التجارب المسرحية المغربية.. الامتداد والتجديد.. رهانات السـرد” محمد الحر” و تجربة مسرح أكون – الرباط..

المؤتمر الفكري.... مهرجان الهيئة العربية للمسرح الدورة الـ 13

 

المسرح نيوز ـ القاهرة| مسابقات ومهرجانات

ـ

المغرب| الدار البيضاء| إعلام الهيئة العربية للمسرح

 

يوم الجمعة 12 يناير 2023

12:05 – 14:00 : الجلسة الخامسة

مسير الجلسة: لحسن قناني

صاحب التجربة:

  • محمد الحر

المسائل: ابراهين الهنائي

المحوصل: الحسين أوعسري

 

رهانات السـرد

 

تجربة مسرح أكون – الرباط

 

محمد الحر

 

مدخـل

 

في البدء، لابد أن أعبر عن مدى امتناني وسعادتي بهذه الدعوة ، فلاشك أن إعطاء الكلمة للممارس المسرحي اليوم هي خطوة لها رمزية قوية .

الشكر موصول للهيئة العربية للمسرح و كل من ساهم في هاته المبادرة الطيبة . أود أن أعبر عن مدى سعادتي بالتواجد هنا بين فنانين و زملاء أكن لهما الكثير من المحبة والتقدير .

 

في زمن كزمن الحجر ، إبان جائحة كورونا التي منحتنا مساحة زمنية للتأمل في منجزنا المتواضع في فرقة مسرح أكون ،  تبدى لنا أن هناك مسارا واضحا قد سلكنا جزءا مهما على دربه، و وقفنا على معطى جوهري و قار فيه . ذلك أننا في جميع عروضنا  اعتمدنا الحــكي والسرد كوعاء فكري و تقني وجمالي ، في بناء عوالم هذا المنجز.  جل انتاجاتنا السابقة لزمن كورونا ، كانت تعلن عن نفسها على لسان راوي ما ، قد يكون نحن كما حدث في » ترياحين«  التي استأثرنا فيها بالحكي باعتبارنا صانع هاته الفرجة و ساردها و مفككها ، هاته الفرجة التي تنبش في الجانب الخفي والمرعب لفعل الحكي ، أي تلك القدرة الرهيبة على طمس الحقيقة.  وكنا قبل ذلك ، قد سلمنا زمام الحكي لأحد الشخصيات كما في » مومو بوضرسة«  و بعدها في مسرحية » صولو « . ففي العرض الأول تكفل » مومو«  بسرد الحكاية من خلال تتبع مسار قطعة نقدية ، وعبره يسبرعوالم الشخصيات والأحـــداث ، ونكتشف معه تخوم الذاكرة والنسيان ، و نتابع نفس الحكاية التي تروى مرتين و بتفاصيل مختلفة تغير باقي الحكاية.  أما في » صولو«  فإن الحكاية تأتي في شكل شهادة حية ترويها الشخصية الرئيسية زهرة/أحمد ، تحاول فيها تصحيح السرديات التي رويت عنها ، وعن حقيقة الكذبة التي دامت عشرين عاما ومسخت هويتها.

 

1

لماذا الســــــــــــــرد ؟ و لماذا الحكي أساسا ؟ لأنه ، بخلاف القول الرائج منذ عصور خلت، قد نغامر بالقول أن ديوان العرب لم يكن هو الشعر، بل الحكاية . فليست هناك ، على الأقل في نظرنا ، قبيلة تستطيع التزود بأخبار حيوية عن القبائل الأخرى ، وعن الكلأ والمرعى، وعن أحوال الطقس والتجارة ، وعن طرق القوافل من خلال معلقة ما ؛ بل من خلال الحكايات التي تتناسل هنا وهناك و تتناسل معها الأخبار .

 

لماذا الحكي ؟ لأن للعرب ولع خاصة به . ألم يستأثر العرب بأمهات المتون الحكائية؟ أليست “الليالي” و غيرها، دررا من درر فن الحكاية التي لازالت تمارس سحرها على باقي الحضارات الإنسانية حتى اليوم ؟ أليست الحكاية ، هي الاستراتيجية الأولى للبقاء على قيد الحياة ؟ ألا تحكي شهرزاد لكي تراوغ الموت ؟ أليست الحكاية ، هي النص المؤسس للعقل العربي ؟ أليست الحكاية ، هي الاستراتيجية الأساس التي يتأسس عليها الخطاب السياسي العربي ، للالتفاف بعيدا و حول السؤال المباشر بدل الإجابة عنه ؟ أليست الحكاية ، هي إحدى الخصائص التي يتفرد بها الإنسان عن باقي المخلوقات والموجودات لكي يكون إنسانا؟ أليست الحكاية ، في جوهرها ، هي “أثر” يتوسل الخلود؟ (أنا أَحكي ، إذن أنا موجود ” أو” أنا أُحكى ، إذن أنا موجود ! ) . ألا تقوم الحكاية ، شأنها في ذلك شأن اللغة نفسها ، على لعبة مزدوجة ومقلقة ، هي ثنائية الإظهار والإضمار ، ثنائية الكشف والستر ، لعبة الذاكرة والنسيان ؟ أليست الحكاية في جوهرها نص لا يكتمل إلا بتعدد الروايات ، وبالتالي هي كتابة تتأسس على المحو؟

 

يعترف عبد الفتاح كيليطو أن اكتشاف عوالم بورخيس هو بمثابة حدث مليء بالدهشة ، و يعبر أيضا بنوع من الندم عن الوقت الذي ضاع قبل اكتشاف هذا الكوكب الفريد الذي يدعى بورخيس ، الذي يفتح آفاق و سعات الســـرد على عوالم لا متناهية من الخلق والابتكار ؛ بورخيس الذي يستخرج السحـــر من متون الواقع البسيط.  اكتشفت بدوري بورخيس بنفس الدهشة والإحساس بالندم من خلال اكتشافات أخرى ؛ اكتشاف عبد الفتاح كيليطو نفسه ، وعبد الكبير الخطيبي ، و ادوارد سعيـــــــد ، وجـاك دريدا ، و الصادق النيهوم و غيرهم..  من خلالهم اكتشفنا لذة السرد وسحر تفكيك الخطاب و لغة الهجنة.  وكنا نجد ، من جهة أخرى ، في فن الرقص ، والتشكيل ، والشعر ، وفن المعمار ، والتصوير الفوتوغرافي ، مواردا مهمة من المعابر و الأسئلة التي من شأنها أن تضعنا على الدوام في حلقة مستمرة من البحث ، و من الشك.

إن توجه مسرح أكون نحو الحكي لم يكن وليد الصدفة ، و لا يمكن أن نقول أيضا أنه كان اختياراً واضحَ المعالم منذ البداية . في البدء ، وفي حدود سنة 2006 ، كنا ، مجموعة من المخرجين الشباب ، نخوض جدالا حيويا حول واقع الانتاج المسرحي المغربي آنذاك ، وما يقدم للجمهور المغربي . اتجهت مجموعة من الفرق المسرحية نحو تبني صيغ مختلفة ، كان أهمها صيغتين . من جهة ، مسرح موغل في النخبوية ، وكان أصحابه ينعتونه بالمسرح “التجريبي”. ومن جهة أخرى ، مسرح موغل في الشعبوية ، وكان أصحابه ينعتونه بالمسرح “الشعبي” . مسرحان يبتعدان ، كل بطريقته ، عن سؤال الجمهور . وكانت بينهما اشراقات تؤسس لنفسها مساحة في “الما بين” . كانت فرق – عاصرتها – كمسرح الشمس ، مسرح اليوم ، مسرح الناس ، والعروض الأولى لمسرح تانسيفت ، تبعث الأمل في هاته المساحة التي أُسس فيها مسرح أكون بمبادرة شخصية ، بعد مرورنا بتجارب تعاملنا فيها مع فرق أخرى . تجارب ، كان عنوانها هو خيبة الأمل ، و الوقوف على مدى الاختلافات الجوهرية لتصورنا لهذا الفن ، ومدى قدرتنا على – ليس الجواب –  بل على طرح سؤال مقلق ، لا يمكن لأي فنان مسرحي أو فرقة مسرحية أن يكون فنانا أو فرقة بالمعنى الحقيقي إذا لم تتم مواجهته ؛ إنه سؤال “جدوى الفن والفنان” ؟

 

في هاته السياقات ، جاء تأسيس مسرح أكون بمثابة رد فعل عملي.  كان الهدف من وراءه هو البحث في فضاء العتبات ، بين مسرح ، هو في الوقت ذاته، شعبي دون أن يسقط في الشعبوية و يفرط في التسطيح و الاستسهال ، و تجريبي دون أن يغرق في النخبوية ويفرط في التعقيد والغموض . مسرح قادر على أن يخاطب الجميع ، وقادر على خلق المتعة الحسية  والجمالية والفكرية.  ببساطة يمكن القول أن المبحث الأساسي لفرقة مسرح أكون هو مسرح يخاطب مغرب اليوم .

 

و في هذا السياق بالذات ، توقفنا عند تجربة الطيب الصديقي ورؤيته للمسرح ، من خلال مسرحية “ديوان سيدي عبد الرحمن المجذوب” ، باعتبارها أول مؤشر لمنعطف تاريخي لرحلة الأشكـــال الفرجوية المغربية ، من فضاءاتها الأصلية نحو فضاءات المسرح الغربي ؛ وما نتج عن هاته الرحلة من أشكــال ابداعية متعددة المــــلامح تسعى إلى إثبات وجودها المشروع في التاريخ خارج أية وصــاية ثقــــافية “نهائية”  أو الانتساب إلى هوية “نقية”.

يرى الصديقي أن لا وجود لمسرح مكتف بذاته . فالمســـرح الغربي ، الذي كان يستحضر الأشكال الفرجوية التراثية المحلية على مر العصور ، كان بدوره مسرح هجنة بامتياز . و يكفي أن نستحضر هنا رحلة المسرح الغربي نحو الشرق الذي وجد فيه مخرجا مهما لحالة العقم التي كان قد وصل إليها . وهو ما دفع الصديقي إلى الإهتمام بهذه الأشكال باعتبارها المادة الأساسية لمسرح مغربي . وفي نفس الوقت الذي كان يدعو فيه إلى استثمار فعلي لها ، كان يدعو إلى الانفتاح على تراكم الخبرات التقنية الغربية . هذا الانفتاح دفع بالصديقي الى خلق كتابة ركحية “متفجرة تقوم على التوليف بين نصوص سردية ، ومشاهد حكائية وقطع شعرية ومتواليات غنائية/حركية ” حسب تعبير حسن المنيعي كما  ورد في دراسته  المسرح المغربي من التأسيس إلى صناعة الفرجة.

 

هذه الحاجة إلى إنتــــــــــــــــــاج هجــــــنة مسرحية

تستحضر تقاليد الحكي العريقة في تراثنا ، و تستوجب إعادة ابتكار هذه التقاليد ضمن منظومة المسرح المحكي وليس إعادة إنتاجها من حيث هي نماذج ثابتة .  وهل سنجد أفضل من عبد الفتاح كيليطو لإضاءة هذا السؤال، وهو يقول في مقدمة دراسة المقامة الحريرية “الغـــــــــائب” و في قراءة الأدب العربي القديم : ” تتحدث بعض الحكايات عن فتاة جميلة حكمت عليها ساحرة شريرة بالنوم لمدة مائة سنة. فاستغرقت في سبات عميق وبقيت على هذه الحالة إلى أن أتى فارس الأحلام ذات يوم فانحنى عليها وقبلها فاستيقظت واستقبلت الحياة من جديد . يبدو لي أن المؤلفات القديمة توجد اليوم في وضعية شبيهة بوضعية الفتاة النائمة . فهناك من يحسبها ميتة فيبتعد منها ويمضي لا يلوي على شيء . وهناك من يقترب منها بقرع الطبول فتستيقظ مذعورة ثم تعود توا إلى نوم أعمق من النوم الأول . وهناك أخيرا من يقترب منها بود وعطف فيلمسها برفق ويقاوم نزوعها إلى النوم بلطف ، وعندما تفتح عينيها يأخذ بيدها ويساعدها على التكيف مع عالمها الجديد ” .  لا شك ، و لنحاكي هنا تعبير كيليطو ، أن الطيب الصديقي  من هذا الصنف الأخير ، ولا شك أنه قد أفلح في إخراج الموروث الشفهي المغربي من غيبوبة دامت عدة قرون ، من خلال اخضاع الحلقة و الحكي  لتمسرح يستدعي مناهج حداثية وتراثية لتأسيس جماليات ذات ملامح مغربية وكونية في نفس الوقت . هذه هي أهم المنطلقات التي انطلق منها مشروعنا الفني . وكان أحد العروض المسرحية التي قدمناها يحمل عنوانا ، هو في جوهره رسالة احترام و تقدير للطيب الصديقي ، كان العنوان هو “مومو بوضرسة” في إحالة مباشرة لمسرحية “مومو بوخرصة”.

 

2

كنا نسعى دوما إلى تناول مقاربات حديثة في الاشتغال المسرحي ، من خلال عدد من الإنتاجات التي تعنى بالثقافة الشعبية المغربية ، و تستثمر في الوقت ذاته في مستجدات المنجز الفني الغربي المعاصر؛ ومن خلال استبطان أجناس إبداعية مختلفة .  فبعد استنطاق الحكاية والمتون الجمالية للثقافة الشعبية خاصة فن الحلقة وفن العيطة ، في “مومو بوضرسة” و”الباشا حمو” و “العلوة”  ، استنطقنا عوالم ألف ليلة وليلة و بوليفونية السرود لنفس الحكاية في مسرحية » شـــــوكة « ، قبل أن نقارب مسرحية هاملت على ضوء تداعيات الربيـع العربي وحركة عشرين فبراير ، مرورا باستنطاق مسرحية » مهاجر بريسبان«  لجورج شحاذة ، وإحياء عوالمها بما يستجيب وخصوصية البيئة المغربية ، مواصلين بذلك مشروعنا الجمالي الذي كنا قد أعلنا عنه ، فعرض » ترياحين«  شكل بالنسبة لنا استمرارا لما كنا قد شرعنا فيه سابقا وطورنا فيه جملة من التقنيات التي تستقي لغتها من جماليات السرد البصـــــــــــري التشكيلي و السينمــائي الذي تذوب فيه أدبية النـــــص.  في حين شكلت مســرحية » صولو « معبرا فنيا لملامسة سؤال الإنسان ، في شموليته وفي عزلته أيضا ، وهو يعيش حصار الذاكرة بصيغة الجمع و التعدد ، ويحاول الانعتاق منها ومن الحدود التي تضربها عليه؛ و شكلت أيضا معبرا أساسيا لمسائلة مغرب اليوم  من خلال مسائلة مغرب الأمس وذاكرته ، وما يشوبها من تزوير باسم التاريخ والدين ، وباسم قيم مزيفة تسعى إلى رسم الخطوط الحمراء أكثر مما تسعى إلى تحرير الإنسان وتفجير  طاقاته .

 

ننطلق دوما من مساحة ذاتية صرفة ، ونستخدم أدوات لا نقول جديدة ، بل مغايرة لأنها لا تنتمي لطبيعة العروض التي نعاصر انتاجها ، و لا تنزوي في مساحة الاغتراب عن وجدان الجمهور أيضا . نلتقط لفتة جمالية صغيرة ، نفككها إلى أن تتحول بسلاسة إلى منبع تتدفق فيه سرديات متعددة ، صور مكثفة و نماذج إنسانية تحمل حيوات تشتبك مع الضعف الإنساني ، تلك الهشاشة التي تطفو على السطح كلما حاول السرد حجبها ، هشاشة الذاكرة ، هشاشة الحــــــاضر . هشاشة إنسانية معززة بتأمل جمالي خالص . من هنا تنطلق شخصياتنا لتفعـــــل و تحكي ، وهي هاربة من ماضي أصبح موغلا في موقع دفين في الذاكرة . تنطلق الشخصيات لتسرد ، وهي تأخذ في نفس الوقت مسافة عن الماضي ، تبتعد عنه لتعود إليه في النهاية بشكل أوضح ، بدون أوهام . فالحكي لا يكون إلا بأخذ مسافة عن الفعل . الحكي هو وحده فعل ؛ هو نتاج سيرورة بالإضافة إلى كونه نتاج تجربة . وزمن فعل الحكي يشبه زمن النبوة . فأن تحكي معناه أنك تحكي عن تجربة وعن مسافة . فمن الصعب مثلا أن نتخيل الطفل حكواتيا . هاته المسافة ، تمنحنا مساحة للحرية ، فكريا وفنيا ، مساحة لتفكيك السرديات ومراوغة الطابوهات . مساحة جمالية مفتوحة على احتمالات التعـــــدد . و كما أن الحكي يستلزم هاته المســاحة ، فأداء الممثل بدوره يستلزم أداءا مغايرا و حضورا مختلفا . هاته المسافة تفرض أيضا تناولا لغويا وكتابة إجرائية مختلفين . و هي ما يسميه الدكتور خالد أمين ، في معرض حديثه عن مسرحية “الباشا حمو” بسردنة الدراماتوروجيا “حيث نعيش سرودا بوليفونية متعددة الأصوات تؤكد ثقوب الذاكرة بنفس درجة ثقب الريال الذي يشكل ليس فقط محور تقاطع الحكايات المنسوجة في المسرحية ، بل يرمز أيضا إلى هفوات الذاكرة ..”

 

وهذا ما يدفعنا للغوص نحو مفهوم آخر ، طورناه عرضا بعد عرض . هو مفهوم يقضي بالنزوع عن السرد الأحادي ، ليستكشف بدلا من ذلك ، مداخل متعددة للسرد ، حتى في بنية الحوار والصراع . نحن لا نقف إلى جانب شخصية ما ، بل نسعى إلى خلق حجاج بين الشخصيات وخطاباتها . وبالتالي إلى خلق تناصات متعددة تسمح لنا بتصريف سؤالنا الرئيسي حول هشاشة الذاكرة و التباس السرديات التاريخية .

 

ولتفجير طاقة السرد ، نحتاج أولا إلى تفجير طاقاته التجريدية والتشكيلية حتى يصبح مفردة من مفردات اللغة المشهدية التي تتطلب العمل على الجسد وطاقاته الشعرية ، وعلى الفضاء واحتمالاته الجمالية ، على الصورة كتشكيل ، من خلال الملابس ، الأشياء ، الضوء، الظل ، العتمة ، و على الموسيقى  باعتبارها عنصرا دراميا و شخصية أساسية و ليس زخرفا إضافيا.. يستدعي السرد تعبيرا يكون مجالا للإفصاح والإضمار ، تعبير لا ينقطع عن الحكي حتى حينما يتوقف الكلام أو يغيب ، تعبير على ما لم يقل. تعبير من خلال لـــغة الجسد في بساطته وفي تجريديته وشعريته . تعبير من خلال الفضـــاء كمجـــال للشعور واللاشعور .. من خلال البحث في إمكانيات الفراغ ، من خلال فن البساطة والتقشف باعتباره فلسفة عملية، في البحث عن السهل الممتنع ، أي تلك البساطة الممتلئة بالجمال وبالمعنى . وهاته البساطة التي يتطلبها الســـــرد ، والتي تنشد الوضوح والغرابة في نفس الوقت ، تمكننا من سرد ما لا يمكن سرده باللــــغة المنطوقة ، و تسمح لنا أن نستثمر في فنون و مجالات أخرى ، فكثيرة هي السرود أو الأنواع السردية كما يقول رولان بارث ، ” وهي تشمل جميع أجناس الأدب واللغات والثقافات الشفوية والمكتوبة ، وباقي الفنون . السرد حاضر في الصورة الثابتة والمتحركة ، والايماء ، والأسطورة ، والخرافة ، والأقصوصة ، والحكــــاية على ألسنة الحيوانات ، والتراجيديا ، والـــدراما ، والكوميــديا ، والسينما ، والمنحوتــــات ، والنقوش ، والأخبار الصحفية ، والمحادثات ، وحتى في صفات الطبخ .. ” فضلا عن ذلك فالسرد كوني لا يحد بحدود جغرافية ، ولا يولي اهتماما للظروف الزمنية ، يبدأ مع حكاية الانسان ويستمر بوجوده ، فلا يخلو أي مجتمع من السرود . إنه  عبر  ثقافي وعبر تاريخي . إنه باختصار الحياة كما تخلص إليه الدكتورة أم الزين بنشيخة المسكيني . ونحن حينما نبحث عن ضالتنا الجمالية في فنون أخرى ، فإننا نبحث في العمق عن ما هو مسرحي فيها ، أي بصيغة أخرى عن مظاهر التمسرح فيها التي تفرض استنطاق الجسد الناطق والنص الراقص في نفس الوقت. و تفرض استنطاق الصــــــــوت الذي هو أحد الركــائز الأساسية للسرد ، بل للكتابة نفسها . الصوت هو كتابة . ومن ثم اهتمامنا بذلك الوسيط الذي يستطيع عزل الصوت والتحكم فيه وبتغييره ، الميكروفون كوسيط وكقناع ، وما يفرضه على الممثل/المؤدي من استشراف للتقشف و لأداء مغاير . بالإضافة إلى استعمال وسائط أخرى ، كالصورة الفوتوغرافية ، الفيديو ، النصوص المصاحبة كمنمنمات موازية أو حفريات على الشاشة ، و الأصوات الداخلية / الخارجية .

 

أليست لوحة أحذية فان جوخ ســـــــردا ؟ أليست مقطوعة سوناتا القمر ســــــــردا ؟ أليست الصورة ســــــردا ؟ أليست السينوغرافيا ســـــردا ؟ أليست الممثل ســـــردا ؟ أليس الضوء ســـــردا ؟ أليس الصمت ســــــردا أيضا ؟  إن السرد الجيد في رأينا المتواضع، هو تلك المساحة الرحبة التي تخول لنا خلق المتعة بصيغة الجمع والتعدد : متعة النص ، متعة السمع ، متعة العين، متعة الروح ، و متعة العقل.  السرد الجيد هو الذي يمنحنا مسافات رحبة لتفجير لغة الفن والسؤال الفكري من خلال تحرير طاقاته ، تحــرير طاقة اللغة ، عربية ودارجة و أجنبية ، اللغة المتعددة التي هي اليوم جزأ طبيعي من هويتنا المتعددة ، تحرير طاقات الممثل ، تحرير طاقات الصورة ، والنص ، والضوء ، والمواد ، والفضاء ، وخصوصا تحرير طاقات الشعر والصمت ؛ الصمت المفضي للسؤال وللتأمل في الذات وفي الآخر.  وهنا تتحقق في نظرنا إحدى أسمى ضرورات الفن.  السرد الجيد في نظرنا ، هو الذي لا يكتفي بسياج النص و أدبيته، بل يسمح بالتوغل إلى تخوم المشهد و الصورة والتشكـــــيل ، و إلى نسج علاقات فرجوية جديدة تفرض على الكتابة ايقاعا وتركيبا مغايرا ، يتوسل مفرداته في اللغة الفيلمية من خلال الحكي الاسترجاعي ، والتحكم بالمشهد ، وإعادته بأشكال وإيقاعات مختلفة ، والإنتقال عبر الأمكنة والأزمنة بأبسط التقنيات ، التي يضمنها السرد من خلال خلق التواطؤ مع المتلقي ومن خلال الابتعاد عن الإيهام و استشراف لغة الإيحاء.

 

إن هذا التعدد و الغنى في صيغ السرد هو ما دفعنا إلى تأسيس “مختبر أكون لدراسة السرديات المسرحية” في إطار البرنامج العام لتوطين الفرقة بقاعة اباحنيني بالرباط ، بدعم من وزارة الثقافة ، وبتعاون مع المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي بالرباط . ينطلق المختبر من مباحث تعي خصوصيات المسرح اليوم ، و التحولات الكبرى التي طورت النظرية المسرحية ومفرداتها.  تعي أيضا ، وخصوصا ، أن المسرح المغربي اليوم لم يعد يطرح نفس أسئلة الهوية المنغلقة ، وأنه اليوم منفتح على صيغ الجمع ، وأنه قد غادر طوعا جلباب اللغة وركب لبوس الصورة ، وأنه يتخلى يوما بعد يوم عن الفضاءات المؤسساتية ، ليبحث لنفسه عن ملاجئ ينتعش فيها اللقاء والحوار مع الآخر.

3

إن فترة التأمل هاته و التي كانت متاحة لنا خلال فترة الحجر الصحي،  أفضت بنا أيضا إلى مساءلة أنفسنا و مساءلة مسارنا المتواضع و طرق اشتغالنا. فبدل أن يمنحنا هذا التأمل لعنة اليقين ، نجده يمنحنا نعمة الشك ليصبح اليقين الوحيد هو أن هذا المشروع/الحلم ينقصه شيء ما . تبدت لنا هواجس و أسئلة ملحة من قبيل سؤال الآخر/المتلقي ، سؤال الآخر والهوية والشكل ، سؤال السرد وتجلياته في علاقته بالجمهور اليوم ، سؤال الفضاء كمحدد عام للتقدم بهاته التجربة ، أي سؤال البحث عن فضاءات تستوعب المسرح خــــــارج حدود المؤسسة المسرحية كبنــــــــاية وكــــــــــبـنـية ، وكفكــــــــــــــر تؤطره شـــروط محدِدة و محدَدة. وهذا باختصار جزء مما يشكل هاجسنا وموضوع بحثنا في الوقت الحاضر .

 

إننا نطمح اليوم إلى تلك الكتابة الواعية ، التي لا تغيب عنها أبدا أنها في الأصل لا واعية.  و حينما استعمل مصطلح “الكتابة” هنا ، فأنا لا أقصد فقط النسيج النصي الأدبي ، بل أقصد أساسا المشهد كــــــكتابة أي الكتابة المشهدية.  أي الكتابة كتركيب ، كتشكيل بكل درجاته وأشكاله . الكتابة كانسياب لا يقبل البرزخية ، و لا يقبل الحدود بين الأجناس ، بل ينفتح على كل العتبات.  الكتابة كمسودة متحررة ، كسيل متحرر ومستقل بذاته ، وله القدرة على تقرير مجرى حركاته و اتجاهاته.  كتابة أخرى تثيرنا اليوم، و نجدها أكثر ثراء و أوسع آفاقا . الكتابة الموازية أو المقابلة أو بتعبير أدق ، الكتابة عن مسافة .

 

تصب تساؤلاتنا نحو المدى الذي يمكن أن تتفجر فيه طاقات السرد اليوم بشكل مغاير .. هل يكفي أن نرسم حدودا لهذه الطاقات أم يجب الخوض فيها بكل بساطة؟  هل يجب أن نكتفي اليوم بعلاقتنا بالجمهور ، في شبه انعزال عنه ؟  ألا يجدر بنا اليوم البحث عن طرائق أخرى لمشاركة هذا الجمهور ؟ ألا يجدر بنا اليوم البحث عن الكتابة بشكل آخر، يضمن للفرجة أن تصير تجربة حية تتفجر فيها العلائق الإنسانية و الجمالية  بدل أن تكتفي بالمحاكاة كطموح ؟ ألا يجدر بنا اليوم أن نخرج من فضاءات المؤسسات المسرحية الضيقة (بكل حمولاتها ورواسبها) لنعانق فضاءات هامشية/ ملاجئ ، تكون قادرة على احتواء الحياة و الطقس الفرجوي ؟

اذا اتفقنا الآن أن المقصود بالكتابة هو الفعل الفرجوي ، سيكون بإمكاننا أن نخلص إلى سؤال : لمن نكتب ؟ و”لمن نكتب؟” هو سؤال إذا طرحناه في غير لغة الضاد ، سنجده يتلون ويتشرب أسئلة أخرى ، وبالتالي يتعقد أو يتفكك ، و من تم يتبدى في شكل أوضح وأشمل وأدق. سنطرح السؤال إذن باللغة الفرنسية مثلا : “لمن نكتب ؟”تصبح هي : « Pour qui écrire ? »  . تصير الكتابة هنا ، كما هي معروفة الآن ، خطابا موجها لمتلقي يتم اختياره بعناية. فكل فنان ناجح لابد أن يكون قد سمع ، في يوم ما ، تلك النصيحة المشهورة من مديري دور النشر والمنتجين والممولين ، و التي تقول أن سر النجاح الأدبي والفني هو معرفة وتحديد الجمهور المستهدف بدقة .

لنطرح السؤال نفسه ، في اللغة نفسها ، لكن بصيغة أخرى . سيصبح سؤال “لمــــن نكتب ؟”  بالصيغة التـــالية: « À qui écrire ? » . لا شك أن الكتابة تفصح عن نفسها هنا بشكل مغاير تماما ، لتصير خطابا صريحا . “رسالة” نكتبها لشخص نعرفه . فالرسالة تفترض علاقة ورباطا سابقين . الرسالة أخت الحميمية ، أخت البوح . في الواقع ، ليس هناك ما هو أشد غرابة من رسالة من مجهول أو موجهة لمجهول. الرسالة ، شأنها شأن المسودة الأولى، هي الشكل النصي الوحيد الذي يسمح لكاتبه بحرية ارتكاب الغلط ، شكلا ومضمونا ، وتداركه في نفس الوقت و دون أن يهدد ذلك نقائها الأدبي . فالرسالة ، في جوهرها لا تأبى بالنقد ، بل تهتم بالأثر . وهي الشكل الأدبي الوحيد الذي لا يفترض التعدد بل يفرض منطق النسخة الفريدة، وفي غالب الأحيان ، المسودة الوحيدة .. الرسالة تُكتَب عن مسافة ، و تَكتُب أيضا عن تلك المسافة .. الرسالة بشتى أشكالها و تجلياتها ، هي مجال بحثنا الآن ، وفيه تشتبك مباحث أخرى. ولأن الرسالة هي بوح حميمي ، فإن هاجسنا اليوم لم يعد هو خلق حكايات مثيرة للاهتمام من خلال أصالة أو قوة الأحداث ، بل النبش في هشـــــــاشة الكـــــــــــائن الإنســــاني و اغترابه و عزلته في عالم من المفروض أنه أصبح قرية صغيرة. النبش من خلال اختراق المساحات الجديدة و المتاحة بين الفنون ، و تخصيب صور مسرحية تروي من خلال البلاغة و المجاز، و تستثير الخيال و تحفزه ، و تدعو المتلقي إلى المشاركة أيضا في كتــــــــــــابة و إعادة كتابة نصوصه الخاصة.

 

فالمسرح هو أولا و أخيرا ، مكان للبصر ، و للإبصار و التبصر .

 

w   w   w

 

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. عودة روح… بعث جديد من رماد مازال يحتفظ بجمر أو شرارة لم تنطفئ بعد.. أم هي انتفاضة ضد التهميش الذي طال أبا الفنون…
    هي على العموم بادرة طبية، و التفاتة نشكر عليها الهيئة العربية للمسرح و كل الفاعلين الذين ساهموا من قريب أو بعيد في هذا البعث الجديد. لعلها تكون انطلاقة فعلية لبعث الروح في مسارحنا بعد زمن من الانتكاس المفتعل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock