مقالات ودراسات

المسرح نيوز يقدم : ركن « سؤال الرّاهن » فكرة وإعداد: الناقد حامد محضاوي

المسرحي الجزائري « محمد شرشال »: أنا مسرحي حالم على الدوام


المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات

ـ

 

ركن « سؤال الرّاهن »

فكرة وإعداد: حامد محضاوي

إشراف: صفاء البيلي

 

الناقد حامد محضاوي

ركن ينتمي لجدارة السؤال في السياق المسرحي الحالي، لا يبنى على أرشفة التصنيف أو أحاديّة الإقناع. ركن يبحث عن حقيقة؛ هناك حقيقة وهناك الحقيقة بأل التعريف والسعي نحو حقيقة ما، وليس الحقيقة. وبهذا المعنى فهي معرفة نسبيّة دائما ولكنّها تتضمّن بذرة من المطلق دون أن تكون هي المطلق.

إنها كما يقول إدوارد الخرّاط: ” حقيقة تظلّ دائما أيضا نسبيّة بمعنى أنّها ليست نسقا في الفن فلسفيّا أو معرفيّا كاملة “. بهذا المعنى لا يمكن أن تكون إجابة شاملة ومحيطة بالمعنى ككلّ. هي دائما – كما أرجو – ذهاب إلى أعمق فأعمق بدون الوصول إلى تشكّل راكد. من هنا أرى « سؤال الراهن » كرافعة لتنضيج المعنى الإشكالي، ورسم مآل متشابك للرؤى المسرحيّة، وليس تجميعا مسقطا للهواجس والتعاريف. لست أظنّ أنّ من مهام المسرح أن يضع حلولا أو يجيب عن أسئلة، مجرّد وضع سؤال في السياق المسرحي هو كلّ ما أسعى إليه عبر هذا الركن.

ركن « سؤال الراهن » محمل تساؤلي عبر جملة الأسماء المتدخّلة، في إطار تثمين التشبيك اللحظوي من خلال تيمات « الراهني » و « الآن وهنا » ابتعاد عن الإخبار الصحفي واقتراب من جدوى التفكّر في السياق المسرحي. عبر أسئلة عشر تطرح لكلّ ضيف نحاول بناء لحظة جدليّة نافذة وفاعلة في رهان التشكّل العام.

يسرّنا في بداية هذا الركن استقبال المسرحي الجزائري « محمد شرشال »  في مساحته الحرّة بين الذات وتفاعلها الراهني في الآن وهنا.

من أنت الآن في المسرح؟

أحاول أن أكون مخرجا مبدعا ومختلفا، أنا مسرحي حالم على الدوام، أحلم ثم أعمل على تجسيد أحلامي فوق الركح، متحصل على شهادة الدراسات العليا في الإخراج المسرحي من المعهد العالي للفنون المسرحية بالجزائر، كاتب لعدت نصوص درامية: بيت النار، ميلوديا، البركان ومخرج لعديد النصوص العالمية، الملك يتماوت و الخرتيت لأوجين يونسكو، هاملت لوليم شكسبير،  علماء الطبيعة لفريديريتش ديرنمات، فن الكوميديا لإدوارد ودي فيليبو.. إلخ. في الفترة الأخيرة، قررت انتهاج طريق مغاير تماما لما سبق لي فعله، لقد قتلت الكاتب الذي في من أجل ان يعيش المخرج، لقد قمت بالتخلي عن الفعل اللفظي في أعمالي، فأنجزت أعمالا ترتكز على الفعل الفيزيائي، أعمال يكتب نصها المرئي بعد التدريبات، أعمال ترفض ان تسلم مقاليد الإبداع المسرحي لسطوة الكاتب وجبروته، لأنني أؤمن ان المسرح فن جماعي. “ما بقات هدرة” و “جي بي أس”  هما ثمرة هته التجربة الممتعة لحد الآن ولا أراني متوقف عن الاستمرار في محاكاة الفعل بلغة تسمعها العين لا الأذن.

التصفيق على أعمالي ونجاحها يجعلاني أحس بالفخر وبالخوف في نفس الوقت، الفخر لأنني محل إعجاب، والخوف من مسؤولية المحافظة على النجاح والتألق.  أنا لست مغرورا،  رجليا في الأرض دائما، أدرك جهلي حين اتعلم وأتقدم. أنا في المسرح عاشق بلا شروط، أقبل كل ما يطلبه مني هذا الفن دون شرط أو تردد، مالي، وقتي، جهدي و صحتي كلي له. لقد كان هذا هو وعدي له من الأول، منذ البدايات، منذ أولى اللقاءات السرية التي كنت اخفيها عن الوالد الذي لم يكن يرى في المسرح ما يشرف، بالعكس لقد كان عشقي بالنسبة له هو العار وهو الطريق الذي يجب أن اتجنبه. أخيرا، يمكنني أن أقول انني إبن شرعي للمسرح، إبن ولد على قارعة طريق شاق، طريق مليء بالتضحيات ، طريق اندس فيه ولا يزال المتآمرون من الخصوم والحاسدين، الذين يعملون دون ان يشعروا على شحذ طاقاتي ورغباتي في النجاح، بإمدادي بالطاقة التي أحتاجها في إبداعي، الحمد لله لقد استطعت أن أجعل من اعدائي قيمة إيجابية، لقد أصبحوا بالنسبة لي هم التحدي، وما المسرح إلا تحدي.

ما مضى منك في المسرح: ما بقى وما سقط؟

الذي مضى مني في المسرح كثير جدا، أول شيء تركته هو الوظيفة، المصدر القار لقوت عيشي وأسرتي. حيث كنت ومنذ أواخر الثمانينات أشغل منصب مربي متخصص في الشباب، وقد مارست وظيفتي لمدة 11 سنة (1985 – 1996)، فترة أسست فيها فرق وجمعيات مسرحية، على غرار فرقة الكادحين بمقاطعة جندل عين الدفلى وجمعية محفوظ طواهري للفنون المسرحية مقاطعة مليانة.

أثناء العشرية السوداء والذي  عاشتها الجزائر وفي سنوات الإرهاب الأعمى،  الذي كان يحارب الحياة ويقتل كل جميل، كنا نحن المسرحيين هدفا مغريا لهؤلاء، فالمسرح خاصة والفن عامة حرام بالنسبة لهؤلاء الظلاميون. لقد كنا نعيش في قلق دائم، وتحت طائلة التهديد المستمر ، وقد  كان محتم عليا أن أهجر الوظيفة وانتقل إلى ولاية عنابة أقصى الشرق الجزائري، مما كلفني الطرد من الوظيف العمومي، وهكذا ومن أجل الطموح المسرحي ضحيت بمنصبي و سلمت أمري لله وللمسرح الذي أحب. تبعات هته التضحية لا زالت تلاحقني إلى يومنا هذا.

الذي مضى مني أيضا،  هو عمري، بحلوه ومره، حياتي التي منحتها لأب الفنون من الهواية إلى الإحتراف،  ممثلا، كاتبا ومخرجا (أكثر من أربعين سنة ممارسة مسرحية). حيث يمكنني أن أجزم ان الوقت الذي قضيته رفقة المسرح يفوق ما قضيته مع اهلي وعائلتي أضعاف المرات. الذي مضى مني اجمل الذكريات أيضا. فرق كثيرة دربتها واحببتها، مهرجانات وطنية، عربية ودولية شاركت فيها،  فكانت بالنسبة لي أجمل لحظات العمر، حيث التقيت وتعرفت على أغلى ناس، أحبة من الجنسين يقاسمونني  نفس العشق، غجر الركح كما يحلو لي تسميتهم، والذين أعتز واتشرف بالإنتساب إلى مجتمعهم المتمرد.

أما الذي بقي مني في المسرح، فهو كثير أيضا، او على الأقل مهم: بقيت شهرتي (بكل تواضع)  التي تجاوزت حدود الوطن إلى رحاب اوسع، فاليوم والحمد لله فإن محمد شرشال ومسرحه معروف في كل البلدان العربية التي أتشرف بها وأحب: تونس، المغرب، موريتانيا،  ليبيا،  مصر، الأردن، لبنان، العراق،سوريا، الإمارات، البحرين، الكويت وغيرها.. بل إلى دول غير عربية كألمانيا.  الذي بقي أيضا، هو عصارة تجربة دامت لأكثر من أربعين سنة، خيار جمالي قد يفتح لي ولمسرحي أفاق إنسانية رحبة، لقد كبر هدفي من مسرح محلي تقيده اللغة (النص المنطوق) إلى مسرح إنساني كوني يفهمه كل البشر، كونه يلغي الحدود بعالمية لغته (اللغة المرئية).            كما بقي لي أيضا، كبريائي كمبدع مسرحي انتصر على كل  المؤامرات التي نسجها ضدي أبناء مهنتي، لقد خرجت سالما ناجحا من كل الدسائس التي كانت تهدف إلى إفشالي وإحباط معنوياتي وكبح طموحاتي، لكن في الأخير أنا الذي انتصرت على نباح المتكالبين على شخصي ومسرحي.

أما ما سقط مني في المسرح، هو فرصة التعرف عن قرب عما يحدث في مدن وعواصم عديدة: موسكو، برلين، باريس، بيكين، أمستردام، افينيون، روما وغيرها. مدن كنت وما ازال اتمنى زيارتها والتعرف على ما يحدث فيها من مسرح، رغم علمي ببعض ذلك من خلال الشبكة العنكبوتية.

في الراهني الآن، ما هي درجات التمثّل الجمالي التى تراها قادرة على بناء العرض المسرحي بأبعاده المختلفة؟

دون إنكار الخيارات الجمالية الأخرى فإنني أرى ورأيي يخصني لوحدي، أن الواقعية الساحرية (réalisme féérique) هي الخيار الجمالي الأنسب والتي أراها قادرة على بناء العرض المسرحي بأبعاده المختلفة، حيث يكفل لنا اللجوء إلى هذا الخيار مجالا واسعا من خلال توظيف الخيال والفانتازيا من اجل خلق المتعة والدهشة التي يطمح إليها كل مبدع خلاق، سواء على مستوى الشكل أو المحتوى في مساحة فيزياء الجسد التي تخترق الزمان والمكان وخصائص الثقافات.

إنني أرى أيضا أن النوع الأنسب لمسرح اليوم هو اللجوء إلى الكوميديا الساخرة كخيار استراتيجي لمجابهة التراجيديا التي تعيشها المجتمعات العصرية، لم أرى أقوى و ألذع من السخرية كأداة للنقد والمواجهة . إن اعتماد هذا الشكل يفسح لنا المجال واسعا لاستغلال الخيال (الفنتازيا) من أجل محاكاة حقيقة جمالية للعالم الذي نعيش فيه بادوات كالسخرية، الغروتيسك، الغرائبية وكل ما بإمكانه السفر بالجمهور إلى عوالم إيحائية “فانتاستيكية” ولكنها تعبر عن حقيقة الواقع كما يراها المبدع لا كما يراها كل الناس.

هذا إضافة إلى كوني أرى ان اللغة المنطوقة مشكلة حقيقية يجب التفكير في إيجاد الحلول للآثار المترتبة عن استعمالها بإفراط، فاللغة بالنسبة لي تحد من عالمية الأعمال المسرحية، أي أنها محدودة بالجمهور الذي يفهمها، وإن حدث وقدمت المسرحية لجمهور لا يفهمها، وجب استعمال شريط الترجمة المكتوبة، وأنا ارى أن إرغام الجمهور بفعلي مشاهدة العرض وقراءة الترجمة في آن واحد،  يشتت تركيزه وانتباهه، لذا وجب التفكير في حل جذري لهته المعضلة، والحل يكمن في إلغاء اللغة المنطوقة تماما واستبدالها بلغة الفعل الفيزيائي المفهوم لدى كل البشر. إنني أرى وبكل المجازفة التي يترتب عنها رأيي هذا ، أنه بإلغاء اللغة المنطوقة يتم إلغاء الحدود و يصبح المسرح إنساني كوني، عالمي التواصل كالموسيقى. ألا يستحق أب الفنون الذي يوظف كل الفنون ومن بينهم الموسيقى أن يتجاوز مداه الموسيقى التي يوظفها؟ ألا يستحق هدفا كهذا المغامرة من أجله؟

في الأخير وجب توضيح أمر مهم، أنا لا أعادي النص المسرحي، لست مجنونا لأتنكر لعشرات الألاف من امهات النصوص العالمية الراقية والجميلة، من أنا كي اتنكر لسوفوكليس، راسين، شكسبير، كالديرون، تشيخوف، الفريد جاري، بيكيت يونيسكو والمئات ممن صنعوا مجد المسرح بنصوصهم. بالعكس إحترامي للكتاب الدراميين الحقيقيين لن يتوقف وبمسرحهم أيضا، ولكن أغوتني المغامرة والمجازفة من أجل ترسيخ ممارسة مسرحية جديدة في مشهد مسرحنا العربي والذي يجب أن يكون متنوعا ومختلفا أسوة بما يحدث عند غيرنا.

في الآن وهنا، ما هو انطباعك على المعطى المسرحي العربي الحالي في مستوياته: الجمالية والأكاديمية والهيكلية؟

في الحقيقة لست ناقدا مختصا لأبدي حكما جازما أو رأيا مطلقا بحكم ان هناك بعض التجارب المسرحية العربية القليلة نجحت في ابراز شيئا جديدا في الممارسة الفنية المسرحية، رأيي يبقى نسبيا و قد لا يفسر المساحة الواسعة في مجال الممارسة. ان الوطن العربي كبير ومتنوع والمؤكد انه يحتوي على تجارب كثيرة لم يتسنى لنا الإطلاع عليها ومعاينتها، لذا فانطباعي يخص التجارب التي شاهدتها من خلال مشاركتي في مهرجانات عربية مختلفة، المهرجان العربي تونس2018 والأردن 2020، مهرجان المسرح التجريبي مصر 2022، مهرجان الأردن 2022. فعلى المستوى الجمالي مثلا، فلقد لاحظت ان المسرح العربي (الذي شاهدت عينات منه) متنوع ومختلف عن بعضه البعض، هناك تجارب أراها رائدة وشجاعة من حيث الشكل والمضمون كتجربتي فاضل الجعايبي و توفيق الجبالي ومن الجيل الجديد عماد المي من تونس، و كذلك محمد الحر من المغرب ، جواد الأسدي وفاضل سوداني من العراق، وغيرهم ممن يحاولون النهوض بالممارسة المسرحية العربية جماليا وفكريا.

لكن الذي لاحظته من خلال اغلبية العروض التي شاركت في المهرجانات التي ذكرتها سابقا،انها عروض تفتقر إلى خيارات جمالية واضحة، عروضا يطغى عليها الخطاب اللفظي السردي و تفتقد الى الفعل و الحدث، انها عروض تسلط فيها الكاتب الثرثار الواعظ، انها عروضا تقف على فضاء السرد الادبي القصصي و تفتقر إلى الفعل المسرحي الأصيل، انه مسرح يمكن مشاهدته بالأذن فقط.

أما فيما يخص المستوى الأكاديمي، فالشيء الجميل في الممارسة المسرحية العربية هو التواجد الملفت للنظر لخريجي مختلف المعاهد والمدارس والجامعات المسرحية المتخصصة، خاصة من الممثلات والممثلين. من الجزائر، سوريا، العراق وغيرهم ، شباب بدأوا يشقون طريقهم بتجارب مهمة، شباب سيكون لهم شأن في قادم السنوات.

أما على مستوى الهيكلة ، فأنا متفاءل جدا باعتماد أنظمة و حكام أغلبية الدول العربية سياسة توفير البنية التحتية للممارسة المسرحية كقاعات المسارح كما يحدث في الجزائر من بناء لمسارح جديدة، زيادة على تلك التي تركها الإستعمار الفرنسي، وكذا بناء مدارس التكوين والأكاديميات على شاكلة اكاديمية المسرح بالشارقة بدولة الإمارات. و الجدير بالذكر ان المعرفة العلمية الفكرية و الجمالية اصبحت عنصر مهما في الممارسة الفنية المسرحية. فالاكاديمية تلعب اليوم دورا ايجابيا في تطور الفعل المسرحي على كل المستوايات

في الراهني الآن، مدى وجاهة التطوّر في الاشتغالات الحالية للذائقة المسرحية العربية مقارنة بغيرها؟

إن المستوى الخاص بالتطور المسرحي عبر الازمنة و بعدما ما اكتشفنا هذا الفن عن طريق الاستعارة من الاروبيين الاستعماريين في منتصف القرن التاسع عشر لا يزال ضعيفا، لازلنا في المرحلة التأسيسية او الجنينية،  لازلنا لم نخرج بعد من مساحة الاتباع.  إننا نستهلك المفاهيم الممارساتية المستوردة من المحيط المرجعي في مختلف التجارب المسرحية، بعبارة اخرى نستلهم ثقافة تجريبية مسرحية وصل إليها كل من قاد عملية التجريب والتجديد مثل كارلو غولدوني في الكتابة الركحية عن لاكوميديا ديلارتي ، ستانيسلافسكي في منهاجه السيكوطبيعية و الواقعية ، برتولد بريخت في طريقة التغريب و خطاب الوعي او ما نسميه المسرح البيداغوجي، أوغيست بول، أنطونان أرتو، ميرهولد في فزياء الجسد مع غروتوفسكي والمسرح الفقير، بيتر بروك وغيرهم. بمعنى آخر و بصراحة لم أعرف لحد الآن مسرحي عربي واحد ابدع أسلوبا او نوعا مسرحيا ، او مدرسة أو مسرحا خاصا به، كل اعمالنا في شكلها وانتماءها الجمالي هي أعمال مستنسخة من تجارب الغرب حتى تلك التي تبدو عربية، وكل محاولات مسرحيينا العرب في استحداث مسرح عربي اصيل كتجارب الطيب الصديقي ، واحتفالية عبد الكريم برشيد في المغرب، أو عبد القادر علولة ومسرح القوال بالجزائر، او مسرح التعازي بالعراق  أو حتى ما ذهب إليه توفيق الحكيم بمسرحه الذهني فهي تجارب إما غير واضحة، أو غير مكتملة. لقد تقوقعت  أغلب التجارب العربية المسرحية التي أرادت أن تؤسس لمسرح عربي فريد وأصيل،  في بذرتها الأولى ولم ترقى إلى شكل مسرحي يجسد شيئا ملموسا في مساحة الاتجاهات الجمالية و الفعلية،  أو تشكيل فضاء مغاير أصبح مرجعا قويا في التجارب العالمية.

إن أكثرية ممارسي المسرح في وطننا العربي يشتغلون بطريقة كلاسيكية (وإن ظهر العكس من خلال الشكل المعتمد)، بمعنى انها تشتغل على نص يكتب، ثم يجتمع الجميع لخدمة هذا النص  وتجسيده فوق الركح: يجتمع الجميع، يقرأون النص على الطاولة، يحفظون ادوارهم بعد دراسة شخصياتهم طبعا، ثم تأتي مرحلة تركيب النص على الركح بإدارة المخرج الذي يقوم في أغلب الحالات بعملية تنظيم المرور والتموقع فوق الخشبة، بعدما يجهز السينوغراف الفضاء حسب متطلبات نفس النص وهكذا. فالعملية كما تلاحظون ميكانيكية، روتينية، تشبه إلى حد كبير الطقوس والعادات التي يمارسها الناس في مختلف المناسبات المجتمعية، لذا فهي تجارب بقيت في مساحة الابتداع و الاتباع من بعضها البعض، بالإعتماد على نفس الأسباب و الوسائل وصولا إلى نفس النتائج التي تكرس للرتابة المسرحية المتشابهة.

ثم أن الأكثرية ومن بينهم أنا يشتغلون على أساس أنهم سيعرضون داخل العلبة الإيطالية، وأنا أرى أن عدم التحرر من الفضاء الكلاسيكي قد يعيق العملية التجريبية والتي تؤدي إلى تطور المسرح بالبحث عن أفاق جديدة، لأن العديد من التجارب الحديثة المنتهجة في الغرب قادت عملية تطور المسرح من خلال البحث عن فضاءات أخرى غير كلاسيكية: الشارع، الحافلة، الشقة، المصنع إلخ..وأنا هنا لا أربط التطور المسرحي بالفضاء وحده، بل قد يشمل كيفية صياغة النص المسرحي أو طرق وأساليب  الإخراج والتمثيل حتى داخل العلبة الإيطالية ولنا في عديد التجارب المثال الواضح لذلك نذكر منه المسرح الملحمي لبرتولد بريخت .

في الآن وهنا، أي درجة تُخرج فيها الوسائط التقنية والتكنولوجية العرض عن كونه مسرحا؟

أنا من المؤمنين بأن الممثل هو روح العرض المسرحي ، وأنه الحامل والمجسد للفكرة المركزية للعرض،  لذا يجب على جهود الفريق كله (سينوغراف، كوريغراف، الملحن، المخرج..)   يجب أن تنصب في خدمة هذا الممثل، يجب على الجميع العمل على وضع  الممثل في ظروف إبداعية مريحة وألا يتم إغراقه في محسنات تقنية وسينوغرافية مجانية وكثيفة.

إنني واعي بكوننا في عصر طغيان الصورة التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من حياتنا نظرا لطغيان وسائط التواصل الإجتماعي، وأن  إدراج  الوسائط التقنية  من إضاءة وآلات دخان وثلج..، والتكنولوجية من بث لصور سمعية  بصرية وغيرها، قد  أصبح وسيلة العديد من المخرجين طمعا في تجسيد الصورة الركحية المثالية . والحقيقة ،أنا لست ضد استعمال هته الوسائط والإستعانة بقدرتها على تدعيم الإيهام ، بالعكس أنا مع توظيف كل ما بشأنه تطوير الصورة البصرية للمشهد المسرحي، شريطة أن يكون هذا التوظيف مبررا وعقلاني الاستعمال وألا يغطي او ينقص من أهمية الممثل.

في الراهني الآن، مدى أهميّة التنظير المسرحي وحضور المعطى الفكري والفلسفي والثقافي في مدى الفعل المسرحي القائم؟

إن التنظير و التفكير في الممارسة الفنية المسرحية كان دائما ضروريا و مهما لتجاوز المالوف والغوص في جوهر المتعة المسرحية. و هذا ليس من اليوم،  البداية كانت في الحقبة الإغريقية مع ارسطو في كتابه ” فن الشعر” قبل 2500 سنة قبل الميلاد. انطلقت الممارسة المسرحية من قواعد ارسطو ثم الكلاسكيين الجدد في حقبة المسرح الاليزابيتي في لندن و بعد القرن الثامن عشر أصبح التنظير يواكب كل التجارب المسرحية حتى ظهر مفهوم الاخراج و تركيب العروض بشكل مختلف مع اندريه انطوان و ستالينسلافسكي و مايرهولد و بريخت الخ..

 

فالتنظير يؤسس بشكل فكري صحي للفعل المسرحي على كل المستوايات، يفكك المألوف الذي يصبح ساذجا ومعتاد مع مر الزمن و يدفع الى البحث عن أشكال مختلفة ترتقي بالعروض المسرحية الى المتعة الحقيقية،  بحيث أن كل عرض ينبغي أن يصبح فرحا بهيجا في الشكل و المضمون. لذلك ظهرت اتجاهات و مدارس مختلفة في الممارسة المسرحية من الواقعية الدرامية، إلى مسرح ما بعد الحداثة في الانواع المسرحية المختلفة الكوميديا، التراجيديا، المهزلة و السخرية الخ..  بعبارة اخرى يترتب التنظير في الفن المسرحي لتأسيس الجاد دون الاتباع و الابتداع..

 

في الآن وهنا، قيمة الجدل في الساحة المسرحية تعود لاختلاف الرؤى المسرحية أم لبناء الصفة الذاتية والتموضع؟ أي تمثّلات لهذه أو تلك؟

.

الأكيد أن قيمة الجدل في الساحة المسرحية ضرورية انها تعود لاختلاف الرؤى الفنية الجمالية والفكرية للفن المسرحي. يجب أن يدرك المسرحيون أن التكامل و الانسجام يكمن في الوحدة الفنية المسرحية. يجب كذلك علينا نحن المسرحيون العمل على تأكيد و تبرير الخيارات الجمالية والفكرية، في معترك محاولة إيجاد مبررات لتلك الخيارات لكل واحد منا، في حدود تثمين نقاط القوة، والتنبيه لنقاط الضعف للوحدة الفنية المسرحية او الغرض.، لنجعل الممارس يتراجع عنها ويستدركها. نحن بحاجة ماسة إلى أن نتجاوز ذواتنا من أجل كينونة مسرحية دائمة و متطورة التي حتما ننتمي اليها بصدق، لذلك ينبغي للنقاش ان يكون موضوعيا وبريئا من التفكير الشاذ الذي يلوث مسار تطور الفن المسرحي بشكل صحيح.

إن الجدل العقيم المبني على الاحكام المسبقة و التلفيق و التملق و الذاتية المفرطة لا يعدو الا أن يكون استعراضا لعضلات الذي يريد أن يثبت أنه متمكن من أدوات هذا الفن، أو على أكثر تقدير البحث للحصول على مكانة في ظل الدوائر المؤثرة على محيط ممارسة هذا الفن. للأسف الشديد أصبح التزلف، والتودد والمجاملة هي العملات الاساسية في العلاقات البشرية من أجل الحصول على منصب أو دعوة لمهرجان أو حتى كناية مشروع فني. انها سلوكات سائدة لدى أغلب المتحدثين عن الفن المسرحي، إنهم مجموعة من الحاملين لشهادات يقال أنها عليا، ييتسهدون بها في كل الملتقيات والمهرجانات التي تعودوا عليها وتعودت عليهم، فتراهم في هته المنابر يستعرضون معارفهم المعلبة من خلال إثارة نقاشات باسلوب لغة الخشب و التفلسف المفرط المنمق بمفردات ومصطلحات رنانة ومضللة في كثير من الاحيان بعيدة عن دينامكية فزياء الفضاء المسرحي. إنهم يشبهون إلى حد كبير شعراء البلاط أو مهرجو الملك، وما أكثرهم في زماننا وأمكنتنا. إنني أقول هذا دون التنكر لكفاءة وأهمية الباحثين والأكادميين عندنا والذين لا ينطبق عليهم موقفي هذا، بحكم ان اغلبهم ينطلقون من وعيهم بحقيقة  الممارسة المسرحية.

في الراهني الآن، أذكر لكل من هؤلاء وصيّة: المخرج، الممثل، الكاتب المسرحي، الناقد، المتلقي، الهياكل المهتمّة بالمسرح.

وصيتي للمخرج اولا هي أن يكون حاملا لمشروع فكري جمالي. يكرس كل جهوده لأجل تجسيده بشكل ديناميكي على الفضاء المسرحي. دور المخرج ليس أن ينجز أعمالا مسرحية مناسباتية و نفعية مادية وفقط. يجب على المخرج أن يكون حاملا لمشروع فني، فكري و جمالي بارتباطه مع مشروع ثقافي للمجتمع. من الضروري أن يكون أيضا ملما بكل الفنون التي تصبح مفردات فنية في بناء العرض و التي يوظفها في عملية الكتابة الثانية للكتابة الأولى سواء كانت مكتوبة او منطوقة او فيزيائية صامتة من خلال الاختصاصيين في مجالها. وإلا كيف يمكنه أن يناقش السينوغراف إن لم يكن يدرك لغة الألوان والأجسام؟ أو يناقش الملحن وهولا يدرك الموسيقى و معنى النوطة والصوت، والجملة الموسيقية أو الميلوديا؟

على المخرج ألا يكون ديكتاتوريا ومتسلطا على فريقه، “فالدلاء الفارغة هي التي تحدث الضجيج”، عليه أن يمنح لكل واحد من متعاونيه مساحة للإبداع التي يستحقها، بحكم أن طبيعة العمل المسرحي طبيعة جماعية في حدود مسؤولية الاختصاص، والمخرج وحده له تلك القدرة لتجسيد هذا المبدأ الجميل ميدانيا من خلال منح الفرصة لكل متعاونيه (ممثل، سينوغراف، كوريغراف، الملحن) كل حسب لغته ومفرداته وبإدارة وتوجيه المخرج من أجل تجسيد فكرته المركزية من خلال الوحدة العضوية الموسومة بالعرض.

كلنا يعلم أن المسرح عالمي إنساني، وكما لنا الحق في الاندماج العالمي سواء في اختيار الأفكار التي نطرحها، او الأشكال التي نستعيرها، إلا أن الفنان يجب أن يكون ابن بيئته، لذا فإنني أوصي المخرج بعدم الانسلاخ من هويته و قيم مقومات مجتمعه. لن يقبل بنا الآخر إن أردنا أن نكون ذلك الاخر، بل يقبلنا ويحترمنا حين نكون نحن ومن خلال ذاتنا نساهم في الكل، أو نندمج في الإنسانية من خلال خصائصنا لا غير.

أما الممثل فإني أنصحه بكل صدق، بأن ينهل من الكم الهائل للتراث المسرحي الممتد على مدى 2500 سنة، عليه أن يتعرف على تاريخ المسرح منذ الإغريق إلى يومنا هذا كي يكتشف ويلامس التجارب المهمة التي مر الفن المسرحي. أوصي الممثل أن يطلع على الدراسات المهمة المنجزة عن الفن والمسرح : فن الشعر لأرسطو، الإلياذة والأوديسة لهوميروس ، موت التراجيديا لنيتشه ، إعداد الممثل لستانيسلافسكي، تجارب ميرهولد وفختانڨوف الأورغانون الصغير لبريخت، ووتجارب بيتر بروك و “مذكرات ومذكرات مضادة” ليونسكو، “كتابات في الفن” لديدرو والعديد من المؤلفات التي تزخر بها الدراسات حول الفكر المسرحي حيث لا تتسع المساحة لذكرها كلها في بعض السطور .

ينبغي على الممثل أن يتثقف و يطالع بغزارة و لا يبخل نفسه متعة قراءة أمهات النصوص المسرحية لكبار كتاب المسرح عبر التاريخ: سوفوكليس، شكسبير، كالديرون، ديرنمات، يونسكو،ألفريد جاري وغيرهم. عليه أيضا أن يكون ممثلا مثقفا ملما بشتى أنواع العلوم الإنسانية و التاريخ ووالادب عموما و العلوم الأخرى المختلفة.

أوصي الممثل أيضا أن يهتم بأداة عمله الجوهرية و الاساسية وهي جسده، أن يكون ممارسا مداوما للرياضة والرقص والغناء محافظا على صحته وأناقته و قدراته البدنية و العقلية. ممارسا لركوب الخيل و الأكروبات ،فممثل اليوم يقاس على تلك القدرات وليس على طريقة الإلقاء فقط.

في الأخير، أوصي الممثل ان يختار أدواره بعناية، أعمال تناسب شخصيته،قناعاته وافكاره. أوصيه أيضا ألا يسمح في مساحة إبداعه لمخرج يجعل منه “ماريونيت” تطبق تعليماته حرفيا، الممثل مبدع يتوجب عليه المساهمة بإيجابية في بناء العرض.

ضف إلى ما ذكرت فإن الممثل إنسان، يملك حسا إنسانيا، العمل على جعله أداة تنفذ تعليمات المخرج دون إشراكه جريمة في حقه.

أما الكاتب المسرحي فوصيتي له أن يكون فعلا كاتبا مسرحيا لا ثرثارا يملأ أوراقه بإسهالات لفظية وديماغوجية مقيتة غير صالحة بخصوصية فن المسرح. الكاتب المسرحي يجب أن يكون واعيا بكتابته للمسرح، فالهدف هوان يكتب نصا يؤدى، وليس نصا يقرأ، نص يثير غريزة كل المتعاونين كي يغوصوا في ما وراء هذا النص واستنباط الفعل المسرحي الأصيل. عليه أن يكون متمكنا من نظرية الدراما ومدركا لمعنى البناء الدرامي او واعيا في حالة عدم التزامه بالمعهود في الكتابة للمسرح، فحتى إن قدم البديل لماهو سائد لابد من الإقناع والتبرير.

على الكاتب المسرحي أيضا حين يكتب أن يدرك سر الاقتصاد في الكلمة من أجل إنتاج نص جميل ومكثف.

للناقد نصيحة واحدة لا أزيد عليها شيئا،وهي ما قاله أوجين يونسكو في هذا الموضوع: “الناقد يجب أن يكون تلميذ التحفة المسرحية، لا أستاذا عليها”.

أما وصيتي للمتلقي، فهي ألا يكون متفرجا كسولا، يستهلك كل ما يقدم له دون اتخاذ موقف مما يرى، عليه ان يعرف متى يحظر ومتى يغادر، متى يوافق ومتى يرفض، متى يصفق ومتى يستنكر. يجب يدرك أن حضوره موقف وغيابه أيضا.

أما الهياكل المهتمّة بالمسرح فأنني أوصي وزارات الثقافة أن تعمل على وضع استراتيجية مدروسة وفعالة من أجل فعل مسرحي مستدام، وان تبتعد عن البروباغندا والتنشيط المسرحي الساذج. يجب على الوزارت العمل على رفع ميزانية الثقافة بالقدر الذي يضمن لكل الممارسين بممارسة مسرحية مريحة، كما أوصيها بسن قوانين من شأنها حماية الممارسة المسرحية من الدخلاء والمتطفلين ووضع معايير أكاديمية احترافية لسد الطريق أمام الرداءة وعدم الكفاءة والاستسهال الذي يسود المشهد المسرحي على العموم. أما بالنسبة للمسارح فعليها أن تكون واعية بخياراتها الإستراتيجية في إنتاج الأعمال المسرحية المفيدة والمهمة، على مدراء هته المؤسسات العمل على تجهيز مسارحهم وتوفير الظروف الملائمة للمبدعين المسرحية.

 

في الآن وهنا، هل يمكن من سؤال الراهن استشراف ممارسة المسرح في المستقبل؟

يعتبر الفن المسرحي من اكثر الفنون حيوية، إنه دون شك ضرورة حتمية عند الإنسان منذ النشأة الأولى، انه مرتبط ارتباطا وثيقا بالطبيعة البشرية سواء كان بأشكاله البدائية الطقوسية أو أشكاله الحديثة. إنه موجود في يومياتنا دون أن ننتبه لوجوده من فرط صدق تمثيلنا لأدوارنا في الحياة. إنه موجود في الشارع، في الإدارات، في احتفالاتنا ، في ملاعب كرة القدم، عروضه لا تتوقف عند ركح المسرح هنا في أعراسنا ومآتمنا. إنه في كل مكان وجد فيه هذا الكائن الذي يفرض عليه ان يلعب أدوارا في حياته، قد لا تعكس حقيقة شخصيته وسريرته، لهذا فلا خوف على المسرح من الزوال.

ولكن، وجب التنبيه لنقطة مهمة، أغلب أنظمتنا العربية لا تؤمن بحقيقة أن الفعل المسرحي قوة فاعلة لتحرير الإنسان وكينونته، لذا نجد هته الأنظمة إما مدجنة للمسرح تحاول بكل مؤسساتها جعل المسرح بوق لشرعنة سياساتها، او عدوا وجب محاربته بالتضييق عليه وتقزيم مفعوله بشتى أدوات القمع، تصل احيانا إلى معاقبة المبدعين الحقيقيين وتهميشهم، او استعماله كأداة للهيمنة خدمة لأجندات توسعية من خلال فرض نفوذ ثقافي من خلال تموين ملتقيات أو مهرجانات مشبوهة.

لذا فالطريق أمام المبدعين المسرحيين لازال طويلا وشاقا. من المؤكد ان الممارسة المسرحية في وطننا العربي الكبير، في تطور مستمر وهي تنبئ وبنسب متفاوتة (حسب سياسات الدول) بمستقبل واعد ولكن يجب أن نعترف أن هذا المنال لن يكون غدا، لأنه لا يجب أن ننسى أننا كمجتمعات جديدة العهد بالمسرح لا زلنا في المرحلة الجنينية، مقارنة بأمم لها باع في المسرح وتاريخ يمتد لألاف السنين. ينبغي للنظم السياسية ان تجعل من الفن المسرحي استراتيجية بناء الدولة و ان يكون من اوليات الاهتمامات في بناء الوعي الجمعي للأمة و استمرار كينونة الدولة

 


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock