مقالات ودراسات

الفنان الأردني “علي عليان” يكتب: كنت في بغداد


المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات

ـ

علي عليان

 

كانت آخر دورة لمهرجان المسرح العربي في بغداد في العام 1994 وكنا شبانا يافعين نحتسي يوميا قهوتنا مع قهوة الراحلين الى الغمام ونحلم بافق علنا نكون يوما ما نريد ، وكانت تجربتنا الشبابية مسرحية ” كلاكيت ” قد حققت نجاحا كبيرا وتم تقديمها في المهرجان التجريبي في القاهرة في العام 1993،

 

ولأن لها هذا الوزن جاءت دعوة لوزارة الثقافة الاردنية للمشاركة في مهرجان بغداد واتصل حاتم السيد بمخرج المسرحية من اجل ان نستعد لنشد الرحال الى بغداد ، كانت فرحتنا لا توصف اننا سنزور بغداد بمسرحيتنا وبدأت الاستعدادات بالتمارين المسرحية الشاقة فالزمن قصير جدا وبما انني اعرف بغداد مسبقا اذ كانت لي زيارتين مسبقتين لها فكنت المتحدث الرئيسي لفريق المسرحية عن أهمية هذه الزيارة ومتعتها من اجل رفد مكتبتنا بالكتب ومن اجل ان نقدم مسرحنا امام تاريخ العراق وفنانينه واساتذته الكبار الذين نعرف اسماؤهم من الكتب والابحاث .

كانت الرحلة البرية بين عمان وبغداد شاقة ومتعبة وتستغرق 14 ساعة وبحافلة كبيرة ولكن كلنا حماسة من اجل الوصول الى بغداد ، ووصلنا الى بغداد فجرا بعد سفر طويل طوال الليل ودخلنا الى فندق المنصور ميليا وذهبنا مباشرة الى دائرة السينما والمسرح من اجل التمارين المسرحية وتم منحنا قاعة كبيرة وبقينا ساعات طويلة في التمارين ، وفي استراحتنا القصيرة سمعنا صوتا في قاعة مجاورة فذهبت متلصصا ونظرت من شق الباب خفية فاذا به تمرينا مسرحيا وبما انني على معرفة مسبقة بعزيز خيون فلحظته مخرجا فتجرأت ودخلت .. ورردت السلام ووقفت فرد السلام من بعيد واستكمل تمرينه وبعد ان انتهى المشهد اقمنا احتفالات السلام .

مسرح الرشيد يضج بالجمهور واغلبهم من الجمهور المثقف فقدمنا عرضا لا يزال صداه الى الان وادركنا لحظتها مدى اهمية الصمت ، صمت القاعة الذي اصابنا بالخوف ، لا حركة لا صوت لا همس لا تململ .. ما الحكاية ؟ هل هناك خلل في العرض؟ هل لغتنا غير واضحة ؟ كيف وهي بالعربية الفصيحة ؟

” بعد غد تعود .. لا بد ان تعود
فتستفيق ملء روحي نشوة البكاء
ورعشة وحشية تعانق السماء
كرعشة الطفل اذا خاف من القمر”

انتابت القاعة موجة تصفيق حادة بعد الاطفاء مباشرة وضجت القاعة بتعبيرات عميقة يفهمها ويدرك الممثل على الخشبة ان كانت عميقة ايذانا بالاعجاب بالعرض وان كانت سطحية اعتيادية ان كان العرض متواضعا ، وبعد لحظات امتلأت خشبة المسرح بالمهنئين والمباركين وعبارات الاعجاب تملؤ المكان .
حينها ادكنا أهمية الصمت للاصغاء
الصمت للاحترام
الصمت لترك مساحة للتفرد والاسترسال للممثل على خشبة المسرح

في اليوم التالي نجلس في هول فندق المنصور ميليا وحولنا مجموعة من الاصدقاء العراقيين واتذكر منهم كريم رشيد ورضا ذياب واذا بشخص يأتي من العمق وصوته يجلجل في المكان .. واقترب اكثر وقال :
وينو هاظا اللى عمل دور كلاكيت؟
نخزت رضا ذياب وقلت له من هذا ؟
قال هذا استاذنا صلاح القصب !!!
الكل وقف مرحبا بالاستاذ وانا تلعثمت وتوترت وامتقع وجهي !!!
وجالت اسئلة سريعة في رأسي ..
يا الله هذا صلاح القصب الذي نقرأ اسمه في الكتب عن تجاربه المسرحية الكبيرة !!!
ماذا يريد ؟
يا ترى الم يعجبه العرض وجاء لبهدلتنا ادبيا ؟؟ فنحن يا استاذ في اول الطريق !!!
ما الحكاية يا عم صلاح ؟
افقت من غفلتي من الحوار الداخلي على لسان رضا وهو يشير الي وكانني متهم غير بريء
وقال : هاظ استاذ !!!
نظرت شزرا الى رضا لانه تخلى عني وسلم رأسي لهذا الاستاذ ..!!
فاذا بالاستاذ يقترب مني ويقبل رأسي …
شنو هاظا عيني شنو هاظا ، قال ؟؟
اصابني الخرس والوجوم واختلطت المشاعر واحمر وجهي خجلا !!!
وجلسنا لساعات طويلة وهو يحدثنا عن العرض ” كلاكيت ” وعن لغة السينوغرافيا فيه ومستويات الاداء التمثيلي ونحن نشعر بالنشوة والزهو ، وتمر الايام والسنوات سريعة ويصبح استاذنا صلاح القصب ليس فقط استاذا بل وصديقا عزيزا نلتقيه في المهرجانات المسرحية في قطر ومصر وتونس وعمان بكل القه وعنفوانه وتاريخه العميق .
في تلك الزيارة اخذت عهدا على نفسي الا اعود الى بغداد مرة اخرى الى ان يحصل متغير كبير لما رأيته من بؤس وشقاء وتعب وارهاق اثر الحصار الشديد وتأثيره النفسي على نفوس البشر بما فيهم المسرحيين والمثقفين وهم من قادة الرأي الذين يمنحون الطاقة الايجابية ، فكيف سيمنحون هذه الطاقة وهم في هذا الانكسار النفسي ؟ وفعلا لم ارجع ابدا رغم العديد من الدعوات للحضور وهانذا أعود الان محملا بكل الذكريات وبكل الشغف والفرح بعودة الحياة الى طبيعتها فهنيئا لاهل العراق كل هذا الالق .
ووقتها عدنا الى عمان محملين بكل الذكريات وشنطات السفر مليئة بالكتب .
وغنينا :
قلي يا حلو منين الله جابك خزن جرح قلبي من عذابك ….
علي عليان- الاردن


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock