الناقد العراقي “عواد علي” يكتب: الخطاب المسرحي الاستشراقي.. أنتونين آرتو أنموذجاً

المسرح نيوز ـ القاهرة |عواد علي*

*كاتب وناقد مسرخي عراقي

ـ

يُعدّ المسرحي والشاعر الفرنسي أنتونين آرتو من أبرز المسرحيين الذين تأثروا بتجربة مواطنه الفريد جاري المجنونة، المقوضة للقواعد المسرحية، والمعايير الجمالية، والأنساق الأخلاقية، خاصةً في ثلاثيته الشهيرة عن الملك أوبو. وكان أول مظهر من مظاهر تأثره به هو إطلاقه اسمه على مسرحه الذي قدم عليه بعض تجاربه المجارية لروح جاري المتمردة، وخاصةً تلك التي تهدف إلى إحداث تأثيرات صادمة في ذهن المتلقي، وذائقته الجمالية، وقيمه التقليدية، وإرباك حواسه، على غرار ما فعله رامبو في صوره الشعرية الصادمة، ووضع مسلماته موضع المساءلة، والوقوف بينه وبين أي تصور عقلاني للواقع.
حاول آرتو في تجاربه أن يزاوج بين المصادر الطقسية والسحرية والروحانية من جهة، وصور القسوة والعنف والهلوسة، والأشكال الغرائبية، والتجريد الرمزي في مسرح جاري من جهة أخرى. وفي السياق ذاته دعى إلى أن يقوم المسرح بتطوير لغة طقسية بصرية من خلال إعادة اكتشاف العلامات الجسدية الكونية، أو ما يسميها بـ (العلامات الهيروغليفية) إشارةً إلى كونها علامات صوريةً. وكان للسينما الصامتة أثر كبير في تعميق نزعته إلى خلق مسرح يتصدر فيه خطاب الجسد، والتشكيلات الحركية والتكوينات المبهرة، ويتواصل مع المتلقي من خلال بنى مشهدية، بدلاً من التواصل بالكلمات، أو اللغة المنطوقة، التي اعتقد بأنها أصبحت عاجزةً عن تحقيق التواصل بين البشر في القرن العشرين، وهو اعتقاد أخذ به أغلب الكتاب الطليعيين، ولذلك نبذ أدبية الخطاب المسرحي، مثلما نبذ السينما الناطقة، التي عدّها عبثاً محضاً ونفياً للسينما ذاتها، ورفض هيمنة الملفوظ على النص المسرحي، وحرّض على تجريده من “الثرثرة” التي تكبله، بل إلى انتهاكه وتهشيمه، وعدم خضوع المخرج له، لاستخلاص جوهره القابل للرؤية، أو المشاهدة، وجعله نقطة انطلاق ليس إلاّ، لأن النص، حسب رؤيته، يتوجه إلى وعي المتلقي وذهنه، ويُهمل لاوعيه؛ وفي هذا الصدد يقول “أنا أفعل بالنص ما أشاء”، وبالفعل حول النصوص التي أخرجها إلى نوع من الصراخ، وتلاوة التعاويذ السحرية، والتمتمات المصاحبة للمشاهد البصرية التي يغلب عليها الطابع الطقسي والإيمائي والرقص البدائي والغناء والموسيقى. واستبدل شعر الحوار بشعر في الفضاء، أي بشعر بصري يتموضع في كل ما يٌرى على المسرح من أداء جسدي (حركي وإيمائي)، وتكوينات، وكتل، وألوان، وإضاءة.
وإذا كان منظور آرتو للمسرح مطمحاً عسير التحقيق على الصعيد العملي، ولم ينل أي نجاح في زمنه، بل أُهمل تماماً في بلده فرنسا، وهوجم من منطلقات مختلفة، منها أنه يستعصي على التمثل والمقاربة، ويقوض مبادئ الدراما المتواضع عليها، فإنه جرى اعتناقه، وأُسس عليه أغلب الاتجاهات في المسرح الطليعي الأميركي والبولوني، التي غيرت من هدف المسرح، وفجرت شكله التقليدي من خلال إعطاء الأولوية للجسد وللحركة على حساب النص، وشكّل هذا المنظور إطاراً مرجعياً أساسياً لمعظم تجارب المخرجين الطليعيين الذين تبنوا أشكال المسرح الطقسية وصيغ التعبير الصوري، أو البصري.
لقد انجذب آرتو بشدة الى المؤثرات الشرقية، وقام بانتزاعها من تربتها أو محضنها وسياق حقائقها في إطار رؤيته الخاصة. لكن هذه الرؤية فصلت، بين التاريخ الشرقي والحضارة الشرقية بأساليب تخفي تحت قشرتها الخارجية نزعة مركزية غربية، واستشراقية براجماتية، منتهكةً ما يسميه الناقد الهندي رستم بهاروشا “أخلاقيات العرض” التي تكمن وراء أي تبادل ثقافي، والعلاقات الاجتماعية التي تؤسسه. وفي هذا السياق تقول سوزان سونتاج إن “متابعة آرتو للآخر يمكن رؤيتها على أنها جزء من حاجته الباثولوجية في الهروب من أوروبا المنطقية”.
في ضوء ذلك يمكن القول إن توجه آرتو الى الشرق، بغض النظر عن رفضه العنيف لثقافته، لم يكن بدافع حب الغير، أو أن هذا الحب كان قائماً على فهم أصول مبادئه، بل الصحيح أنه خلق الشرق الخاص به (شرقاً متخيّلاً)، ثم حصل منه على مصادره لاستعادة الحيوية. ولأن آرتو فشل في تقديم “معرفة تاريخية صحيحة”، فإن أفكاره التاريخية جعلته يُصنّف ضمن المستشرقين الذين سخّفوا الثقافات غير الغربية على أساس احتياجاتهم، وتأكيداتهم للحقيقة من منظورهم الكولونيالي البحت. وهكذا بدت أبحاثه خياليةً نابعةً من رؤيته لمسرح “مستحيل” يرقد في أعماقه، وليست تاريخية أو وصفاً منظماً لما رآه.
لم يكن ما أثاره آرتو عن المسرح البالينيزي (نسبة الى جزيرة بالي الأندونيسية) هو المسرح البالينيزي نفسه، بل كان متعلقاً بـ “المسرح الشرقي”، وحافزاً ومثيراً موحياً فقط للمسرح الموجود في أفكاره وأحلامه. ويتفق بهاروشا مع سونتاج على أن أسوأ ما تركه آرتو هو اصطلاح “المسرح الشرقي”، لأن مقياسه كان مثل كثير من المقاييس الغربية التي تبسّط بشدة النشاطات وطرق التفكير في الشرق. وقد تجنب كل الخصائص المميزة والظاهرة للفنون المختلفة والمعقدة كالكابوكي، والنو، واليانج كوليت، والباريز، والكاثاكالي، والشاو، وأدى تجريده لها من فرديتها الى أن تصبح تقاليد العرض في الشرق من دون شكل محدد، بحيث يمكن أن يحل بعض تلك الفنون محل بعضها الآخر.
إن استخدام آرتو لمصطلح “المسرح الشرقي” يضعه في موضع أقل مما يليق به من احترام، بل يجعله يتسم بالغموض. ورغم أنه استخدمه دائماً كمرادف للمسرح البالينيزي، فإنه أراد التعبير من خلاله عما يبتعد عن المسرح الغربي في المقام الأول، ولم يستطع التخلص من فكرة أن “الآخر” او “الغيرية” ترتبط أرتباطاً وثيقاً بـ “المسرح الشرقي”. وزاد من هذا سوء فهمه للعناصر الكونية، والميتافيزيقيا، والقوى الخارقة للطبيعة الموجودة في الرقصات البالينيزية والكمبودية التي لم تكن دقة تقنياتها دافعاً لانجذابه اليها، بل تجسيدها القوي للمجهول، وأشباح ما وراء الطبيعة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock