“مأساة صانع الأحذية”  نص مسرحي للكاتب العرقي “قاسم فنجان”

المسرح نيوز ـ القاهرة| نصوص

ـ

“مأساة صانع الأحذية”

مسرحية

قاسم فنجان

 

الشخصيات : الرجل ، كافي ، أس .

المنظر : دكان تتوسطه ماكنة تختفي معالمها تحت وشاح أبيض،رجل في مقدمة المسرح تتدلى من كفه زجاجة خمر والى يمينه معرض زجاجي تنتصب على رفوفه أحذية غريبة .

 

الرجل :  آه إنه البرد يحاصرني ولامنقذ لي من وخزاته الموجعة،إلا هذه الزجاجة التي أرجو أن لا تنفد سريعاً”يرفعها الى الأعلى”لا  لم تنفد بعد،مازال فيها ربع سيسعفني في القضاء على برد تلك الليلة المتجمدة”يشرب منها جرعة صغيرة”هاأنذا أتذوق حلاوة هذه الخمرة المُرة”لنفسه”آآآآه إنها ألذ من الماء وأحلى من كل عصير وأنجع للنفس من كل شراب،هيا أستمتع أيها العجوز بسحرها العجيب،عما قريب ستبث الخمرة فيك الدفء ولن تتركك عالقاً في فضاء الصقيع هذا،آآآآآآآه ماأحلاها وماأشد وفائها لك،لن تتركك قط لأنك لم تتركها،نديمك الوحيد كانت،حينما أنفض من حولك الندماء وتركوا لك بدلاً عنهم تلك القنادر “يشير الى معرض زجاجي للأحذية”قنادر تطالعك بجلودها المخددة من التعب،تراقب بوجع اوجاعك المزمنة،تتذكر زمانك البعيد،حينما كانت طاقتك المخبوءة في جسدك القوي،تبحث لها عن خرم للأنفلات حتى تعمل الخوارق،كان الزبائن آنذاك يصطفون على شكل طوابير من النساء والرجال،يقفون تحت الشمس،غير آبهين بالعرق المتصبب من وجوههم المتعبة من الأنتظار أمام دكاني الصغير،يطلبون مني أن أرتق لهم أحذيتهم وحقائبهم وحتى أسمالهم أحياناً،أما الندماء فكانوا يتسللون في الليل تباعاً الى دكاني الصغير،الذي يتسع ويتسع حتى يغدو أوسع من كل حانة،كان قرع الكؤوس يدوّي بصخب حميم ليملأ رأسي بنشوة الزحام،كان الزحام الحميم يملأني بحنان وألفة هجرتني منذ عقود بعيدة،آآآآآآآآخ على تلك الأيام وحلاوتها،حينها كنت الأسكافي الوحيد في البلدة،كانت تمر على كفيّ هاتين مختلف الأحذية،أحذية رجالية ملتاثة بالجراثيم،من جوفها الخائس تنبعث روائح العفن القاتلة،وأخرى رخيصة وبالية وتحمل على جلودها المتشققة سيَر أصحابها المتعبين،أما النساء فأخذيتهن خاصة كأجسادهنّ،

 

آآآآآه من نعومتهن ومن رقة أحجامهن الصغيرة،كانت روائحهن الطيبة تتناهى لي كلما لامست أصابعي طراوة جلودهن،كنت أمسك فردة الحذاء الرقيقة وأطبق عليها بكلتا فخذي،كنت أبدأ الطرق بمطرقتي،ثم أطرق المسمار تلو المسمار،حتى تنساب بنعومة تلك المسامير في الجلد الرقيق،كما تنساب أصابع العجان بالعجين،كانت الأحذية آنذاك هويات تشير الى شخصيات أصحابها،لها دلالات وعلامات لم يقوَ على حل رموزها أحد غيري،انها خبرة لم تتأتى من العدم ولم تولد من الخواء،خبرة اكتسبتها عبر عقود عشتها متنقلاً بين أحذية مختلفة،أحذية سوداء وزرقاء وصفراء وأخرى بيضاء وحمراء وخضراء،أحذية كبيرة مهيبة وأخرى صغيرة منحطة،أحذية ثمينة ألوانها ثابتة لم تتغير رغم إختلاف الطقوس،وأخرى رخيصة تبدل ألوانها مع كل طقس،أما الأحذية الأغرب من كل الأحذية،فكانت أحذية بشرايين وأوردة قدَّت جلودها من جلود آدمية،جلود وصلتني مدبوغة على أنها جلود حيوانية،جاء بها رجل بشاربين كثيّن وبقوام مخيف،ما أن أخرجها من الحقيبة حتى تفشت رائحة الجلد الآدمي وأخترقت أنفي،طأطأت رأسي خائفاً فأمتدت كفا الرجل القاسيتين الى رقبتي النحيلة ثم أطبقت عليها بقوة ورفعتني عن الأرض وقال :

43

ثم مضى مخلفاً لي عفن تلك الرائحة التي ماأنفكت تفوح حتى الآن في رأسي،عفن يتجول بهياج وجنون في جسدي كهيكل عظمي،عفن متجذر في دمي لم أقوَ على التحرر منه لأنني ..”ينتبه لنفسه” ياإلهي إنني أتفوه بأسرار لاينبغي أن أتفوه بها،انها أسرار خطيرة قد يكلفني أفشائها حياتي،ماذا دهاني كيف نسيت أن الجدران هنا لها آذان،آذان متوزعة في كل مكان حولي،يجب أن اصمت،سأصمت،سأصمت”يكمم فمه فتخفت الأضاءة عليه وتضئ شخصين جالسين على كرسين متقابلين هما كافي وأس” .

كافي : أس ، إن الجدران لها آذان .

أس : كافي ، الجدران لها لسان .

“تعود الأضاءة للرجل” يبدو إني ثملت،مَن هذا ؟

كافي : أس .

الرجل : وأنت ؟

كافي  :  كافي .

الرجل : لم أتكلم بعد فلماذا تريد مني أن أسكت .

كافي : لاتسئ فهمي،كافي هو أسمي وأس هو أسمه .

الرجل : كافي وأس،إسمان مريبان يدعوان الى السكوت .

كافي : “بهمس” هذا صحيح فإن لم تسكت سيجعلون من جلدك حذاء .

أس : أسكت .

الرجل : سوف أسكت”يكمم فمه”.

كافي  : ان السكوت لا يكفي،يجب أن تنام،إن هذا أأمن لك .

الرجل : لا أستطيع النوم،إني أرِق .

كافي : عليك بالخمرة،إنها دواء ناجح للنوم،هيا أشرب لتثمل وما أن تثمل حتى تنام .

الرجل : سأشرب “يشرب جرعة كبيرة” سأشرب .

كافي : ستنام،ستنام،ستنام .

الرجل : سأناااام،سأنااااااااام،سأناااااااااااااام “ينام الرجل ويتعالى شخيره وتخفت الأضاءة عليه حتى يتلاشى ليظل في المشهد أس و كافي” .

أس : لِمَ أنمته ياكافي ؟

كافي : أتعبني صحوه الدائم .

أس : صم أذنيك عنه ولاتستمع إليه .

كافي : لا أحتاج الى صمّهما،لقد تناهى لي كلامه الخطير .

اس : لا اعني صوته،بل الصوت الآخر .

كافي : عن أي صوت تتكلم ؟

أس : الصخب المروّع الذي ينبعث من هذا الحيز المزجج”يشير الى المعرض الزجاجي للأحذية” .

كافي : أي صخب ياأس ! إنها احذية خرساء ومتحجرة وجامدة .

أس : إصغي إليها جيداً وسترى أن حيوات مظلومة تنام في أجواف تلك الكائنات .

كافي : كائنات ! ياإلهي ، إنها قنادر،قنادر .

أس : كافي لا تسخر مني .

كافي : كيف لا أسخر وأنت تشير الى وجود الحياة في أحذية جامدة .

أس :  ليست جامدة يا كافي،إنها حية لكنها الآن نائمة .

كافي : “ساخراً”سأوقظها لخاطرك”يرجرج المعرض فيسيل الدم من حذاء رجالي كبير”ياإلهي ان الدم يسيل من حذائه”يشير الى الرجل النائم” .

أس : ليس حذاؤه ياكافي .

كافي : لمن إذن هذا الحذاء المجروح ؟

أس : انه له !

كافي : لمن ؟

أس : ل 43 .

كافي : “بخوف” 43 .

أس :هو بعينه .

كافي : مستحيل !

أس : تلمسه جيداً وستعرفه .

كافي : “يتلمسه” لا ليس هو،إنه مختلف .

أس : لا تنكره ياكافي،تشممه جيداً وستعرف إنه هو .

كافي : “يتشممه ثم يتلمسه”ياإلهي إني أعرف صاحب هذه الرائحة وهذا الجلد الرقيق،إنني أتذكره الآن جيداً،إنه هو،هو،هو!

أس : لِمَ أوجعته إذن ؟

كافي : لم أعرفه في البداية،لأنهم ضللوني بقولهم أن هذا الجلد لخائن .

أس : كيف وأنت تعلم أن للخونة جلود بائدة يسهل إختراقها .

كافي : كنت مرتبكاً لحظتها ولم أقوَ على التمييز .

أس : كان عليك أن ترفض .

كافي : من يقوى على الرفض .

أس : أنا !

كافي : تكذب لأنك لم ترفض لحظتها،بل إكتفيت بتحريضي على الرفض .

أس : لا تلقِ اللوم عليّ،إنك جبان ياكافي،إنصعت لمخاوفك من الحرب،ونفذت لهم مطالبهم الوحشية،مقابل عدم ذهابك الى الجبهة .

كافي : لم أريد أن أقتل .

أس : لم تتهيأ لك فرصة للقتل .

كافي : بل تهيأت لأكثر من مرة،لكنني آثرت أن أظل أبيضاً .

أس : كافي،إنك أسود مثل أفعالك السوداء .

كافي : لِمَ تقول عني هذا ؟

أس : لأنك تستحق أكثر من هذا،ألا تذكر ؟

كافي : ماذا ؟

أس : حينما جمعونا من زرائبنا أعني بيوتنا مقررين سوقنا كالقطيع الى الجبهة .

كافي : لا لا أتذكر.

أس : لكنك تتذكره جيداً .

كافي : مَن ؟

أس : ال 43 .

كافي : 43 !

أس : أجل ياكافي،ال 43 .

كافي : كان ينبغي أن يمتثل لأوامرهم ولايهرب من الجيش .

أس : مثلما أمتثلت أنت .

كافي : لا لم أمتثل لهم،لقد كلفت بواجب لذا تم إعفائي من الذهاب الى الجبهة .

أس : قل وبصوت عالٍ،ماهو نوع الواجب الذي أبقاك حياً،قل ؟

كافي : ……… !

أس : لِمَ أنت صامت،قل،قل،قل”يتملل الرجل ويستيقظ تحت إضاءة خافتة ” .

الرجل : لم أكن أصدق أن ثمة هوس وحشي بهذا الهول،لم أكن أعلم أنني كنت أصنع احذية بيضاء وسمراء وحمراء وشقراء للقادة والضباط،من جلود مسلوخة لأبرياء وضحايا ومظلومين”تخفت الأضاءة عليه ويغيب في الظلام” .

كافي : كانت الجلود تصلني في صناديق مبردة مكتوب على جانبها “خونة “صدقتهم وأعتقدت ان الجلود لخونة وصيرتها الى أحذية،كنت أخلص واصنع الحذاء تلو الحذاء وأتلقى مقابل هذا التفاني الكبيرالشكر والتكريم من القيادة،حتى وقع تحت يديّ جلد لم تطاوعني كفي على تحويله الى حذاء”تغيب الأضاءة على كافي وتعود الى الرجل” .

الرجل : كان الجلد لأخي،عرفته من طيب رائحته الزكية،من حنو ملمسه الناعم الرقيق،رفعته بين يدي وضممته بقوة الى صدري،ففاحت منه روائح أمسي الجميل واختلطت بروائح طيبة لأمي وابي،روائح سرعان ماأستحالت الى نحيب موجع تناهى الى قلبي فبكيت،بكيت حتى غمرت الدموع جلد أخي المعدوم وبللته،أغمضت عيني وغرست المخيط في جلد أخي المسجى بين يديّ مثل طفل خائف،ثم أخذت أخيّطُ وأقصُ وأقص وأخيط حتى أستحال جلد أخي الغالي الى حذاء رخيص،حذاء إحتذاه آمري الممسوس ومشى متبختراً به أمامي”تخفت الأضاءة عليه حتى تتلاشى وتعود الى كافي وأس” .

أس : لماذا ياكافي ؟

كافي : لأنني صانع أحذية شقي،يعمل في مصنع وحشي يملكه ويملك بشره آمر شاذ .

أس : كم طلبت منك ان تتكتم على صنعتك لئلا تجرجرني معك الى الذل .

كافي : ان الذل أحياناً أفضل من الموت .

أس : أسكت ياجبان،أسكت،كان ينبغي عليك أن تحظى بميتة شريفة مثل ميتته .

كافي : لكل منا قدرهُ .

أس : قدرك أن تكافؤ القتلة حتى لاتموت،تفو على حياتك التي صرفتها في صناعة أحذيتهم،التي يدوسون بها على رؤوس الفقراء،تفو على سيرتك الضاجة بالأنكسار والخذلان والهزيمة،تفو عليك ياكافي .

كافي : أس ياكافي إنك تهينني .

أس : تستحق لأنك مثلهم .

كافي : لولا إذعاني لأوامرهم لما عشنا هو وأنت وأنا .

أس : أية عيشة قاسية تلك التي شكلت منها حياتنا ياشقي .

كافي : حياة تمكنت من صونها رغم إصرارهم على زوالها.

أس : كان ينبغي أن تموت مثله .

كافي : يكفي لماذا تعيده عليّ ياأس،لقد مات أخي ولم يتبق منه سوى هذا الحذاء .

أس : لا لم يمت،إنه حي مازال ينتظر في تلك الساحة الملعونة،تحت الشمس القائظة،ليعيد علينا قصاص هروبه من الجيش،حينما عصبو عينيه وأوثقوه الى عمود الأعدام،صرخ بنا وبقاتليه أهربوا ياناس حتى لا تقع الحرب ويبقى الطغاة،كان يعرف ان الله شاهد والسماء والشمس والهواء شاهد،لكنه لم يك يبحث لحظتها عن أي شاهد،كان يبحث عن مؤازر له في الرفض،لم يؤازره أحد وأكتفى الجميع بالصمت،حينما تناوبت رشقات الرصاص القاسية على جسده النحيل،كان داخله المنتشي بالنصر ينظر صوبي بعينين منتصرتين، فأطأطئ رأسي بعينين منكسرتين،كان يضحك فرِحاً وكنت أبكي حزناً،كان كيانه المتداعي يستحيل الى لا عاصفة تكنس في هيجانها الجارف كل نعم خائفة،كان هو الحي وكان الجميع هم الموتى .

كافي : بل ميت ميت يااس .

أس : مادمت مصراً على موته،فسأجعلك تتذوق طعم الموت “يتحرك نحوه ويطبق بكلتا يديه على رقبته” .

كافي : أتركني ياأس أنك توجعني أرجوك .

أس : لن أتركك .

كافي : إعتقني يامجنون إعتقني”يتملل الرجل بعد عودة الأضاءة عليه بشكل خافت ” .

أس : لن أعتقك،سأخنقك،سأخنقك،سأخنقك .

كافي : آآآآآآآآآآآه “مع شدة التأوه تخفت الأضاءة وتشتد على الرجل الذي يظهر مطبقاً بكلتا يديه على رقبته” .

الرجل : آآآآآآآآآه انه نفس الكابوس المخيف،أيتها الروح الحائرة،حتامَ أظل رهين تلك الأوجاع القاسية،لقد إنتهت الحرب وولت بويلاتها بعيداً وأنتِ مازلت تصرين على تذكيري بها كلما غفوت،لِمَ تحاولين إستعادتها كلما حاولت التظاهر بنسيانها،لقد مات أخي بالرقم 43 ودبغته بيديّ هاتين وسجيته في مقبرة زجاجية تقبع الآن أمامي كأي شاهد مزمن،لقد مات الرقم أخي وتلته أرقام وأرقام كثيرة،فلِمَ تتصيدين في لحظات نومي القصيرة كل الذكريات الموجعة،لِمَ تعبئين رأسي بمرارة تلك الايام وأهوالها القاسية،لِمَ؟آه يارأسي صداع شديد يكاد أن يفجر رأسي”تعود الأضاءة لكافي وأس اللذان يدوران حول الرجل” .

أس : انه الوجع القديم ولن أدعه يبارحك للحظة .

كافي : لاتصغي له،سيغادرك الوجع إن شربت الخمرة،هيا أشرب .

أس : لن أدعك تنعم بالنوم،ستظل متيقظاً لتتذكر.

كافي : إشرب لتثمل وتنسى وتنام،هيا إشرب،إشرب،إشرب .

الرجل : “يشرب أكثر من جرعة”ها أنذا أشرب بقوة فلِمَ لاتسكرينني،أيتها الخمرة،ياخليلة روحي المطيعة وملاذي من جروحي الهائجة،أريد أن أنسى وأنام.

كافي : تعال ولا تفكر وستنام،تعال لتنام،لتنا/”يضع الرجل رأسه على صدر كافي الذي يردد بحنان” هيا لتناااام،هيا ستناااااام،ستناااااااام….”يتعالى الشخير وتخفت الأضاءة عليهما ويبقى أس وحيداً في المسرح”.

أس : هاقد نام وكافي هو الآخر نام،لم يبق في المشهد سواي،أنا العقل الممنوع من النوم،القابع في رأس الرجل،العالم بأسراره الخاصة،لاهم لي إلا مشاكسة ضدي الكامن في قلب الرجل،انه كافي المهيمن على أوجاعه ومسراته،أحفزه على الأستيقاظ حتى لايتركني وحيداً بلا أنيس،لذا سأنبش المكنون وأستخرج منه ذكرى المرأة المتلفعة بعباءتها السوداء،تلك التي كان سرها يقيناً،سرٌ أطبقت عليه بنواجذي لئلا ينفلت من فمي ويصل للآخرين،حاولت أن لايصل إليه أولاً،لكنه وصل وحينما أدرك هول ماصار،مارس بحق المرأة فعلاً وحشياً،أعتى من فعل أخيه،لذلك يجب أن يواجه ماجناه،لن أتركه نائماً في العسل،يجب أن يستيقظ ليواجه جريمته،كافي،كاااافي،كاااااااافي”تعود الأضاءة لكافي الذي ينفصل بهدوء من الرجل” .

كافي : ماذا هناك ياأس،لِمَ تصرخ،ألا ترى إنني نائم ؟

أس : انظر ياكافي أنظر،ثمة شئ هناك”يشير الى الأمام” .

كافي: “ينظر”ليس سوى الفراغ والصمت والظلام .

أس : انظر جيداً ياأحمق،إنها هي .

كافي : لا إنه وهمها،لاتحاول أن تعيدها عليّ كما أعدت عليّ الرقم 43 .

أس : إنها هي ياأعمى،كيف لاتراها ؟

كافي : لأنها لاتأتي .

أس : بل ستأتي وتقول لها”يخرج حذاءاً نسائياً من المعرض الزجاجي”أنظري ماذا فعلت من أجلكِ،لقد رتقت لكِ الحذاء،انه حذاء حي كل مافيه ينبض بحبك.

كافي : هل ستأتي حقاً ياأس ؟

أس : “يستدرجه للحديث”أجل وستطلب منها ياكافي ستطلب منها…”يقاطعه”

كافي : سأطلب منها إن جاءت،أن تلبسه أمامي،سأجثو أمامها هكذا “يجثو”وأطلب منها الصفح،سأمسك برقة قدمها الناعمة الصغيرة وأقبلها ثم أضعها في جوف الحذاء،ثم أعيد الكرة بنفس الرقة مع قدمها الثانية،آآآآآه ياأس ما أجمل أن تهوى.

أس :بل ما أشقى أن تهوى .

كافي : لِمَ تقول هذا ؟

أس : “تتغير لهجته” لأنها خائنة .

كافي :أس أرجوك،لِمَ لايحلو لك إلا إحباطي .

أس : لأنك تعرف أنني حقيقي ولا أحب التزييف أو التزويق .

كافي : أعلم ذلك .

اس : مثلما تعلم أنك الآخر خائن .

كافي : لست خائناً .

أس : بل خائن لأنك تركتها ومضيت في صناعة احذية شاذة لطغاة وجبابرة ومستبدين .

كافي : إنه عملي ياأس !

أس : كان ينبغي عليك أن تستقيل أو تهرب وتبقى الى جوارها لتغمرها بحمايتك،لكنك آثرت الخنوع وتركتها في غابة الطغاة طريدة ثمينة أمام أعينهم الجائعة .

كافي : لم أستطع،انهم قساة ومجرمين .

أس : بل أنت جبان وبائس .

كافي : كان ينبغي عليها أن تصمد .

أس : كيف تصمد وأنت تركتها عارية تحت سماء لاتحمي من تحتها .

كافي : أس ياأس،إنك تلحد .

أس : بل أتعبد حينما أواجهك بخيانتك لها .

كافي : هيَ الخائنة ياأس .

أس : بل أنت الخائن ياكافي .

كافي : كيف وأنا وجدتها عارية في حضن آمري العسكري .

أس : لم تأتِ برغبتها الى سريرك المهجور،لقد سجّاها بوحشية عليه،ذات الآمر القاسي الذي سلخ جلد أخيك،ثم أمرك أن تصنع من جلده الحذاء 43،لقد إغتصبها رغماً عنها وتركها تتأوه ليس من اللذة ياكافي بل من الذل .

كافي : كان ينبغي أن أقتله .

أس : لكنك لم تفعل وتقتله بل قتلتها .

كافي : لا أنني أحبها ياأس .

أس : تكذب فأنت لاتحب إلا نفسك .

كافي : بل أحبها لأنها كانت كل شئ في حياتي،كانت تسري في دمي مسرى الهواء،تدور هائجة لتأجج داخلي بعشق فار بقلبي كالبركان ولم يخمد حتى الآن .

أس :ما أشقاك ياكافي .

كافي : كافي ياأس إنك توجعني .

أس :  وسأظل أوجعك لأنك تخليت عنها لشبق ذلك العسكري الملتاث عقله بالجنس والحرب والجنون .

كافي : أس أرجوك .

أس : لن أسكت حتى تعلن عن ندمك .

كافي : إنني نادم ياأس بسببك،لأنني كلما حاولت طمر ذكراها الموجعة،ظهرت أنت ونبشتها بقسوة .

أس : وسأواظب على ذلك حتى تستيقظ .

كافي : لا أريد أن استيقظ ياأس،دعني في سباتي ولا تنكأ جرحها من جديد .

أس : ها أنت تعترف بعجزك عن نسيانها .

كافي : سوف ألتجأ للخمرة وسأنساها”يرفع زجاجة خمر من الأرض ويبدأ الشرب بشراهة” .

أس : حتى لوشربت خمر العالم كله،فلن تنساها ياصاحبي .

كافي : لماذا ؟

أس : لأنها ماتت مقتولة !

كافي : ………. !

أس : أجل ياكافي مقتولة وقد دفنا جثتها المسلوخة معاً،لكنك لا تريد أن تصدق موتها .

كافي : انك تمزح معي حتماً .

أس : لا لن أمزح معك،لقد قتلتها أنت ياكافي .

كافي : أس ! ماذا تقول ؟

أس : مثلما سمعت وفعلت معها الأبشع .

كافي : هل هنالك ماهو أبشع من القتل ؟

أس : السلخ ياكافي،لقد كشطت جلدها الرقيق بعد أن قتلتها بهدوء .

كافي : لِمَ أفعلُ شيئاً وحشياً كهذا بحبيبتي ؟

أس : لأنه سبق لك وإن فعلت مايماثله،بجلد أخيك المسلوخ،عندما أحلته الى حذاء بالرقم 43 .

كافي : مستحيل لم أفعل هذا بها .

أس : بل فعلتها ياكافي فعلتها،سلختها ودبغت جلدها المسكين،وهذا كل ماتبقى منها”يرفع الحذاء بوجه كافي”هيا خذه .

كافي : “يتأمل الحذاء بوجع ويضمه الى صدره”كيف تسنى ليديّ القاسيتين أن تقتلك،كيف ياأيها القلب المخمور محوت في لحظة طيش كل ذلك العشق الكبير،كيف فعلتها،كيف،كيف ؟

أس : كنت معك في غرفة نومك،أراقب إنكسارك أمام مشهد أغتصابها،نظرت اليك ولم تكن عيناك تنظران نحوها،كانت حجرتان بيضاوتان تحدقان في العدم،غير آبهتان بوجود المغتصب الذي أخذ يرتدي بزته العسكرية بكل برود،ثم غادر مخلفاً حبيبتك طريحة للذل والأنكسارعلى سرير الزوجية .

كافي : الآن أتذكر ذلك جيداً رغم سكري الشديد في تلك الليلة المشؤومة،مثلما أتذكر إنتصاري المزيف حينما أعتليت جسدها العاري كالحيوان الأعمى،كانت المسكينة تأن تحتي كالطريدة اليائسة،مستسلمة لقدرها بهدوء وسكينة،كنت أشم في جسدها رائحة المغتصب العفنة،لذا كممت أنفها وفمها بيديّ هاتين،حتى لاتتسرب تلك الرائحة النجسة الى قلبها وتطردني منه،كممتها كي أطهرها من دنس تلك اللحظة الفاسقة،كممتها من أجل ذلك يا أس .

أس : لكنك قتلتها ياكافي .

كافي : لا لقد كممتها فقط .

أس :   بل قتلتها ويجب أن تُقتل مثلها”يطبق بيكفيه على رقبة كافي” .

كافي : إتركني ياأس إنك تقتلني .

أس : لن أتركك حتى تموت،تموت …”يضيق الخناق عليه فيتأوه من الوجع” .

كافي : آآآآآآآآآآه “تخفت الأضاءة عليهما وتعود على الرجل المطبق كفيه على رقبته” .

الرجل : آآآآه إلامَ أيتها الذكرى الموجعة تطارديني في صحوي ونومي،لِمَ عدتِ من جديد،ألا يكفيك هذا العمر الطويل من العذاب وتأنيب الضمير،متى تَكفي عن ملاحقتي،آآآآآآآآخ ياقلبي،أيتها الخزانة المملؤة بالذكريات المؤلمة،أما آن لي أن أتخلص من عبئ وجودك في جسدي النحيل،لِمَ كلما حاولت أن أنساها تعيد عليّ حكايتها،لِمَ لا يتوقف قصاصك الأبدي وتعتقني من ذنب قتلها الثقيل،لِمَ لا”تعود الأنارة لأس وكافي ويدوران حول الرجل” .

أس : إنه ذنبك وينبغي أن تتحمل وزره الثقيل .

كافي : لاتصغي إليه،حاول فقط أن تنتزعها عن قلبك،حاول .

الرجل : لا أقوى على إنتزاعها،انها مشتبكة مع الدم في قاع قلبي .

أس : إذن هي مصيرك ولن تقوى على الهروب منه .

كافي : لاتصدق به،حاول وستنسى وتنام .

الرجل: بِمَ ولاشئ هنا سوى الخمرة .

كافي : بالخمرة !

الرجل : الزجاجة أين الزجاجة،سأسدل الستارعلى قصتها،لقد خانت وماتت وهذا كل شئ”يشرب جرعة كبيرة” .

أس : لن أعتقك من وزر هلاكها أبداً،أنت مَن قدتها للخيانة وأنت من قتلتها وسلختها وحولتها حذاء للذكرى.

الرجل : “بغضب”كافي،كافي،كافي..

كافي : إنه يناديني ياأس .

أس : لا بل يطلب الخلاص مني،لقد طفت أوجاعه الليلة ولاخيار لديه إلا النوم .

كافي : دعه ينام ارجوك .

أس : لابأس ياكافي أنمه .

كافي : “يواجهه”ها انذا اعيد عليك لذة النوم،إنه الوسن الناعم يتسلل إليك،فاستجب له وهيئ نفسك للرقود والراحة والنوم،لقد سرت الخمرة في كل عروق جسدك الظامئ،ها أنت تتشربها وتتثائب وتخدر وتنام،ها أنت تنااام،تنااااااام،تناااااااام”ينام الرجل وتخفت الأضاءة عليه حتى يتلاشى في الظلام” .

أس : هاقد نام وسأوقظه .

كافي : أعلم أنك تتحكم به،لكنني أطمع بهدنة له،لقد أتعبته كثيراً .

أس : بعد أن إستفحلت أنا ووهن هو فلا هدنة أو خلاص .

كافي : إن هذا القرار قاسٍ ياأس .

أس : لست المسؤول عن هكذا قرار بل هو ياكافي .

كافي : مَن ياأس ؟

أس: أبوه !

كافي : أبوه !

أس : أجل تعال وأنظر “يصطحبه للمعرض الزجاجي ويستخرج منه حذاءاً صغيراً لطفل” .

كافي : لمن هذا الحذاء ؟

أس : “يشير للرجل”حذاءه الأول وقد إبتاعه له أبوه حينما كان صغيراً،كان يعامله كما لو كان وردة .

كافي : الرجل .

أس : بل الحذاء .

كافي : لماذا ؟

أس : لأنه كان يخطط لأن يرث إبنه عنه،مهنته في صناعة الأحذية وترقيعها .

كافي : كيف كان يفعل ذلك ؟

مرَّغه منذ صغره في كومة من الأحذية القديمة،جلبها له ليلعب بها ويألفها أمام بيته الصغير،كومة إستحالت مع الوقت الى تل كبيرمن الأحذية،في جوفها العفن كان يحيا الصغير ويستنشق بنشوة الروائح المختلفة للأحذية القادمة من البلدان البعيدة .

كافي : تنتشي رئتاه بذلك العفن الجديد وتتغلغل الروائح الغريبة في كل دمه،حتى تستحوذ عليه وتصبح جزءاً لا يتجزأ من حياته البسيطة .

أس : في الأيام القائظة كان ينام في حضن الأحذية المسجاة على العربات في وسط المدينة.

كافي : أما في الأيام الباردة فكان يلتحف بها .

أس : لذلك نما كحذاء !

كافي : ومثل أي حذاء كان يحمل بلا إعتراض أي قدم ولن يبالي إن كان هذا القدم لطاغية أو قواد أو نبي .

أس : في هذا الفضاء المريب نما ولا هم له إلا إرضاء مَن يحتذيه .

كافي : كم كانت حياته تافهة ؟

أس : بل قاسية،شكلهّا له أب قاسٍ على هواه،يرى أبنه يكتسب طياع الأحذية ودونيتها ولايكترث،يتابعه وهو يتحول من إنسان متبوع الى كائن تابع لايستطيع أن يحيا بلا سيد كأي حذاء .

كافي : ألم يفكر ولو للحظة بالخلاص من هذا الذل ؟

أس : لم يتجرأ على التفكير أو التغيير والتمرد لذا قرر ان يكون كما أراد أبوه إسكافياً .

كافي : لاضير في هذا،انها مهنة شريفة .

أس : أي شرف في هكذا مهنة ؟

كافي : كل الشرف في إعادة الحياة الى حذاء أنهكه طول التجوال في دروب الحياة الوعرة .

أس : هراء !

كافي : بل إنتشاء في ترقيع أي حذاء أو صناعته لاسيما إن كان لأنسان فقير أو حافٍ.

أس : كافي،حتامَ تبرر وضعه البائس،انظر الى حاله ؟

كافي : ماباله،انه في أفضل حال،ملك في صومعته ولامنغص له الآن سواك .

أس : أية مملكة تلك الخاوية إلا من الذكريات الموجعة ومن زجاجات الخمر وروائح الأماسي الباردة .

كافي : لا ياأس لا ليس المكان بارداً،انه مازال ساخناً ومطلوباً .

أس :  بل بارداً وملفوظاً يديره صانع عجوز ووحيد ومنبوذ يقطن في محلٍ آيل مثله للسقوط  .

كافي : تكذب .

أس : أنها الحقيقة ياكافي،فالناس اليوم مهوسين بأحذية جديدة تم إستيرادها من الدول البعيدة،أحذية لها مقاسات وجلود صناعية والوان مختلفة .

كافي : لن يطول الوقت وسيلفظها الجميع حينما يخدد طقسنا القاسي جلود أحذيتهم الجديدة،سيعلنون أمامه عن ندمهم على إستبداله”يقاطعه”.

أس : كافي يامجنون كافي،لِمَ تتكلم عنه هكذا،لِمَ تدافع عنه،إن المعرض الزجاجي أمسى مقبرة للكثير من الأحذية البشرية،يجب أن نطمرها ونطمر معها صاحبنا أيضاً،يجب أن نسدل الستار على هكذا مهنة مذلة،يجب ان نقضي عليها حتى لايظهر لنا صانع أحذية آخر،يصيّر جلد أخيه الى حذاء،هيا ياكافي لنحطم المكان  على رأسه”يمسك مطرقة” .

كافي : لا لن أنقاد الى هذائك الغريب،سأتركه يحلم بطوابير الزبائن وبقدوم حبيبته من الغياب .

أس : انك مجنون ياكافي .

كافي : بل عاقل يرنو للخلاص من ثقل ماضيه الموجع .

أس : حرره ياكافي من أوهامك ودعه يحلق عالياً بلا ذكريات موجعة .

كافي : انك تدعو الى موته ؟

أس : أجل ياكافي،يجب أن يموت .

كافي : لكنني سأموت .

أس : وأنا أيضاً سأموت .

كافي : أرجوك ياأس .

أس : بل أنا الذي أرجوك،لِمَ يبقَ على قيد حياة ليس فيها غير إنتظار مرير لعدم سيحل عاجلاً أم آجلاً،عدم ساهم في إرساء وجوده أب كبله بمهنة قاسية لم يجنِ منها غير ذكريات موجعة،عدم أكده طاغية مجنون مرغّه بالذل في حروب كان يخرج منها خائفاً ومندحراً ومهزوم،عدم يرمز لحياة موحشة وباردة لا أسرة له فيها ولاأب أو أم،ليس غير زجاجة خمر تنادمه وحشته وتملأ حياته الخاوية بنشوة كاذبة وأحلام باطلة وهلوسات مرعبة،لِمَ يبق على قيد كل هذا الخراب،لِمَ ياكافي ؟

كافي : هيا يا أس هيا،انني جاهز”يتقدم أس ويطبق بكلتا يديه على رقبة كافي”

أس : وأنت أيضاً ياكافي هيا،إنني الآخر جاهز”يطبق كافي بكلتا يديه على رقبة أس،يخنقان بعضهما البعض ويتطاوحان مع خفوت الأضاءة التدريجي عليهما وعودتها على الرجل الذي يتطاوح وهو مطبقاً على رقبته” .

الرجل : هيا ياإلهي الرحيم،أأمر ملاكك أن ينتزع من جسدي أمانتك الثقيلة،لم أصنها ياإلهي ولاذنب لي في ذلك،إنهم الآخرون مَن أوجعوها وسنوّ العذاب لها،حررها ياإلهي من عفونة القنادر التي عاشرتها لعقود وعقود،أعدها الى ماكانت عليه سابقاً،بريئة وبيضاء وصافية قبل أن تمتهنها تلك الحرفة الحقيرة،حرفة الأس …”يتداعى الرجل ويتردد الصوت في الفضاء”كافي أس  كافي أس  كافي أس   كافي “تتلاشى الأضاءة تدريجياً ويخفت معها الصوت حتى ينقطع مع الظلام” .

ستار

 

 

 

 

كركوك 2020/10/10

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock