حوارات

الكاتب المسرحي أحمد سراج: كل شعب يتغذى ثقافيا على جذوره.. وحيثما ينزف التاريخ يكون المسرح؛ قبلة للعاشقين!

حوار بالصور...


المسرح نيوز ـ القاهرة| حوارات

ـ

 

حوار أمل وافي

 

(أحمد سراج كاتب مصري، مؤسس مشروع: “أدب المصريين” ومشروع “النحو البسيط”، صدر له ديوان: “الحكم للميدان” (طبعتان)، ورواية: تلك القرى” (ثلاث طبعات)، ومسرحيات: “زمن الحصار” (ثلاث طبعات)، و”القرار”، و”فصول السنة المصرية”، و”القلعة والعصفور” (طبعتان – ترجمت وعرضت في مهرجان صوت العالم بأمريكا) و”نصوص الأرض”. وفخ النعامة. ولمسة البعث وبطل الغروب وكتاب: “أدب المصريين.. شهادات ورؤى”. مسؤول الصفحة الثقافية في صحيفة “المشهد”، ينشر مقالاته وحواراته في أخبار الأدب، والأهرام، والأهرام العربي، والخليج، والحياة، والثقافة الجديدة، ولغة العصر، والدوحة، وتراث، والبحرين الثقافية)

 

  1. هل يجب أن يكون المسرح تاريخيًّا؟

المسرح – والفن بشكل عام –  تأريخ بشكل ما، لكن منهجه مختلف، ما التاريخ؟ إنه إجابة عن سؤال: ماذا حدث بالفعل؟ إذن هل ما حدث بالفعل أن مروان بن الحكم تولى مكان معاوية الثاني الذي رفض الخلافة، أم أن معاوية رأى ما جعله يترك الحكم ويراه غرمًا لا غنما؟ وما الذي رآه معاوية؟ هل ألف عين ممن رأت رسول الله مقتولة في طرقات المدينة وما حولها؟ هل ألف فتاة افتضت بكارتهن حين أطلق قائد الجيش الأموي يد جنود ليستبيحوا المدينة ثلاثة ليالٍ، ما الذي جرى؟ ولماذا؟ وكيف؟ هذا ما ذهبت إليه في مسرحية “القرار” ما الذي دفع الضحاك بن قيس أمين الخلافة الأموية إلى أن يكون عدوها الأول؟ هل كانت “حرة واقم” هي الإشارة ليصل الضحاك إلى “مرج راهط”

لكننا نحن الكتاب متواضعون؛ فلا ندعي معرفة الحقيقة ولا ندعي أنها واجبة الثبوت واجبة الدلالة.. الفن هو تأريخ المشاعر حين تتضح أفكارًا وتتجسد أعمالاً وأحداثًا جسامًا..

  1. لكنك في أعمالك التاريخية.. ذهبت لرأس الحكم: أبوعبدالله الأحمر ملك غرناطة، يزيد وابنه وقادة الجيوش.. هل كنت تعيد كتابة تاريخ هؤلاء؟

التاريخ ليس هؤلاء، بل إن أمثال هؤلاء هم من أضاعوا التاريخ بإصرارهم على تشويه سابقيهم، وتعظيمهم، وحين جعلوا المؤرخ موظفًا؛ يؤرخ بتوليهم للعروش؛ يعنيني الثمن الفادح الذي دفعه الناس حين ألقوا في البحر أو عذبوا بعد أن تنازل الملوك عن العروش، يعنيني صرخات الناس تحت سيوف الطامعين في الحكم.. كان يزيد يصطاد الظباء في حوارين حين قمعت ثورة الصحابة في المدينة؛ فبأيهما يؤرخ؟ وإن لم يكن الفن صوت الحقيقة وشعاعها فما هو؟

  1. لماذا اخترت الأندلس مرتين؟ ولماذا بدأت بخروج العرب من الأندلس في “زمن الحصار” ثم عدت لما قبل ذلك بخمسمائة عام في “لمسة البعث”؟

حيثما صار التاريخ ينزف دمًا ودمعًا فهناك مسرح؛ قبلة العاشقين رغم السلك الشائك، ركلة الحارس الجلف لنابليون في منفاه، بين الطلقة المخطئة على ولي عهد النمسا وبين الطلقة القاتلة، غروب شمس الحكم العربي على الأندلس، اقتراب العاشق بين الأمل واليأس من بيت حبيبته المحتجبة، سقوط العاشق الأندلسي من على صهوة الزمان والأمان..

في هذه اللحظات يمكنك أن تجد الإنسان في أوضح صوره، لا غلالة ولا حجاب ولا قناع..

في البداية أسرني سبب سقوط الأندلس، كان هناك حنين للسؤال الكبير: لماذا طردنا من الفردوس؟ فكانت زمن الحصار 2002، ومنذ اللحظة الأولى عرفت ابن زيدون وحزنت لمحنته حزنًا شديدًا لكنني احتجت لخمسة عشر عامًا حتى أكتب مسرحية “لمسة البعث”.

العودة هذه المرة كانت محملة بقراءات في علم النفس وببحث شبه متصل عن هذا الشاعر الذي رغم الكتابات الكثيرة عنه، أغفلت أمور كثيرة لم ينتبه إليها أحد، ربما منها: لماذا يتصارع الموهوبون العرب على الفناء؟ لماذا نخوض معارك العدم بهذا الحمق المثير للإعجاب؟

  1. لماذا عدت إلى السير الشعبية في مسرحية “بطل الغروب”؟

بشكل ما فكل شعب يتغذى ثقافيا على مجموعة من الجذور الثقافية، انظري إلى تجذر الإلياذة والأوديسة في الغرب بدءًا من الطبعات المتتالية لهذه السيرة، ومرورًا بإعداة إنتاج بعض أحداثها في السينما، بل وبناء روايات على غرارها؛ فصراع العروش بشكل أو بآخر استلهم هذه السيرة، وليس انتهاء بتجلياتها في العلوم مثل تسمية العقد النفسية بأسماء من لهم علاقة بهذه السير وعقدة “كرونوس” أو “إلكترا” أو “أوديب” دليل على ذلك.

لنضف أن السير الشعبية مبنية بشكل فني يعتمد على الأزمات والمواقف الحاسمة في كل موقف، وقيام كل شاعر شعبي بزيادة هذه الشحنة من التوتر، وفي لحظات الأزمة والتوتر تولد لحظات التحول وهي النقاط الحرجة التي يبنى عليها النص المسرحي.

كما أن لدي اعتبارًا يخص قناعاتي؛ فالسير الشعبية لا تتحدث عن شخصيات مقدسة كسرديات الأديان، ولا شخصيات عظيمة تهيمن على مجريات الأمور ككتب التاريخ؛ إن السيرة الشعبية تحكي قصص بشر عاديين في مواقف غير عادية؛ فأبوزيد وفق السيرة ذاتها كان عاجزًا عن دخول مزاد لشراء “الكحيلة” ودياب من فرع مطرود من اليمن، والزناتي اكتسب ملكه بحد سيفه، وخسره برمح.. مبحثي أن العاديين هم من يدفعون الثمن، وكتابتي هي اختبار لهذا..

  1. لماذا اخترت الغروب ليصبح الفكرة الرئيسية التي تدور في فلكها الأحداث؟

التسمية ليست من عندي بل هي واردة في النصوص الشعبية: “أتى له بطل الغروبات” فالسيرة تحكى من منطقة الغازي القادم من الشرق، واستثمار لفظ الغروب بما يوحيه في الثقافات الإنسانية من لحظات الموت والنهاية؛ فالمساء وفق أسطورة أوديب هو إيذان بقرب الموت، والغرب هو مكان دفن الموتى للمصريين القدماء، كما أنني ركزت على لحظة الغروب باعتبارها نهاية الجولات، وكانت نهاية الزناتي نفسه..

  1. لكنك كتبت مونودراما “الذئب التائه” عن البطل الضد للزناتي خليفة؟

لا تعبر الشخصيات عن كاتبها ولا العكس؛ كل يعبر عن منطقه، وأنا قارئ وباحث بقدر كبير أثناء كتابتي وبعدها؛ في مونودراما “الذئب التائه” حركني بداية مثل شعبي: “السيرة لأبوزيد والفعل لدياب” فدياب هو البطل الذي قهر الزناتي، وهو البطل الذي يسبق أبازيد أو يتبعه؛ بل إنه ظهر قبله على بركة الطير لحظة أمنيات الأمهات، إنه البطل الذي تحكم له النبوءة ويستبعده البشر حتى ينصاعوا إلى حكمها وإذلاله.. في دياب أثارة من أخيل وخصلة من برمثيوس وكثير من الزير.

لنضف هنا أن بطل النص ليس خيرًا ولدينا كاليجولا وأجاممنون وإلكترا.. ودياب هو ابن الخير الذي عامله باستبعاد، وابن الشر الذي ولد لشعوره باستحقاق الأفضل، إنه الذئب أقوى الكائنات وأشجعها، لكنه محتقرٌ مستبعد..

 

  1. ولماذا اخترت “المونودراما”وهل كتبت بها أكثر من نص؟

لأنها تقوم على صوت واحد فهي أقرب للشعر، أقرب للقوة وللصراحة وللاعتراف فلا أحد سيسمعك، ولا أحد سيحاسبك، إنها صوت النفس للنفس، وهنا تكمن الخدعة؛ فالبطل الذي يتحدث إلى نفسه في الحقيقة يتحدث إلى العالم، والعالم المستمع في الحقيقة يشعر أن هذا الكلام رجًعا لصوته هو، رحلت بمركب المونودراما أربع مرات، “رسالة إلى السجين” و “الجميزة” و”الذئب التائه” و”الخصم الأخير” ما بين فتاة سجنت ظلمًا، ومذنب فر قبل القبض عليه، وبطل باطش كالنار، ومدير فقد منصبه وحريته لفساده.

  1. “فصول السنة المصرية” هي المسرحية العامية الوحيدة لديك، فلماذا كتبتها؟ ولماذا لم تكرر التجربة؟

في 2011 كتبت هذا النص، قمت بعمل معادل بسيط بين فصول السنة، وطريقة المصريين في الحياة: خريف الصمت والعجز والمناورة من أجل الحياة، وصيف الحقيقة التي تتوسط كبد السماء، وشتاء الميدان حيث دخل الثوار مثل دفعات المطر، وربيع الشهداء الذي لفظ فيه أحد الأبطال آخر أنفاسه على صيحات الفرح بتنحي الطاغية، وهو يمسك بيديه يد أخته “أمل” وعريسها “خالد”..

ساعترف  لا أحدد مسبقًا جنس النص الذي سأكتبه، ولا لغته، وحين أفعل هذا ربما لا أكمله؛ بدأ النص بحوار بين خطيب “خالد” ووالد خطيبته في حجرة ضيافة تنتمي لطبقتنا، ودخلت الخطيبة “أمل” فلاحظت وجومًا، وحين انفردت بخطيبها لتخففه توالت الأحداث لتمتلئ الغرفة برجال الأمن وباعتقال أخيها طالب الهندسة، وبإذلال الضابط لخالد، وتحركت كرة النار…

ربما غدًا أبدأ عملاً يفرض أن تكون العامية لغة كتابته؛ ليست العامية لغة منقوصة، وهناك نصوص بالعامية لا يمكن أن تكتب بالفصحى، بل إن هناك نصوصًا حين تخلت عن الفصحى زاد تأثيرها وانتشارها، مثل السير الشعبية التي تعتمد على أحداث وأزمنة كانت الفصحى لغتها، بل ولغة كتابتها الأولى.

  1. ما الرابط بين “القلعة والعصفور” و “السيف الأعمى” و”زاد.. الضلع العائد” فهي نصوص لا حادثة تاريخية لها، ولا هي من الواقع مثل “فصول السنة المصرية”

هذا هو الرابط تحديدًا؛ إنها مبنية من الخيال بشكل كامل، لا مرجع تاريخي ولا وجود في الواقع لها؛ يزيد على ذلك أنها في مدن بلا اسم، لشخصيات وظائفهم أو صفاتهم هي أسماؤهم، يمكن للقارئ بالطبع أن يفعل هذا، بل يمكنه أن يكمل عوالمها بالشكل الذي يريده؛ فهو يدخل من لحظة مفتوحة على ما قبلها، ويخرج من لحظة مفتوحة على ما بعدها؛ من سيكون الملك في القلعة والعصفور أو السيف الأعمى أو زاد؟ لا أحد يعرف.. كل ما هناك أن نهارًا جديدًا سيبزغ وهذا فجره الذي تكون عبر النصوص..

  1. دائما ما أشعر في كتاباتك بأنك تخاطب كل زمان ومكان، وأن هناك عنصرًا رمزيًّا دائما يهدف لذلك؟

الفن إمتاعٌ وإقناعٌ، والمعاني ملقاةٌ على الطريق، ومهمة الكاتب أن يجهز “المأدبة” للآكلين، يعرف القارئ أن مصطلح “الأدب” مصطلح جاء من اجتماع الناس للطعام، لكنه طعام مختلف؛ إنه طعام العقول، وتختلف نظرة كل كاتب لأدبه وقرائه، من ناحية نوع الطعام وهدفه، انظري مثلا لتعبير سيف الدولة عندما قام المتني بوصف رحلة صيد لم يحضرها، أو لأول اتهام لشاعر عربي؛ فحين طلب النعمان  زوجته من النابغة والمُنخَّل، قام النابغة بوصفها في الدالية المعروفة التي يضيفها الكثيرون للمعلقات، وحين وجد المنخل أنه عاجز عن مجاراة هذا الشاعر قال: لقد وصف ما رأى.. وهنا طارت الخمر والصداقة والثقة وحركت النعمان مشاعر الغضب والانتقام، كان الشعر والفن عامة هو واصف للحقيقة أو مجسدٌ لها لكي يتحرك لها الناس، وبدت حركات التجديد تعمل في هذه المنطقة.. هل نصف أكثر؟ هل نصحب القارئ إلى أول الغابة أم نشير لها؟ ما بين أن يكون الفنان هو السندباد الحاكي المنتشي بحكيه، والنديم المتمتع بقدر، وبين السندباد الذي يريد لنديمه أن يغامر لأنه لا نشوة دون مخاطرة، النص ليس حكاية.. بل شيء آخر تمامًا.

ـ

  1. في نصوصك لم تغفل العنصر النسائي في مسرحك بل العكس أظهرتهم كداعم أساسي وقوة مساعدة كبيرة في الحرب.. هل سعيت لهذا؟

هن  حققن ذلك لا أنا؛ في بلادنا العربية ثمة ظواهر توارثناها منها قبول القهر بتنفيذه على من هو أقل؛ فرئيس العمل يقهر موظفيه، وهم يقهرون عمالهم وعملاءهم، وكل هؤلاء يعودون لقهر زوجاتهم، لهذا لا يمكننا قراءة الأمر على أن المرأة مضطهدة وتحتاج إلى حقوقها، بل إننا مقهورون جميعًا ونقاوم القهر بالقهر، وإصلاح هذا يأتي عبر السعي للحصول على حقوق المواطنة كاملة، وهذا ما تفعله المرأة العربية؛ إذ إنها تتخذ المسار الصحيح سواء تهيأ لها هذا أو لا؛ في زمن الحصار كانت عائشة الحرة وفاطمة، وفي القرار كانت ميسون والثريا وعاتكة، وفي القلعة والعصفور كانت زوجة بائع التمر وابنتها، وفي بطل الغروب كانت سعدى، في كل نص هناك امرأة مقاومة..

  1. علام تعمل مسرحيًّا الآن؟

سأحاول أن أسدد دينًا، وأفي بوعد قطعته لأستاذي سليمان العطار؛ فحين كنت أكتب “لمسة البعث” لجأت إليه لخبرته وتخصصه في التاريخ الأندلسي وأدبه؛ وساعدني بكرمه المعروف، لكنه اقترح علي الكتابة عن المعتمد بن عباد، فهو شاعر كبير وملك عظيم، قلت لنفسي: “يوما ما سأفعل هذا”.

عند اطلاعي على المصادر الأندلسية الممتعلقة بابن زيدون، كنت أتابع ما يرد عن المعتمد، الذي بدأ اسمه يكبر خصوصًا في الحلة السيراء، وينفرد في كتاب علي أدهم عنه.. رأيت ما قاله العطار عنه؛ فذهبت له قائلا: سأكتب عنه المعتمد..

ـــــــــــــــــــــــــــ

الحوار منشور في جريدة أخبار الأدب المصرية


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock