (ينظر عمود النور) لبيك يا رب وسعديك، أية مِنَّة أعطيتني لتكلمني؟
الصوت : يا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُكَ، فَلَمْ تَسْقِنِي.
رجل3 :  يا رَبِّ كيفَ أسْقِيكَ؟ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ؟
الصوت : اسْتَسْقاكَ عَبْدِي فُلانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، أما إنَّكَ لو سَقَيْتَهُ وجَدْتَ ذلكَ عِندِي.
رجل3 : (يتذكر) كان ذلك العبد.. أولئك العباد العطاش، في الجهة الغربية من المدينة، وكنا نعتبرهم كفاراً لأنهم لم يؤازرونا في ثورتنا، الآن أتذكَّر وتتضح لي الأمور.. أية جرائم ارتكبناها باسم نصرة الرب. اليوم يعاتبني الرب، ولا أرى أنني أستحق جرعة الماء هذه (يهرق الماء على الأرض) حتى ولو كنت في الجنة وأوفيت عذاباتي في النار.

(إظلام)

    *   *   *
    (بقعة ضوء على الشاب والفتاة وهما يتناولان من الفاكهة استكمالاً لمشهد سابق. الشاب يضع حقيبته على كتفه متهيئاً للمغادرة)
الشاب : أظن أن هذا يكفي دعينا نعد، ولندع الرب يسارر عباده.
الفتاة : (تضحك ممازحة) كأنك تخشى أن يجيء دورك في المسارّة، وذنوبك متراكمة.
الشاب : أنا لا أخشى ذلك ولكن أنت حظرت عليَّ الحوار. صحيح أنني عبد الله لكن عيناك يا طليقتي تستعبدانني أكثر.
الفتاة : اتق الله يا مراد ..أنت في ضيافة الرب وتعيش الآن من نعمه.
الشاب : أعرف ذلك، لكنك أجمل نعمة أنعم الرب بها عليّ في الجنة.
الفتاة : وكانت نعمة منه أن جمعني بك ثانية رغم ما فيك من خصال نَكَدية.
الشاب : ها أنت تعترفين بأنك ما زلت تحبينني.
الفتاة : صه.. أسمع أصوات أقدام قادمة.. إنها أقدام نسائية.
    (تدخل فتاة في غاية التبرج يتبعها كلبها، إنها الفتاة التي شاهدناها على الشاشة).
الشاب : أليست هذه التي رأيناها في الزيارة، ما قصتها وهذا الكلب؟
الفتاة : اسألها.
الشاب : (لصاحبة الكلب) نعمت بالجنة يا صاحبة الكلب.
الفتاة : ونعمت أنت أيضاً وصاحبتك.
الشاب : هل هذه أول أيامك في الجنة؟
صاحبة الكلب : كلا.. ولكن لم السؤال؟
الشاب : أراك في غاية التبرج قلت: لعلك مستجدة ولم تغيري ثيابك بعد.
صاحبة الكلب : أنا بَغيٌّ من بني إسرائيل، وهذه ثيابي في الدنيا والآخرة. ألا تعجبك؟
الشاب : أنا لم أقل شيئاً، ولكن بغيٌّ وتجهرين بها، ثم تدخلين الجنة؟
صاحبة الكلب : (ساخرة) إن كنتَ بلا خطيئة فلترمني بحجر. نعم ، أنا بغيٌّ وهذه مهنتي، ومنها أطعم خمس عائلات فقيرة.
الشاب : ولكن يقولون: تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها.
صاحبة الكلب : نعم تجوع، ولكن لا تترك وراءها خمس عائلات جياعاً لتحافظ على ثدييها.
الفتاة : انتبه لنفسك يا مراد، هذه الفتاة ستأكلك بلسانها.
الشاب : آسف يا سيدتي، ومع كل الاحترام لمهنتك النبيلة أود أن أسألك عن هذا الكلب الذي يتبعك دائماً، ما قصته؟
صاحبة الكلب : هذا هو الكلب الذي أدخلني الجنة أيها الشاب.
الشاب : الرب وحده يدخل الجنة، أنا لم أفهم ما تعنين.
صاحبة الكلب : كنت في بيداء، والجو حار، ولا ماء، وكدت أتلف من العطش، حتى وصلت بئراً فشربت حتى ارتويت وعندما قفلت راجعة رأيت هذا الكلب يلهث من العطش، ويلحس التراب من شدة الظمأ ولا يستطيع الشرب من البئر. قلت لقد بلغ العطش من هذا المسكين مثل ما بلغ بي، ونزعت خفي وربطته بخماري وأدليته في البئر واستقيت له مرات حتى ارتوى. ورأى الرب ما فعلت فغفر لي وأدخلني الجنة. وأبى هذا الكلب أن يفارقني في الأرض وفي الجنّة.
الفتاة : هذا فعل نبيل حقاً أيتها الشابة، أليس كذلك يا مراد. بم تفكر؟
الشاب : إنه فعل نبيل حقاً، أفكر في بغيٍّ تسقي كلباً عطشاً، وأفكر أيضاً في من امتهنوا مهنة التكفير فقتلوا ونهبوا واستباحوا المحرمات ومنعوا الماء والطعام والدواء عن مدن بأكملها باسم الرب وفيها الشيوخ والأطفال والنساء. فمن منهم البغيُّ حقاً؟

(لصاحبة الكلب) بوركت أيها البغيُّ الفاضلة.

(إظلام)

     
    نهاية المطاف
     
    (جبريل ومحمد عند سدرة المنتهى)
جبريل : هاهو الفجر يطلع على الأرض، حان وقت العودة يا محمد. لقد نلت من التكريم ما لم ينله أحد قبلك ولا بعدك.
محمد : يا أخي جبريل، أرأيت السيف المعلق على العرش يقطر دماً؟
جبريل : أجل رأيته.
محمد : لقد طلبت من ربي أن يرفع السيف عن أمتي.
جبريل : وبم أجابك؟
محمد :  قال لي: يا محمد، سبق حكمي وعلمي وقضائي، لا يفنى أكثر أمتك إلا بالسيف ونوازعٍ الجهل والسلطة والفتن.
جبريل : دع هذا الأمر لقضاء الرب.
محمد : لا اعتراض، الرب أعلم وأرحم بعباده، ولكن أمتي يا جبريل.. أمتي.
جبريل : لا أريدك أن تعود من الزيارة حزيناً، دع الأمر لعناية الرب وقضائه، ولا بد للنور في النهاية أن ينبثق بعد عناء، هيا ولنرحل فمركبة المعراج أصبحت جاهزة للعودة.
محمد : أريد أن أطَّلع على بعض ما يحدث لأمتي من بعدي قبل أن أعود.
جبريل : فليكن لك ما تريد، والرب أوصانا ألاّ نرفض لك طلباً.

(إظلام)

    *   *   *
    (يضاء جدار الزمن حيث تعرض عليه ومضات سريعة من مشاهد وأحداث تاريخية أو مستقبلية متوقعة حتى نهاية الوجود البشري حسب رؤية المسترهص، وهي إما سينمائية أو لوحات تشكيلية أو عناوين صحفية بارزة لأحداث ماضية أو قابلة، هذه المشاهد تتابع وتتزاحم كالتي تتراءى في ثوان لمن يمتلك شفافية الروح ويعود إلى الحياة بعد إغماءة جراحة أو موات مؤقت، إنها بمثابة أنطولوجيا وجودية مكثفة جداً، ويترك فيها للمخرج ومقترحات مجموعة العمل المسرحي الزيادة أو النقصان بما لا يخرج عن أطر وأفكار العمل الكلي).
    *   *   *
    المشاهد المقترحة ويمكن تعريفها بإنزال لوحة حين اللزوم تحت بقعة ضوء باسم المشهد من أعلى المسرح المعتم.

–       فتح مكة وإزالة الأصنام.

–       قبر محمد وبجانبيه قبرا أبي بكر وعمر

–       ثوار يقتحمون دار الخليفة عثمان ويخرج أحدهم بقميصه وعليه الدماء.

–       معركة صفين والصراع بين علي ومعاوية

–       الحجاج يقصف الكعبة بالمنجنيقات في الصراع بين الخليفتين الأموي عبد الملك وعبد الله بن الزبير

–       الحروب الصليبية، الجيش الفرنسي وملك فرنسا أسيرا في دار ابن لقمان.

–       مشاهد من العدوان الإسرائيلي على غزة وجنوب لبنان. مع خارطتين لفلسطين القديمة والحالية.

–       الجنرال الفرنسي غورو يقف على قبر صلاح الدين ويقول “ها قد عدنا يا صلاح الدين”

–       هولاكو واحتلال بغداد.

–       احتلال بغداد ودخول الجيش الأمريكي ومقاطع من سجن أبو غريب.

–       لقطات من معارك عربية عربية و جيرانية: حرب الخليج الأولى، حرب السعودية واليمن.

–       حروب أهلية وبلدان طالها التقسيم: السودان- ليبيا- العراق – سورية، وملصقات وعناوين جرائد وصور لسلاطين وساسة تأبدوا وتغوّلوا في القهر والفساد. ومدن وأحياء دمرها القصف بين المتحاربين في البلد الواحد.

–       سجون مكتظة بالسجناء السياسيين، ومشاهد تعذيب.

–       قوافل نازحين ومهاجرين في العراء ومشردون ومقابر جماعية.

–       حروب ومجاعات قادمة في عمق الزمن الآتي، وخرائط جدارية لبلدان ممزقة.

–       مناظر تاريخية لجائحة الطاعون، ولفيروس كورونا وهو يدور فوق الكرة الأرضية ثم يتركز دورانه فوق الشرق الأوسط.

–       يعتم الجدار ثم ينبثق منه شعلة نور جديد تدور حول نفسها وتتسع بحركة لولبية.

(يظلم جدار الزمن)

    *   *   *
    (تحت بقعة ضوء جبريل ومحمد يمسح دمعتين من عينيه)
جبريل : ما لَكَ يا محمد تبكي؟
محمد : كيف لا تدمع العين وتوشك أن تداعى على أمتي الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها.
جبريل : أو من قلةٍ هم يا محمد؟
محمد : كلا.. ولكنهم غثاء كغثاء السبل.
جبريل : كفكف دموعك يا حبيب الله، أما ترى النور يتولد من جديد.
محمد : أجل، ولكنها الإنسانية المعذبة.
جبريل : تلك هي الأمانة التي عرضها الرب على الأرض والسماوت فأبين أن يحملنها، وحملها الإنسان فغوى وهوى..

هيا يا أخي، ها هي مركبة المعراج قد أضاءت، والملَك إسماعيل يشير إلينا للعودة.

(إظلام)

     
    ترنيمة للإنسان
     
    (في ظلام المسرح لاشيء غير نور مركبة المعراج على الشاشة وهي تهبط من السماء نحو الأرض، وتسمع من بعيد أصوات الجوقة (مجموعة العرض) وهي تؤدي ترنيمة النهاية، وترتفع الإضاءة شيئاً فشيئاً مع توافد المشتركين في العرض للتحية وهم يرددون الترنيمة)
مجموعة العرض : (تغني)

طوبى للمختار

يا زوّارَ الرب

يا ضيفانَ الرحمة

حثوا الخطواتِ إلى الله

.   .   .

الدربُ إلى الله طويل

وقوافلُ في إثر قوافل

تقطع أنجاد الفرحةِ

نحو المحبوب الأعلى

فوقَ نياق النور

وغناء الحادي يجّاوب في الوديان

.   .   .

يا تائهُ في البيداء

أفِق

درب المحبوبِ الرحمن

هو الدربُ إلى الإنسان

.   .   .

صنع الله من الطينِ على صورتهِ

إنساناً

قال له:

كن أنت السلطان

كن حرّا لا تخضعْ إلاّ

للرحمن

ومحمدُ في المعراجِ

يقول لكم

إن أحببتَ الربْ

أحببت الإنسانْ

إن أحببتَ الربْ

أحببت الإنسانْ

إن أحببتَ الربْ

أحببت الإنسانْ

     
    ستارة النهاية
     
    حلب-سورية

ثاني أيام عيد الفطر 1441

25/5/2020

 

 

عنوان المؤلف:   ar.kalaji@gmail.com

* في أصل الحديث النبوي: ما يُصْريك أي ما يقطع سؤالك

* من الزهور والنباتات البيتية

* مثل شعبي له قصة، والمغزى رحم الله الزوج الأول فالثاني كان الأسوأ.

* اسمه محمد المهدي كما ورد في الأثر، وكثيرون ادعوا أنهم المهدي.

* من قصيدة طلل للشاعر عمر أبو ريشة

* من القدود الحلبية.

** على التوالي: إبراهيم، موسى، عيسى عليهم السلام


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock