حوارات

المسرحي المغربي د. عبد الرحمن بن زيدان يحاور المسرحي العراقي د. محمد سيف.. (2ـ3) الرؤى والوجود


المسرح نيوز ـ المغرب| حاوره: د. عبد الرحمن بن زيدان

ـ

هو مخرج، ممثل، دراماتورج ، وناقد وباحث مسرحي عراقي، مقيم في باريس منذ عام 1984،د: محمد سيف: حاصل على دكتوراه في المسرح والعلوم الاجتماعية من جامعة السوربون 7، ماجستير العلوم المعمقة، والبكالوريوس من جامعة السوربون1، دبلوم مدرسة جاك لوكوك العالمية للتمثيل، دبلوم معهد الفنون الجميلة في بغداد، حاليا المدير الفني لفرقة مسرح (الكلام العابر) في باريس. اخرج ومثل العديد من المسرحيات سواء في العراق، او تونس وفرنسا حيث يقيم. رئيس تحرير مجلة الفرجة الاكاديمية المحكة، الصادرة عن المركز الدولي لدراسات الفرجة. وله العديد من المؤلفات المسرحية والبحثية، والعديد من الترجمات في مجال المسرح وعلومه الجمالية. هذا بالإضافة الى تغطيته النقدية للعديد من العروض العراقية والعربية والغربية، في العديد من الصحف والمجلات الدورية.

وإلى الجزء الثاني من نص الحوار الذي تم نشره في كتاب بعنوان: المسرح في العراق: رؤية تراجيدية، في وطن متغير. :

*كيف كان المسرح العراقي يعيش أزمنة تأسيس المسرح العراقي على الرغم من التناقضات التي يغرق فيها المجتمع ؟

 

** بإمكاننا أن نتساءل هنا، فيما إذا كانت ولادة المسرح محض ولادة سياسية. وما نريد تأكيده في تساؤلنا هو أن المسرح قد نجح في جعل النضال السياسي قاسما مشتركا ما بين الفنان والجمهور منذ البدايات الأولى.

 

إذ وجد المواطن العراقي نفسه أمام تأثير جمالي يجعله يكتشف حقيقة وجوده كمضطهد، وهذا ما دفعه بقوة نحو تحريرها. يقول “روجيه باستيد” في كتابه المعنون “الفن والمجتمع”: ( إن الفن يؤثر في الحياة الجمعية، مثلما يستطيع أن يغير قدرية المجتمعات).

 

إن القدر العراقي قد خزن في أعماقه دراما لم تنجز حتى أصبحت تراجيديا أسطورية قادرة على إنتاج عمل مسرحي بمعناه الحقيقي. إن التراجيديا الأسطورية، من وجهة نظرنا، بمثابة فضاء أو بالأحرى تقديم تتأرجح فيه العقيدة بين الواقع والخيال. فالمواجهة بين المسرحيين الأوائل والوضع الاجتماعي والسياسي آنذاك، كان اختلافا أخذ جذره من طقوس (عاشوراء)، هذه الطقوس التي تحولت بفعل حاجة الناس إليها إلى نصوص شعبية، كتبت وصورت بروحية شعبية فلكلورية، استطاعت ببلاغة لغتها وشفافيتها أن تثير وتخاطب أعمق العواطف وأقوى الأحاسيس عند الناس من خلال طقسها الديني الذي يخفي في منعطفاته وظيفة اجتماعية، سياسية وفنية.

 

وإن هذه الاحتفالية كانت عبارة عن صوت مكلف بأن يجعل مقتل (الحسين) رمزا من خلال إعادة تقديم قصة مقتله غير الإنسانية، بغية أن لا تتوقف الأسطورة عند حد معين. إن المغزى من طرحنا هذا هو أن المسرح العراقي قد نشأ نتيجة لاهتدائه إلى الصراع اللاهوتي الذي يحمل في طياته نوعاً من المقاومة السياسية، والدينية. لاسيما أن اللاشعور الديني يولد ويتغذى في مجتمع قبلي لم يستطع أن يصفي حساباته مع معتقداته الدينية. إذن، إن الدراما عادت لكي تنضم إلى النداء المشترك ما بين الرغبة الدينية والحاجة الحقيقية في جعل هذه الرغبة جديرة بأن تكون مشروعا سياسيا. إذن كان لا بد من المسرح، ولا بد من تمثيل الدراما، من اجل معاكسة وإحباط هؤلاء الذين يملكون زمام الحكم … سواء كانوا محتلين أو قادة مصطنعين. ولا بد من لعب الدراما العزائية في الشوارع لكي يحس الجمهور ويشترك في حالة الألم الذي لم يقو التاريخ على دثره. إن التمثيل فن جماعي، يعبر عن أخلاق تصقل جمال الثقافة التقاليدية التي هي دائما وأبدا جاهزة للانفجار هناك حيثما تسنح الفرصة، وتحل الفوضى. يقول روجيه باستيد: ( عندما يمتزج ويتطابق ما هو اجتماعي بما هو فني، فان أشكالهما والهيئات التي تتخذها تخلق فضاء لما يمكن أن نسميه “الفنون الاجتماعية”.)

 

إن الفن لم يعد مجرد محاكاة للطبيعة، بقدر ما هو تقليد للنشاط التقني للإنسان. إن هذا المنطق يحمل في جوهره نوعا من الرفض والإنكار للبحث الأنثروبولوجي الكلاسيكي. لهذا إن المسرح العراقي منذ بداياته الأولى قد ترك فكرة المحاكاة البسيطة، والميل الغريزي للأشياء وإتجه صوب البراغماتية التي لم تعد فيها أنثروبولوجية الفن مكلفة بالغريزة الفطرية للإنسان وإنما في مدى تطوره التقني … وإذا كان العمل قد أبدع الإنسان، فإن التقنية قد ألهمته مبادئ العقل. ولهذا إن المسرح العراقي أول ما بدأ في المعاهد والجامعات (أكاديمية الفنون المسرحية، ومعهد الفنون الجميلة الذي تأسس عام 1936) وهكذا، قد طرأت تغيرات كثيرة على شكل الإنسان وهيئته نتيجة لانتقالاته من مرحلة لأخرى، بحيث أصبح التغيير صيرورة تبني وتكوّن نماذج أخرى، وكل نموذج يخضع لنظام متحرك لا يعرف الثبات والسكون. ولقد اتبعّ المسرح العراقي حركة التاريخ التي نطلق عليها اليوم اسم التطور الحديث للإنسان. وصارّ الكل في تطور، لأن الكل خاضع للتغير .. .

 

كان لابد على المجتمع العراقي أن يتبع مسار الحداثة، شأنه شأن باقي المجتمعات. وسواء كان هذا المسار جيدا أو سيئا فالقضية متعلقة في كيفية خلق هذه الحداثة وتسريبها إلى داخل المؤسسة الإدارية، سياسيا، اقتصاديا، اجتماعيا، وثقافيا. فعلى القديم أن يولي الأدبار، وأن يترك مكانه للجديد. بمعنى آخر، يجب قلب صفحة جديدة. فالكل كان مطالبا بالتحول على الرغم من حالات التعارض التي يمكن أن تواجه التغيير … إن المسرح العراقي، مثله في ذلك مثل بقية المسارح، قد كابد مرغما من حالة التحول، فالمخرج، المؤلف، الممثل، وجميع من يعمل في حقل المسرح نجح في معرفة مكانه الحقيقي من عاصفة الأزمنة الحديثة. فلم يعد هؤلاء العاملون في مجالات المسرح المتعددة مجرد وسائط سياسية بل أصبحوا قادة عرض فني يسمح لهم بالتعبير عن أنفسهم، شأنهم في ذلك شأن الجمهور الذي هو الآخر قد تغير، وأصبح له صوت قوي وفعال. فالجمهور مثلما تقول “آن ابورسفيلد:(هو ملك الحفل وسيده الأوحد)، فالمجتمع لم يعد هو ذاته. وهكذا فمن خلال علم الجمال والمسرحة والارتباط في الواقع زمكانيا، ولدت رؤى كثيرة نجحت في تجديد فن المسرح.

 

إن الإخراج، الديكور، السيناريو، الإضاءة والخ … باتت عناصر متطورة في العملية الإبداعية. خشبة المسرح لم تعد مجرد لوحات للقفز والخطابة الرنانة الكبيرة … وإنما هي أيضا أخذت شكلا آخر أكثر حداثة. لقد كانت تجربة جديدة، استطاع المسرح العراقي من خلالها أن يغيّر شكله وموضوعه، خاصة عندما تخلى عن خطابيته وارتدى رداء العرض الذي يرقص فيه الممثل من الداخل.

 

* هل صحيح أن مرجعية المسرح العراقي كانت موزعة ما بين المرجعية العربية بشكل محدد، والمرجعية الغربية بشكل مطلق خصوصا المرجعية الاشتراكية ؟

 

** لقد عصفت الأحداث السياسية والاجتماعية بالعراق، وتلاعبت بمقدراته، فمرة ترميه في أحضان المستعمر التركي وأخرى في أحضان المستعمر الانكليزي، وظل لفترة طويلة متأرجحا بين الاستعمارين المتخاصمين على ثرواته، أي إن الفرد العراقي خضع بشكل شعوري ولا شعوري لتأثير هذين المستعمرين اللذين إستطاع عن طريقهما أن يكتشف المسرح بمعناه الغربي. ولكن إذا أردنا الحديث عن مسرح بالمفهوم الغربي الحديث في العراق، فعلينا أن نبدأ بفترة الأربعينيات، وبالذات بعد عودة حقي الشبلي من فرنسا وتأسيس قسم المسرح في معهد الفنون الجميلة، وما صاحبها من تطورات انحصرت بمجملها في تخرج أجيال مسرحية استطاعت مع مرور الزمن أن تختبر المسرح عن قرب، من خلال سفرها إلى خارج الوطن، ودراسة أشكال المسرح واتجاهاته في دول أوربية وأمريكا.

 

وعلى الرغم من التأثيرات التي تركتها زيارة الفرق الانكليزية، والمصرية، والتركية، ظلت الحركة المسرحية فقيرة من حيث النظرية والتطبيق حتى عودة الشبلي وقيامه بتدريب وتأهيل الدورات الأولى من خريجي فرع التمثيل. فبعد طريقة الشبلي في التمثيل التي كانت مزيجا من جورج أبيض، وعزيز عيد، ولويس جوفيه، ودوني دونيس، وتأسيسه لفرقة (الزبانية) من طلبة معهد الفنون الجميلة، جاءت طريقة جاسم العبودي العائد من دراسة المسرح من أمريكا عام 1952، التي اعتمدت في شكلها ومضمونها على منهج (إعداد الممثل) لستانسلانفسكي. ولقد كونّ جاسم العبودي مع إبراهيم جلال فرقة (المسرح الحر)،

 

وقدم من خلالها أعمالا كثيرة ومتنوعة: عطيل شكسبير، البخيل لموليير، الحقيقة ماتت لغنانوئيل روبلس، والورد المسموم، المقتبسة عن عدو الشعب لابسن، ومسرحية ماكو شغل، ومسرحية رأس الشليلة ليوسف العاني. بعد ذلك، جاء الرعيل الثاني، الذي تمرد بدوره على الجدار الرابع ورفض مسرح العلبة الايطالية، وصارّ يتحدث عن غوردن غريك، وماكس راينهارت، ومايرهولد، وفاختنكوف وبريشت وبسكاتور صاحب المسرح السياسي وغيرها من الاتجاهات والأفكار التي كانت جميعها غربية.

 

وبعد منهج ستانسلانفسكي، نادى إبراهيم جلال بالمسرح البريشتي حيث قدم العديد من الأعمال التي ترجمت طريقته في فهم بريشت: مسرحية الطوفان لعادل كاظم، والبيك والسائق المأخوذة عن بريشت، ودائرة الطباشير القوقازية لبريشت أيضا. ثم ظهرت أجيال مسرحية أخرى نادت بتيارات أدبية وفنية مختلفة، مثل: المدرسة الاشتراكية، الوجودية، والعبثية وإلى أخره. ولقد كان من بين هذا الجيل الذي ظهر في عام 1958، الفنان قاسم محمد الذي كان الأكثر تأثيرا وأهمية في توجهه، لأنه جاء بمفهوم العرض والتوليف المسرحي، وكان مجتهدا وباحثا في وعن أساليب مسرحية تجمع ما هو محلي بما هو عربي، من خلال معالجته للحكاية الشعبية والتراثية على السواء، هذا بالإضافة إلى تجاربه المتنوعة على صعيد الترجمة والإعداد والتأليف، التي أسس من خلالها مفهوم العرض المسرحي ومفهوم دراماتورج العرض لدرجة إن أصبحت هذه المفاهيم جزءا لا يتجزأ من الحياة المسرحية العراقية حتى يومنا. ومن المخرجين المجتهدين لهذه الفترة أيضا، نذكر الفنان سامي عبد الحميد، الذي تميز في اختياره لنصوصه التي ترضي طموحه التجريبي وتأرجحه بين النصوص المستغرقة في واقعيتها الشعبية الاجتماعية، وبين النصوص الكلاسيكية أو التاريخية، والمسرح الطليعي، والنصوص العربية والعالمية ذات الاتجاهات المختلفة، مثل نصوص: جان جينيه، يوجين أونيل، معين بسيسو، ولوركا، وتنسي وليامز وإلى أخره.

 

إذن، إن مرجعيات المسرح العراقي كثيرة ولا يمكن حصرها في اتجاه أو معسكر، لاسيما إنه قد مرّ في مراحل عديدة وخضع لتأثرات ومتغيرات وتحولات كثيرة، ساهمت جميعها في بلورة هويته المسرحية. • عندما انتقلت إلى فرنسا وارتميت في ثراء المعرفة الثقافية في الغرب تحولت معرفتك للمسرح بتحول احتكاكك بالتجارب المسرحية الغربية.. كيف انعكس ذلك على منهجك في الإخراج، وفي علاقتك، خاصة بالركح ؟ لقد انعكست المعرفة الثقافية الغربية في تجاربي الإخراجية والكتابية واشتغالي في مجال المسرح من خلال دراستي للمسرح والسينما ومسرح الميم في مدرسة جاك لوكوك المتخصصة بالحركة والتقنية الجسدية واكتشاف الفضاء، والأقنعة المسرحية بكل أنواعها، هذا بالإضافة إلى إطلاعي النظري والعملي على الاتجاهات والمدارس الحالية للمسرح وحركة النقد الحديث.

 

وحينما نتحدث عن هذه المدارس الحالية التي تحتل الخشبة اليوم، لا بد لنا أولا، وقبل كل شيء أن نتوقف عند معنى (المؤلف المعاصر)، ولكن قبل الولوج في ذلك لا بد من معرفة ما الفرق بين الكتابة المعاصرة والكتابة الحديثة، والمخطوطات الحالية، والكتابات الجديدة؟ ثم نسأل من المعاصرين؟ بلا شك نحن لسنا من معاصري برتولد بريشت، أو ستريندبيرغ، مثلما نحن لسنا من معاصري ماركس، أو فرويد. وهل المعاصرة تعني إبعاد كل الكتاب الذين ما عادوا يعيشون في وقتنا الحاضر؟ وهل أن عيب هؤلاء المؤلفين الأساسي أنهم ماتوا؟ إنني وبصريح العبارة، لا أجد جوابا واضحا على هذه الأسئلة التي أرى أنها شرعية ومنطقية ولا يمكن تجاوزها. يوجد في معنى المعاصرة، جزء عضوي يشكل ويساهم في جعل العالم على ما هو عليه. وعلى هذا الأساس، فإنه لا يمكن ولا يحق للمؤلفين الذين يعيشون فقط أن يصادروا ميدان (المعاصرة).

 

إن الحداثة، تعني الثورة، الانهيار، الانقطاع والتقاطع، ولكن في الوقت نفسه، من المستحيل عدم الإشارة إلى الشخصيات العظيمة التي عاشت ما قبل الحداثة، مثل، أميل زولا الذي أعلن، وكان سابقا لأوانه في إحساسه وحدسه للحداثة، بتمرده على الكلاسيكية وتأسيسه للمذهب الرومانسي من خلال إصداره مجلة “آلهة الشعر الفرنسي” وكتابة مسرحية كرومويل، ومسرحية ماريون دي لورم ومسرحية هرناني التي اعتبر تقديمها على المسرح الفرنسي نصرا مبينا للرومانسيين، بعدما تهافتت الجماهير على رؤية المسرحية تهافتا لم يكن مألوفا من قبل. إن المسرح الحديث، وهذا ما يجب الاعتراف به، لم يولد بفضل الكتاب وإنما بفضل المخرجين الذين أنقذوا المسرح من الأكاديميين وعجينة الورق والتمثيل الرديء، وإن الثورة المسرحية التي حدثت في الغرب بداية القرن العشرين لا تخص الفضاء فحسب، ولا تعنى بالزمن فقط، وتنظيم وتنسيق مواد وعناصر الخشبة المسرحية التي نمارس عليها تأثيرات إيقونية قوية، وإنما تخص أيضا وأولا الممثلين، هؤلاء الذين يعملون على إحياء صَرح المسرح، و(أحجاره الحية) مثلما قال كوردن كريك في مؤتمر فولتا.

 

إن تطوير الإخراج وضرورة تهيئة الممثل خارج نطاق المؤسسات الأكاديمية في القرن التاسع عشر عمل على ولادة أفكار تربوية، حول المدرسة، والتعليم والتمارين وكذلك حول العملية الإبداعية. إن هذه الأفكار قادها في البداية المخرج ستانسلافسكي ومايرهولد -العمودان الفقريان اللذان أعادا تأسيس وصياغة المسرح الأوروبي في بداية القرن العشرين- وكذلك فاختنكوف، وكوبو، وآخرون. لقد أضفى هؤلاء المخرجون المنظرون قيما جديدة على الفن المسرحي ومهنة الممثل وواجهوا بها النموذج الثابت للدور.

 

الأول، ستانسلافسكي، كرس عمله وأسسه على اشتغال الممثل على علم نفس الشخصية، واستخدام الذاكرة الانفعالية، والبحث عن الحالة الإبداعية العضوية. أما الثاني، مايرهولد، بحث عن وفي المسرحة غير اليومية ومكان بنائها، بدلا من الجسد الطبيعي الذي نادى به أستاذه ستانسلافسكي، لقد أعطى مايرهولد الأولوية إلى جسد الممثل الشعري -المعارض للجسد العادي المبتذل المستعمل كل يوم- غلى الجسد ذي الكفاءات المتعددة: الذي يقوم بأعمال الخفة، الألاعيب البهلوانية، وأن يكون موسيقيا، وراقصا. إن المسرح بالنسبة للأول أو للثاني عبارة عن مرآة للحياة، ومسرح واقعي، أو مسرح عجيب بواقعيته الموسيقية، أو الفنتازيه، حيث خشبة المسرح تصبح المكان والوسط الذي يختلف عن الحياة، ويختلف لكي يعطي للممثل الوسيلة لأن يخلق ويبدع كما في الحياة، وأن يفهم قوانين المسرح، التي تتناقض كليا مع الحياة. وقد بحثت هذا في رسالة الماجستير المعمقة التي قدمتها وناقشتها في جامعة السوربون ونلتها بامتياز. في المطلق، إن العمل الفني الجديد هو هذا الذي نعمل على تحقيقه وخلقه. ومع ذلك فإن الجميع متفقون على أن العمل الجديد ليس جديدا.

 

*إذن ما هي المعايير التي بإمكانها أن تعرف وتحدد الجديد؟

 

** بالإمكان إعطاء بعض المسارات للإجابة على هذا السؤال، مثل: النظرة غير العادية، والمتفردة، واختراع شكل لا يكتفي باستنساخ الهياكل والأشكال الأخرى المثبتة مسبقا, إننا لا نطلب من أي شخص أن يغير في كل لحظة الأشكال الأدبية الدرامية، وإنما توجد أشكال تكون مفتوحة على طرق جديدة، لا تسمح بتصنيفها بشكل سهل. وهذا كله قد انعكس بشكل شعوري ولا شعوري على الكثير من التجارب التي قمت بها سواء في فرنسا أو السويد أو في تونس التي أمضيت فيها سنتين ونصف متوزعا بين التدريس لسيسيولوجيا المسرح في جامعاتها، والتمثيل في مسرحية سيدي بنادم مع للمنصف السويسي والإخراج والتوليف المسرحي لمسرحية (المتروكة) للكاتب الفرنسي ماكس ميري، والقراءة المسرحية لنص جان جينيه (أربع ساعات في شاتيلا)، الذي أعد تقديمه مؤخرا على مسرح العالم العربي، برؤية مسرحية جديدة، مع ممثلتين بالإضافة لي كمخرج ومعد وممثل للعمل. فالقراءة المسرحية، على سبيل المثال، في هذا العرض المتنوع الأصوات هي نوع من الانضباط الذي يجرد المسرح من بهرجته، ويجعل الممثل في تساؤل دائم عن الكلمة والجملة والإشارة؛ إنها تفرض على الممثل أن يكون قريبا جدا من الكلمة دون أن ينزل إلى حضيض التفسير أبدا، أي إنها تجنبه من الوقوع في حالة التمسرح المبالغ فيها، مثلما تقضي على التحيز. إن القراءة في هذا العرض تحول جسم الممثل إلى وسيط بسيط، تحوله إلى مُعَدٍّ للكلمات والمعاني والمشاعر.

 

ولقد اعتمد العرض على لغتين : اللغة العربية، واللغة الفرنسية، وإذا بحثنا عن سبب لذلك، فستكون الإجابة بسيطة جدا، هي أن صوت الكلمات بحد ذاته معنى، وهنا تكمن عالمية النص. إنها تتجاوز الفهم والتفاهم، إذ تنغمس في الجناس وفي موسيقى اللغة، فتسمح بفهم العمل من زاوية رمزية. إن اختلاط اللغة الفرنسية بالعربية وبالعكس في هذا العرض ضرورة لأولئك الذين يبحثون أن يكونوا أقرب إلى المناخ الشعري للنص، وهي ضرورية أيضا، لأنها تسمح للجمهور الفرنسي والعربي لأن يسمع نص جان جينيه بلغته الأصلية، وأن يسمع أرض الشاعر/الكاتب وهي تغني تحت قدميه. إن ذوبان اللغتين مع بعضهما البعض يكشف لنا عن سر الجمال الذي لا يتزعزع، مثل أغنية. وقد أشتغلت في مسرحية (البطل) في العاصمة السويدية ستوكهولم، على هذه الطريقة أيضا، أي اعتمدت في هذا العرض الذي كان من تأليفي وإخراجي، على اللغة العربية والسويدية وكذلك على اللغة العربية والفرنسية في فرنسا. في تلك الأثناء كان يحوم شبح حرب الخليج التي لم تنته حتى الآن مثلما كان يحوم أيضا شبح حرب راوندا الأفريقية وحرب مخيمات التطهير البوسنية … كل هذا كان جاثما على الصدر، يعيش في اللاشعور الذي كثيرا ما يترجم نفسه في مواقع كثيرة من حياتنا اليومية من خلال (النرفزة) والثورة على كل شيء. وبعد قراءة الأحداث وجدنا أنفسنا قريبين من (الإلياذة)، ومسرحية (الطرواديات) ليوربيديس وسينيكا، قريبين من فكرة كتابة تراجيديا حديثة يكون بطلها جندي صغير وليس كما هو شائع في التراجيديا الإغريقية، نصف إله أو قائد جيوش.

 

وهكذا ولدت فكرة كتابة النص الذي يتحدث عن نساء طروادة المسبيات من قبل الإغريق كمناسبة للحديث عن مخيمات التطهير العرقي الذي لازالت آثاره محفورة بالمخيلة، ومناسبة للحديث عن حرب الخليج الثانية التي لازالت مستمرة حتى هذه اللحظة، وعن المذابح التي ارتكبت في الكوسوفو. في هذا المعترك الصعب كان لقاؤنا مع شخصية تالتبيوس رسول الملك الإغريقي أغاممنون. إن مجرى الأحداث تقول أن تالتبيوس يأتي أو يعود إلى مكان الجريمة، من أجل أن يعيش تفاصيل المأساة التي تسبب بها عن غير قصد، فهو ناطق رسمي لقرار ليس هو صاحبه.

 

وهذا يعني أن النص يعتمد في تركيبته وبنائيته الكتابية على اللغة، ولكن ليس على أية لغة، إنه يعتمد لغة الأدب التي سمحت لنا باستخدام لغة إيقاعية شعرية موزونة بعيدة كل البعد عما هو واقعي، استخدام لغة استطاعت أن تعبر عن نفسها من خلال اختصار الفكرة بكيفية درامية. من المعروف عن هذا النوع من المسرح-والمقصود هنا المسرح الحكائي- يتأسس على عوالم من السرد الذي يمنح الزمن في الكثير من الأحيان، إمكانية أن يخترق عصور الماضي، والحاضر والمستقبل بحرية، يسمح له لأن يلعب على ومع العلاقة المعقودة بشكل خفي ما بين الحقيقة المعاشة، والحقيقة المخزونة في الذاكرة والحقيقة المتخيلة. إن الحاضر في هذا النص، يتعاقب مع سردية الماضي من أجل أن يكمل بقايا الحلقات المفقودة، وذلك من خلال رسم وتصوير كل ما هو عاطفي، اجتماعي، سياسي، وتاريخي. في خضم هذه الفوضى الفكرية التي تتداخل فيها العصور، حاول الإخراج أن يبحث عن نظام جديد لا يشبه بكل تأكيد ذلك النظام الذي نادى به السيد بوش الرئيس الأمريكي الأسبق أيام حرب الخليج، وإنما يبحث لنفسه عن أسلوب يكشف عن خرابات الحروب التي لم تفارق مخيلتنا.

يتبع


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock