الناقد العراقي حيدر جبر الأسدي يكتب: التأطير السسيولوجي وانشطار العلامة في نص “رصيف ٧٧” للكاتبة إيمان الكبيسي
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
ـ
بقلم: الناقد العراقي حيدر جبر الأسدي
سعى نقاد الادب الماركسيين، وهم نقاد الاتجاه السسيولوجي الى ضرورة ( ان تعكس الاعمال الادبية والمسرحية الواقع الاجتماعي للمبدع، وان يلتزم بقضايا الطبقات) -على حد قول- (د. احمد صفر) مما دفع الكثير ممن يشتغل في هذه المسارات الى تأطير المنتج الابداعي بهذا النسق السسيولوجي، لتتمظهر فيما بعد في العديد من النصوص المسرحية التي تناولت القضايا الاجتماعية بتفاصيلها المتعددة.
ان حزمة الاشتغالات النصية التي ولدتها افكار ومنتجي النصوص المسرحية عبر المدونات المغايرة وبأساليب تتماهى مع طبيعة العلامات المرسلة في البنى التركيبية لها والمتعاقدة مع المتمركز الخاص بها، اعطى لهؤلاء المنتجين مساحات واسعة في البحث عن معماريات نصية ضمن هيكليات مبتكرة تغادر المألوف، من جهة وتبحث عن الاتساق مع العلامة من جهة اخرى، من جانب اخر يمنح التكثيف الجمالي القدرة للمنظومات القيمية المتوارية في المغارات النصية الى ان تتمركز في اغلب جزيئات النص وتبحث عن الظواهر المستحضرة وردم جدار الكتمان او الانكفاء، ومن ثم التساوق مع الازاحات الخارجة من البنى المشهدية، لاسيما اذا وضعت لها معالجات حداثوية، وتمترس انزياحها التأويلي في العقل الجمعي ليعطي بانوراما للثيمة المطروحة سلفا.
من هنا جاء نص ( رصيف ٧٧ ) للكاتبة المسرحية ايمان الكبيسي، ليعطي لنا هذه التصورات التي اثرناها، وهو ضمن اطار التوجه الذي اشرنا له في الاستهلال، والنص ضمن مجموعة أيوب الصادرة عن دار كفاءة المعرفة للنشر والتوزيع/ عمان/2020
بدءا من بنية العنوان الرئيس ( رصيف ٧٧) يثير تساؤلا حول الرصيف والرقم ٧٧ ما العلاقة بينهما؟ وبالتأكيد العنوان استعارة مستلة من القانون العراقي ( ٧٧) لسنة ١٩٨٣ الذي يقضي الى ان ( من حق الزوجة المطلقة من ان تسكن في بيت طليقها، شرط ان يكون البيت مملوكا للزوج)، وهو من القوانين الشائعة والمتداولة. اما اقترانه بالرصيف فهذا بحثٌ اخر تحيلنا اليه الكاتبة عبر ارسال علامة اخذت منحى اخر، فالرصيف هو مكان للجميع، ربما يكون مأوى لاحدهم، وربما مكان عمل، واخر للبيع والشراء، وهكذا والجمع بين المكان بمعانيه المتعددة مع القانون اريد منها التعبير عن واقع مجتمعي متردي لهذه الشريحة المستلبة، ففي المشهد الاستهلالي تُصور لنا الكاتبة مكان تجمُع العمال، لكنها اعطت لنا دوالا مختلفة ( سرير مكسور، حب مكسور، مرأة طويلة، واطارات وغيرها) لتحيل المكان من صيغته الأيقونية المتعارف عليها الى مجموعة نظم علاماتية تشتغل ببثها المتكرر على انساق من المعاني المتشظية في السياقات العامة للحكاية، ومن هنا كان المدخل الاول لتشظي العلامات سواء على مستوى الدوال الظاهرة عيانا في توصيفاتها المشهدية عبر تمظهرها السينوغرافي المقترح نصيا، او تلك التحولات الواردة في الفضاء/التخيلي المعنية بالقراءات التداولية التي تمنحها العلامات التي هشمت الكتل الكونكريتية باتجاه البحث عن افاق اخرى للتأويل، ثم تمركز النص في تضاريسه الانشائية على شخصيتين اريد لهما ان يكونا ضميرين عائدين للذكر والانثى فكان ( هو /هي) ولم تكن شخصيات معروفة لان الكاتبة بحسب فهمي ارادت القول ان الحكاية يمكن ان تحدث لكل زوجين اثنين، كذلك ارادت ان تمنحهما ابعادا تأويلية ضمن هذا التموضع، إذ ومنذ اللحظة الاولى ادخلتنا في جدلية الكينونة، وفي داخل المحكمة بوصفها القانون لنجدهما يتصارعان، اذ يقول لها
هي: عالمك مشروع العاطفة.
هو: هي سنن الحياة، ابحث عن حاجتي عندك والبي حاجتك،
هي: لن تتفهم شفراتي ولن تحلها…
هو: شهوتي الاحجيات..
وهكذا يتم تحول الشخصيات لترفض (هي) العودة اليه ولتتحول الى غجرية، إذ تحاكي نفسها في منولوج ( حلال عليك بيع الهوى!!! ) لكنها تستدرك بأن البيع يجب ان لا يرتقي الى الحب، فالبيع هنا من اجل سد الرمق، وهي احالات واقعية لليومي والمتداول، ثم تنقلنا الكاتبة الى مشهد ايروتيكي جريء ربما لم تعهده نصوصنا المسرحية لاسيما للكاتبات ان اردن اقتحام هكذا تمثلات مشهدية فسيكون اصل المشهد قائم على التلميحات والاثارات فقط دون ان يخرج من انضباطه النسقي او خروجه عن حدوده المالوفة، ( تقف على السرير تستعرض جسدها، كانت اول بضاعة يعرضها للمارة، ثم تنتقل هي لتجسد شخصية المتسولة (الله يا محسنين ظل رجل ولا ظل حايط، على باب الله استجدي ظل رجل) وهي اشارة الى امرين اولهما ثمة صراع داخلي للبحث عن رحل للأمان من الواقع الذي تعيشه هكذا شخصيات، والامر الاخر هو انكفاء عدد الرجال لسبب او لآخر، فضلا عن ان المشهد كان متأرجحا ما بين البحث عن الظل لسد الخلل وعدم العودة وما بين العودة وتحمل الذلة والهوان، وفي كلا الحالتين ثمة خسارة وتنهي بقرارها الاتي:
هي: لن اعود، حريتي اغلى.
تنتقل الكاتبة لتشظي العلامة الى ما اسمته ( صوت هن) وهي مؤلّفة من كلمتين (صوت/هن) بوصفها هواجس ذاتية تتحول الى مرآة كأنه صوت ضمير او ربما صوت الحقيقة ( صوت هن) تعبير عن العاطلات من الامل.
صوت هن: ستموتين عطشى دون انيس .
هي: بل احيا كما اريد؛ وساجد انيسا حقيقيا.
من هنا ارادت الكاتبة تأصيل فكرة الطلاق اللارجعي ، رغم انها بحاجة الى العودة ، لكن التعصب هو ما يدفع الطرفين للتمسك بآرائهما دون النظر الى النتائج الوخيمة التي سيفضيه ذلك التعصب.
هي: هل القدر ذكرا يتعصب لا بناء جلدته فيعاقبنا لأننا شاركنا في كل..
واحالة ذلك الى الاقدار شيء من عدم الشعور بالمسؤولية وربما يكون ضريبة عن سوء العمل واداء الشخص.
في مشهد اخر يجسد (هو) دور الفزاعات لإنتاج علامة اخرى في النسق المتدحرج بالمعنى كي يخلق نسقا تواصليا، اذ يستحضر شخصيات طاغية من التاريخ وهي شخصيات اشكالوية لينعت نفسه بها.
هو: انا كلكامش ، انا الحجاج ، شهريار ، انا يزيد بن معاوية، هتلر، انا الطاغوت.
جاء تجسيد هكذا شخصيات خارجة عن السياقات الانسانية في التاريخ لتعطي الكاتبة صورة الرجل القاتمة في نظر هذه الشريحة ( المطلقات) وربما البعض في نظر الكاتبة نفسها، بعدها تدخل (هي) في لعبة الاستمالة التي ادخلها (هو) فيها اولا/ لإغوائها وتحقيق ملذاته الخاصة، وثانيا/ لكسر انويتها ولتحطيم معنوياتها الذاتية.
هو: جمال جسدك ايقظ رمادنا …
هي: احرر ارضي مما علق بها من قيود ..
هو : تعالي لنحلق في سماء الوله …
هي / لا لا اعرف لكني ابحث عن حب صادق …
رغم ان الاغواء اثار فيها شجون قديمة لكنه في ذات الوقت استنطق بواعث الخيانة التي كان يفعلها طليقها على مسمعها ومرآها، فمن الاغواء الى رئة التواصل الروحي وبداية الانقضاض على الاخر، لذلك فالانشطار الواسع الذي حصل في هذا المشهد.( هو ١، هو ٢ ، هو ٣، هو ٤) تعد شخصية واحدة لكنها متشظية الافعال والعلامات، وان كانت تصب في اتجاه واحد وبتقديري هي نتاج الميزوجينية ( كره النساء) المتولد من التراكمات التاريخية بسبب حجم الضرر التي لحق بها من جراء عمل الرجل وان كانت المعادلة فيها شيء من التجني على الرجل، لكننا ننقل تصورات الكاتبة ونقرأها على وفق معطيات وعناصر النص .
يستمر صراع العودة واللاعوده الى المشهد الاخير وهو مشهد المحكمة الذي بدأت الكاتبة فيه تبني نصها وفق البنية الدائرية زمكانيا .
هو: محكمة ..حكمت المحكمة عليك بمغادرة الرصيف والعودة الى سيدك …
هي: لا اعود …
هو: حكمنا نافذ …
هي: كلا لن …
بهذا الجدل ينتهي النص وتبقى هي رافضة حتى تعيد حياتها السابقة وفق ما تراه…
يمكن ان نثبت بعض المؤشرات التي تم تشخيصها في سياقات النص وهي على النحو الاتي:
اولا/ استنطاق المسكوت عنه بطريقة تحفز الذاكرة الجمعية وتحيله للبحث عن معالجات مجتمعية.
ثانيا/ توظيف القوانين بشكل يجعلك تقرا شريحة مهملة مهمة بكثافة درامية وتدافع عن حقوقها المسلوبة .
ثالثا/ تنوع العلامات المتشظية من الشخصيتين ليست فقط على مستوى الشخصيات وانزياحاتها في المعنى وانما على مستوى الافكار المطروحة والتي تحمل العديد من العلامات عبر ما تجسده الشخصيات في ظل التتابع والتزامن المشهدي.
رابعا/استطاعت الكاتبة ان تعطي تعددية الدلالات بتعددية الأصوات ( هو ، هي، ظل، صوت هن، العراف ، المتسولة الخ) جاءت متناسقة مع ( قدرة العلامة على التحول والمزج بين الانشطة والدلالات الايقونية والرمزية والاشارية) – على حد قول- (د. ابو الحسن عبد الحميد)
خامسا/ ثمة جرأة جلية في تصميم المشاهد باستخدام نسق ايروتيكي لقراءة الواقع المزري لهذه الشريحة المستلبة واسدال الستار عليها من قبل الجميع.
سادسا/ اتقنت الكاتبة عملها بتوحيد الصورة والرمز والكلمة في وحدة بوليفونية معتمدة على التعارض الجدلي عبر سياق الاحداث لمجمل المشاهد التي اشرنا لها انفا.
سابعا/ يمكن اعتبار النص هو جزء من الكتابة الحداثوية بوصفه قد تداخل في الجانب الادبي مع اسقاط النمطية المألوفة والخروج من التصاميم المسبقة.
اخيرا كان رولان بارت يصر على ملامسة عمق المسرح بحضوره داخل المنظومة المجتمعية والحياة بشكل عام، وليس كمجرد تركيب للعلامات، من هنا نشدد على ما آل اليه النص في قراءة هذا الواقع بذلك العمق.