مقالات ودراسات

الناقدة أمل ممدوح تكتب: “أعمق مما يبدو على السطح”: النقش حفرا في أعماق الجماهير


المسرح نيوز ـ القاهرة |أمل ممدوح

ـ

%d8%a3%d9%85%d9%84-%d9%85%d9%85%d8%af%d9%88%d8%ad

الناقدة: أمل ممدوح

     يقول أدونيس “إن مضمون الفن كامن في العمق الذي يحفره الشكل”، والحقيقة أن سفن الرقص الدرامي حين تود الإبحار فلن تغري رياحَ وهجها بحارُ المعنى الظاهر أحادي المستوى بقدر المستويات المتراكبة والعميقة من المعاني والمشاعر والأفكار الإنسانية، وهو ما ذهب إليه الرقص المعاصر والحديث وصولا للعرض بأيدينا لمناضل عنتر مخرج ومصمم الرقص واختياراته السابقة، إلا أن جديده الذي قدمه مؤخرا تصميما وإخراجا ورؤية مع فرقة الرقص المسرحي الحديث على مسرح الجمهورية “أعمق مما يبدو على السطح” ذهب حقيقة لأبعد مما اعتادت الأمور فهو هنا لا يخوض ضمن إطار روائي أو قصصي أو درامي برؤية مجسِدة أو موازية أو مبحرة بل إنه يعيد إفراز نسيج فكري خالص من وسيط لا درامي حيث بنى عرضه من أفكار كتاب “سيكولوجية الجماهير” لعالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي “غوستاف لوبون” الصادر عام 1895ويغوص فيه كاتبه في علم نفس الجماهير تحليلا وتشريحا مستخلصا أهم خصائص الجماهير ومن بينها اللاعقلانية وسرعة الانفعال ولا وعي التحرك والانسياق للجوانب الأسطورية واستعدادها للوهم والتعصب للأفكار ومنها الدينية والسياسية وقابليتها للتسلط والانقياد للاستبداد والابتزاز الفكري والعاطفي من زعيم ديكتاتور أو كاريزما متسلطة وما يعنيه ذلك من سهولة تشكلها، وأن ذوبان الفرد في الجماعة قد ينتج كيانا مختلفا وتصرفات لم تكن لتأتي بها فردانيته،

كل ذلك وغيره خطه الكتاب في جمل كاشفة لكن مناضل ركز من بينها على فكرة قابلية التعصب والانقياد في مواجهة فكرة نسبية الحقائق عبر الزمن كأحد أفكار الكتاب التي اختارها مناضل لتصدير المنشور الدعائي للعرض بجملة “الحقائق ليست مطلقة ولا أبدية وإنما لها تاريخ محدد بدقة وعمرها قد لا يتجاوز عمر الزهور أو قد يتجاوز عمر القرون..” لتضحد هذه الفكرة من نفس نسيج الكتاب الفكرتين السابقتين مع استدعاء بعض من سمات الجماهير من خلال تشكيلات حركية درامية مختزلة دون سرد أو حوار إلا بضع مونولوجات من رواية “أولاد حارتنا” لنجيب محفوظ  المثيرة للجدل والتي تفكك البناء الفكري لسكان الحياة البشرية بإسقاطات رمزية ناقدة تطرق سياقها لفكرة الفتوات المتماسة مع فكرة الديكتاتور السابقة في مزج نقدي موضوعي موفق قدمت من خلاله الرواية كإطار مجرد عام دون تفاصيل أو إغراق رمزي مبقيا على أهم أفكارها وشخوصها لتكون قصة البشرية الأولى وامتدادها إطارا أعم يصلح لتمرير أفكار الكتاب ويتضافر معها بنقد ضمني لمجتمعاتنا.

    صاغ العرض أفكاره حركيا في لوحات متتابعة منفصلة تصور كل منها فكرة أو شكلا مختلفا لنفس الفكرة (كما يفترض) في إطار الرؤية الكلية للعرض الذي يبدأ بلوحة لثلاثة راقصين من بينهم فتاة يرتدون جميعا ملابس عصرية واحدة بلا تمييز بين ذكر أو أنثى وبلا انتماء لعصر أو مكان واضح مع ثنائية لونية في كل زي بين الأبيض والأسود كتقديم موفق لفكرة الحدية والقطبية المتطرفة في كل فرد، نرى في اللوحة ما يوحي بتناغم حركي مؤقت يعقبه صراع على السيطرة على أماكن بعضهم على الأريكة البيضاء في المنتصف الرامزة للصواب أو الحقيقة يتطور لرغبة للاستحواذ عليها حيث ينفرد بها أخيرا أحدهم منتصرا، في لوحة أخرى يأتي صراع في هيئة عراك مباشر بين اثنين يلقي أحدهما الآخر فينتصر أحدهما لبرهة لينتصر الآخر بعده، هكذا يمضي الأمر تقريبا في بقية اللوحات التي تدور كلها حول نفس الفكرة من صراع ونزاع لفرض الوجود ورصد للمنحنى البياني لعلاقات الرأي حركيا ببعض التطوير والتغيير ليتسع أحيانا الصراع ليكون بين مجموعة واحدة رجالا أو نساء أو بين مجموعتين أحدهما من الرجال والأخرى من النساء أو مجموعة متنوعة يتصارع البعض فيها حتى ينتصر أحدهم مخضعا الباقين ومسيطرا عليهم ليبرز شخص آخر من  المستوى الأعلى للخلفية نكتشف تحكمه فيهم من بعد فيحرك المنتصر ويخضعه كالمسلوب ليتكرر ذلك بشكل أو بآخر في معظم اللوحات في دمج ومعادلة درامية بين معنى الدكتاتور والزعيم موجه الجماهير وبين شخصية “إدريس” في رواية “أولاد حارتنا” التي ترمز لإبليس رمز الشر مقابل شخصية “أدهم” الذي يرمز لـ “آدم” أبو الإنسانية كرمز للخير والمتكلم الوحيد الراوي لخمسة مونولوجات من الرواية تحمل رثائية لبني الإنسان ونقدا ضمنيا تجريديا له ولقهره تم اختيارها بعناية لكنها جاءت مطولة متكررة بشكل قلل من المذاق التجريدي العام.

    يتوازى تقديم فكرة الديكتاتور الأكبر مع بروز فكرة العنف الدموي من خلال إشارات بالأصابع كوضع المسدس أسرف في استخدامها في معظم اللوحات، مع تكرار مستمر للكثير من الحركات في معظم اللوحات بل في اللوحة الواحدة؛ فالحركة المرسومة لم تفلح في إشباع الفكرة ولم تقدم أفقا تأويليا واسعا متجددا كما لم تحمل أغلب الحركات وشخوصها شحنتها النفسية والعاطفية اللازمة لحمل الدلالة وملء حيز الفكرة المقرر لها فلم تبد الحركة رغم غزارتها متولدة من داخلها مشبعة العاطفة محملة بالدراما اللازمة أو عاكسة طاقة وحيوية بل بدت مرسومة مصنوعة فاترة للحد الذي يجعل بضع لوحات تكفي لقول كل ما قيل دون تكرار بلا جديد فعلي أخل كثيرا بالإيقاع وأفقده حيويته إلا في لوحات قليلة كان أحدها لوحة لفتاة بملابس صفراء ووردية أكثر تحررا وبساطة، وقد تكون بعض اختيارات الموسيقى التي كانت ثابتة في عدة لوحات ساهمت في هذا الركود رغم جودتها في أخرى، وهنا يلفت النظر اختيار موسيقى وغناء نوبي في لوحتين تقريبا مع إدخال رقصة سولو لفتاة راقصة على أغنية “فلك” اللبنانية لريما خشيش فهل أراد المخرج كسر فكرة المحلية؟ لكن الاختيار النوبي دعمها بينما الاكتفاء بنموذج واحد آخر كاللبناني لم يدعم كسرها كما لم تكن هذه الرقصة مرتبطة بسياق العرض إلا لو فسرت كدعوة للحب لم يقدم لها أو معها ما يدعمها. من جهة أخرى أسس لمعنى آخر بتشكيل ثابت له دلالته طوال العرض حيث تواجد على يمين المستوى الأعلى للخلفية رجل (تمثال في الحقيقة) يدير ظهره لنا مرتديا زيا قديما تراثيا في وضع سلبي لا يتحرك مهما جرت الأمور أو اشتد الصراع كرمز مزدوج للزمن أو الخالق الأكبر في إيحاء خافت يتناسب مع رمزية الرواية خاصة وأن “إدريس” كان دائم النظر إليه إما في تحد أو جثو متألم..لتأتي دلالة شديدة التوفيق في الصياغة بدخول شخصية ترتدي زيا مشابها له على نفس مستواه العلوي من الجهة الأخرى كإشارة للمتاجرين بالدين الأوصياء حتى إذا خلع الرجل رداءه كان نفسه إبليس/ إدريس/الديكتاتور، وتجيء السينوغرافيا بتصميم عمرو عبد الله كعنصر أساسي مكمل للفكرة صيغ بما يناسبها من تجريد مقتصد عميق الدلالات معا، فالمسرح فارغ يتسع للحركة لكن في الخلف مستوى أعلى وخلفية مصاغة بالسيلويت مع إضاءة حمراء معظم الوقت تشير للخطر والصراع الدائم لم تخفت أو تتغير بأخرى إلا في لوحة الفتاة الراقصة مع درجات حساسة للإضاءة في نقلاتها، السيلويت الخلفي يبين ظل رجل غير محدد المعالم لكنه أكبر مما حوله من مبان أو أشياء مبهمة تتغير بأن تختفي أحيانا ويبقى وحده داخل ظل آخر أكبر كنقلة في الصراع بين قوى كبرى.أما الأداء فبينما تميزت عدة وجوه كان بطل العرض الممثل للديكتاتور ذو حضور كبير لائق كما كان مؤدي دور آدم ذو أداء معبر وإلقاء ونطق مميز صحيح للغة العربية، أخيرا العرض محاولة جيدة عميقة البناء كانت بحاجة لبعض التكثيف ومراعاة الإيقاع والاهتمام بدوافع الحركة وتنويع دلالاتها لتبدو أعمق من السطح كما تستحق.

مسرحنا: أغسطس 2016


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock