مقالات ودراسات

أحمد الماجد يكتب: الإخراج المسرحي وسور النقد العظيم  


المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات

ـ

 

أحمد الماجد

العراق

 

استفاد الناقد المسرحي في تطوير مناهجه من العلوم الإنسانية، وأصبح أكثر تخصصاً من ذي قبل متجاوزاً المناهج الانطباعية والنفسية والاجتماعية والتاريخية، وانعكس ذلك على مجمل التصورات العامة لفن المسرح وبضمنها عمل المخرج، وقدرة الناقد على التأويل والإشارة إلى معانٍ خفية، بحيث تصبح فاعلية عمله منطلقة من تفسيره للعرض المسرحي، الذي يوفر فرصة كبيرة للمقاربة النقدية في اكتشاف الأنساق التواصلية التي يمكن أن ينتجها اشتغال المخرج على علامات العرض.

لذلك، بات دور مخرجي المسرح في الوقت الراهن أكثر سعة وتعقيداً، بالنظر لوجود المدارس الإخراجية المتعددة وكذلك القراءات النقدية المتعددة، والنصوص المسرحية الكثيرة التي تتطلب دراستها دراسة وافية، ودخول التكنولوجيات والتقنيات في بنية العرض المسرحي، ومع تطور علم المسرح، شأنه شأن باقي العلوم الأخرى، توجب على المخرج مضاعفة جهوده من أجل الوصول إلى عتبات ذاك التطور على أقل تقدير.

كما أن تعدد وتنوع المهام الإبداعية للمخرج، فرض عليه أن يقابلها ثراء في القدرات الإبداعية عنده، فهي المهنة الأكثر احتياجاً إلى تنوع في المواهب، وإذا أراد الإنسان أن يكرس نفسه لهذا العمل المعقد فينبغي عليه أن يتمتع بالمواهب المناسبة من الطبيعة ولو بشكلها البدائي، بعد ذلك يستطيع تطوير الملكات الطبيعية بواسطة تمارين معينة للوصول إلى الحد الأدنى من العملية الإبداعية.

من هنا جاء النقد كضرورة لا غنى عنها، مثل علامة دالة ترشد إلى جوانب لم يكن المخرج على وجه الخصوص قد فطن لها، فضلا عن أن النقد يشعل روح التنافس بين الفنانين ليرتقي بأعمالهم، وكذلك يكشف عيوب المنتج المسرحي ويمهد في أحيان إلى اكتشاف أشكال جديدة للعمل المسرحي، إلا أن كل ذلك لا يمكن أن يكون ما لم تكن العلاقة بين المخرج والناقد على وفاق ووئام ورضا، وكذلك قبول واقتناع بطروحات الآخر، فأن أختلف معك لا يعني أنني أكرهك، أن أخالف رأيك وما ذهبت إليه لا يعني أنني أحيلك إلى عدم وكأنك لم تكن.

والنقد لا نقصد به النقد الصحفي أو النقد الانطباعي، فنقاد من هذين الصنفين، هما في حالة وئام متبادل مع المخرجين، إذ إنهما يكتفيان بملامسة سطحية عامة للعرض المسرحي، دون الدخول إلى عمق وتفاصيل العرض، ويحدثون أحياناً تشويشاً على فهم القارئ في حين أن أسس النقد الحقيقية تقوم على دور الناقد في خدمة المجتمع والثقافة المسرحية بحكم أنه الحكم بالنسبة للعروض وهو قارئ أكثر وعيا وخبرة وإلماما بالأفكار والتقنيات، وعدد لا بأس به من النقاد المسرحيين بلا رؤية للأمور ويكتفون بتقديم وجهة نظر انطباعية وقراءة صحفية عن العرض المسرحي، فغياب الناقد المسرحي المتخصص في الندوات التطبيقية التي تلي العروض وفي الصحافة على وجه الخصوص، وتولي المحررين الثقافيين مهمة النقد المسرحي من دون أن تكون لهم دراية نظرية ولا تطبيقية بالمسرح، هو ما يجعل ما يكتب في الصحافة من نقد مسرحي فاقداً للموضوعية في كثير من جوانبها.

فمنذ أن ولد النقد، والعلاقة على طرفي نقيض بين المخرج والناقد، فالأول صانع، والثاني باحث عن أوجه ومكامن الخلل التي تركها الصانع وراءه دون أن يتمها، فلا هذا يرضى بفضح عثراته، ولا ذاك يقبل بالتغاضي عنها، فيحتدم الصراع بينهما حتى يصل حدّ القطيعة المبطنة، أو العداوة الكامنة التي قد تنفجر في لحظة، وكم من ناقد وصف بالعته أو الخرف، لأنه قال رأيه الصريح بالعرض، وكم من مخرج وجهت إليه أحدّ السهام كون رؤيته لا تتفق مع هوى الناقد، وكلاهما لا يصغيان لكليهما. من أجل ذلك، ومن أجل التوفيق بين الناقد المعتز برأيه، والمخرج المتمسك بأدواته، وجب السعي في عقد هدنة أو إقامة صلح بينهما عبر تغيير مفهوم النقد عند الإثنين من كونه ساحة للصراع ونثر العثرات على الطرق، إلى كونه منطقة للنقاش والتحليل والتفسير والتأويل.

فمهمة الناقد المسرحي اليوم اكثر عسراً من أية مهمة نقدية تشمل قطاعا ثقافيا أو فنيا آخر، باعتبار أن المسرح مجموعة مكونات كثيرة، مدارس وفلسفات ومكونات متباينة ومفردات وأشخاص وموسيقى وإضاءة وأصوات ومفاهيم وأفكار وقوالب وغيرها، كلها تجعل المهمة في صميم المسؤولية الخطيرة وتحتاج إلى قدرات واعية كبيرة إن لم نقل إلى مؤسسات تعنى بهذا الفن العظيم.

إن المخرج المسرحي المنظم، هو الذي يراه الناقد في كل شيء، في الميزانسين والديكور والمؤثرات الصوتية والإضاءة وفي المشاهد الجماعية، ويدخل في اختصاصه جميع عناصر العرض المسرحي وفي مقدمتها إبداع الممثل الذي يجب أن ينسجم مع بقية العناصر في كل واحد متكامل.

ويرى المخرج الروسي الشهير الكسي بوبوف أن على المخرج حشد الجهود العامة والفردية في سبيل تحقيق الخطة الفكرية والفنية الموحدة للعرض المسرحي، وهي تتحقق من خلال فن التكوين الإخراجي، فهو مدعو لأن يعطي كل صور العرض المسرحي توافقاً عاماً، وجميع الأفعال الدرامية فيه منطقية مشروعة، وأخيرا كل أقسام العرض المسرحي تناسباً ضرورياً، فالمخرج مثله مثل الكاتب والرسام غني بالوسائل التعبيرية، غير إن امتلاك حرية التعبير الفني عند المخرج أمر في غاية الصعوبة، ذلك أن وسيلة فنه مادة حية ومعقدة هي الإنسان، الممثل.

من هنا نرى أن المخرج المسرحي الواعي والمتمكن من أدواته، هو ناقد بنفسه، غير إن قربه من العرض المسرحي واندماجه فيه وانصهاره في تفاصيله، يجعله بحاجة إلى عين أخرى تنظر إلى العرض بحياد ومحبة وهي بما لا يقبل الشك أو الجدال عين الناقد. المخرج المسرحي يختار طرق التفسير والتأويل للنص فيبدع عرضا مسرحيا، بينما يسلك الناقد المسرحي عادة طرق التحليل، أي تحليل ما آل إليه تفسير المخرج. فتفسير المخرج ليس محددا بشروط وهو غير محدد بقواعد ثابتة أو جامدة، انه الاجتهاد الإبداعي الذي يوظف طاقات ومفاهيم لم تفكر يوماً أياً من القواعد الثابتة والمعايير باحتوائها والسيطرة عليها، أو بإدخالها ضمن منظومتها الفكرية الخالصة والجاهزة، أما تحليل الناقد فيعتمد آلية قد لا يحيد عنها: الشروط والأهداف والغرض والوظيفة… الخ. كما أن الإبداع يكون على الدوام وليد عملية التفسير والتأويل، والنقد الذي يعتمد التحليل دون سواه يلحق دائما بركب الرؤى الإخراجية الإبداعية فيعيد دائما حساباته مع النص المسرحي ومع العرض المسرحي. إن علاقة النقد المسرحي بالإبداع الدرامي وبالإخراج هو شبيه بعلاقة العلم بالتكنولوجيا، فنحن نوافق البعض الرأي في وجود ممارسة نقدية متطورة وهي رهن وجود تراكم إبداعي متطور أيضا.

العرض المسرحي يتحول من بين أيدي مبدعيه ليصبح ملكاً لمشاهديه، ومن بينهم النقاد، إذ يتلقون العمل المسرحي بحواسهم فيكونون من خلالها مشاركين ومتأثرين، باعتبار أن المسرح فعل الممثل القادر على تجسيد صورة الإنسان الاجتماعي، من ذلك توجب على المخرج استخدام حواسه الخمس في عملية انغماسه في مراقبة العالم بكل تنوع أشكاله فتراه يتحول من أجل هذا بالتناوب إلى رسام تارة وإلى نحات أو موسيقي تارة أخرى، وهذه الحواس يجب أن تكون في حالة جاهزية دائمة لتقبل الحياة بشكل نشيط.

إن منهجية الناقد وشفافيته ومهنيته وخبرته واحترامه لمصداقيته وعمله، وكذلك سعة صدر المخرج والنظر إلى العمل المسرحي على أنه منطقة للنقاش والبحث، هي من ستديم العلاقة الصحيحة بين مخرجي المسرح ونقاده، وستبني سوراً يحمي المنتج المسرحي من الفوضى والاتكاء على الفرضيات الثابتة والأشكال الجامدة.

 

ـــــــــــــــــــــــــ

المصدر: جريدة الخليج


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock