مقالات ودراسات

الناقد تحسين يقين يكتب: دور المسرح في المشهد الثقافي الفلسطيني

بمناسبة اليوم العالمي للمسرح


المسرح نيوز ـ فلسطين | تحسين يقين

ـ

وجود الحركة المسرحية واستمرارها بحد ذاته، يعني المساهمة بوجود الحركة الثقافية، كون المسرح أحد عناصر العمل الثقافي، فلا ثقافة متكاملة الجوانب بدون مسرح فاعل.

 

والثقافة هي أبرز صفة معنوية للشخصية وهويتها، لذلك فإن مساهمة المسرح في البنية الثقافية الفلسطينية هي مساهمة في بناء الشخصية الفلسطينية وتأصيلها.

في سياق التاريخ الثقافي الحديث بشكل عام، والمعاصر بشكل خاص، كان للمسرح دور فاعل في ظل تأخر صناعة الكتاب ونشره وتوزيعه، وفي ظل تأخر نشوء الفنون المرئية (الميلودراما التلفزيونية والسينما). لذلك مثل المسرح الجانب الفني للجمهور على مستوى المتعة الفنية ومستوى التثقيف، وكان الملجأ لقطاع كبير من الجماهير كباراً وصغاراً لمشاهدته طلباً للإمتاع والثقافة، يضاف إلى ذلك مطلب الحرية والاستقلال والنضال الوطني حيث مثل المسرح وما زال وسيلة مقاومة واعية.

الثقافة الفلسطينية في المسرح

استمد المسرحيون مواضيع مسرحياتهم وأشكالها من الواقع الفلسطيني على مستوى قضاياه السياسية والمجتمعية، من خلال الكتابة المسرحية، بالإضافة إلى فلسطنة ما أمكن من مسرحيات عربية وعالمية. لذلك أصّل المسرح الثقافة الفلسطينية من حيث:

  • الموضوع.
  • اللغة المستخدمة واللهجات.
  • الملابس.
  • الموسيقى والغناء والرقص.
  • الديكور والسينوغرافيا.

إن عكس فلسطين كمجتمع ووطن وثقافة وقضايا جدلية في المسرحيات الفلسطينية التي أنتجت في الداخل والخارج هو تأصيل مهم للثقافة الفلسطينية. وهذا لم يكن متيسراً في أشكال أخرى من الفنون بسبب وقوع فلسطين تحت الاحتلال وعدم إمكانية وجود تلفزيون وسينما، لقد كان هدف مشاهدي المسرح عند الذهاب إليه هو مشاهدة فلسطين: القضية والشكل واللون والتراث.

أما دور المسرح كشكل ثقافي في التعاطي مع القضية الوطنية كقضية إنسانية ووطنية، فإن المؤرخ للثقافة والفنون في فلسطين يجد نفسه في ظل تأمل المشهد الثقافي الفلسطيني راصداً لعدد كبير من المسرحيات التي أنتجت وما زالت تنتج والتي عبرت عن القضية الفلسطينية. فلم يكن بالإمكان الابتعاد عن هذه القضية، حيث مال المسرحيون إلى النضال في الجانب التثقيفي والجمالي جنباً إلى جنب مع النضال المادي ضد الاحتلال، لذلك وجه المسرحيون ثقافة الجماهير نحو الإيمان بالشخصية الفلسطينية وأركانها وقدرتها على التخلص من الاحتلال وعدم تكريس أمره الواقع أبداً، مما ساهم في الارتقاء بوجدان وفكر الجمهور، حتى عد المسرحيون مناضلين تعرضوا للملاحقة والمراقبة على تعدد أنواعها.

القضية الإنسانية والقضايا المعاصرة

لو أطلعنا على المواضيع التي طرحها المسرح في فلسطين فقط في آخر عقدين سنجد أن المسرحيين تفاعلوا مع الواقع الفلسطيني والتغيرات التي حدثت فيه على طريق التجديد والتحديث والاتصال الإنساني بقضايا العالم وفكره المعاصر.

فرغم أن المسرحيين لم يهملوا الموضوع الفلسطيني الذي يدور حول (الفلسطيني ونقيضه الاحتلالي) بسبب استمرار تعرض فلسطين للاحتلال وإجراءاته بعد اتفاقية أوسلو، وبسبب اشتعال الانتفاضة الثانية عام 2000، إلا انهم اندمجوا مع ما يثار من فكر مجتمعي، فكانت حيوية المسرحيين في تفاعلهم هي حيوية للفكر الفلسطيني للجمهور، وحيوية في الفكر السياسي من خلال إمكانيات الحوار في المسرح.

لقد شاهدنا قضايا العالم وقضايانا كبشر أيضاً في مجالات الديمقراطية وحقوق الإنسان، حقوق المرأة، حقوق الطفل، النوع الاجتماعي، المساواة، حقوق الفئات، قضايا المهمشين، قضايا البيئة والمياه وغيرها، لذلك كان للمسرح دور كبير خصوصاً للمسرحيين الذين تجولوا في أنحاء فلسطين على شكل المسرح المتجول في بث الحيوية والنقاش في هكذا قضايا، فقد شارك المسرحيون من ناحية في الارتقاء بمفاهيم المجتمع المدني، ومن ناحية أخرى دفعوا الجمهور نحو المشاركة والتفكير الناقد الإيجابي، كما ساهموا في التنوير على المسرح نفسه كفن للفئات التي لم تكن على دراية كافية بالمسرح. وكل ذلك يصب في تنمية ثقافة الجمهور.

وقد كان استخدام المسرح (كفن يقوم على الحوار وتعدد الشخصيات والأصوات، والإقناع والفكر …). منسجماً مع طرحه للمفاهيم المدنية المعاصرة اللازمة لعمليات التحديث الفلسطيني.

لقد كان المسرحيون الذين عملوا في نشر هذه المفاهيم المعاصرة بأسلوب فني جمالي حواري على دراية بأدواته وعلى دراية بالقدرة الكافية في المسرح وطاقته.

إن مشاركة جزء من المسرحيين في إدخال وإدماج المفاهيم المدنية كمفاهيم يحتاجها الشعب الفلسطيني الذي يحيا حياة شبه انتقالية تتفاوت من مرحلة إلى أخرى داخل المسرح الفلسطيني وسيلة هامة للارتقاء بالفكر الاجتماعي والسياسي في فلسطين، وفي منح وسيلتهم (المسرح) بعداً فكرياً يسعى إلى التأسيس الإيجابي والتغيير نحو الأفضل.

لذلك كان المسرح جزءاً من عمليات التحديث والحداثة في فلسطين، وساهم في قيادة الفكر الجديد المقدم خصوصاً للأجيال الجديدة في المدارس والجامعات ومراكز الشباب، وهم الفئات التي يعّول عليها إحداث التغيير المستقبلي. وفي هذا الصدد، يمكن الإشارة إلى أن وجود المسرحيات الفلسطينيات إلى جانب المسرحيين ساهم في التحديث الاجتماعي، على مستوى علاقات الرجال والنساء، وصورة المرأة، حيث يدل وجود المرأة في المسرح على فكر الحركة الثقافية والاجتماعية، ويساهم في تغيير الصورة النمطية للمرأة في مجتمع ذكوري واحدي الرؤية.

وهذا دور هام يسعى دوماً إلى الحراك الاجتماعي والاستفادة من الطاقات الكامنة في المرأة وعلاقتها بالرجل والسعي المشترك للنهوض والتنمية والتحرر الاجتماعي والسياسي. وقد انعكس ذلك على تركيبة المشاهدين (الجمهور) حيث شاركت المرأة الرجل في التعرف على الأفكار والمضامين الجديدة، وفي التعرف على قدرة المسرح في التعبير عن القضايا التي يعيشها الناس.

كما ساهم المسرح الفلسطيني في الوصول إلى مراحل عمرية مختلفة ومستويات تعليمية وثقافية مختلفة، ولم يكن مقدماً فقط للنخبة، بل أفسح المجال للجمهور العام للتعلم والتعرف والتثقيف، خصوصاً للفئات الأمية وشبه الأمية، فقد اعترف بضرورة إشراكها في العمل، وإشراكها في إحداث التغيير.

كتّاب وفنانون وتقنيون وإداريون وتربويون

من جهة أخرى فيما يتعلق بالبنية، لقد كان لوجود المسرح الفلسطيني دور هام في استفزاز الكتاب للكتابة المسرحية أو الإعداد المسرحي عن مسرحيات عالمية وعربية، كما كان المسرح مجالاً للموسيقيين والراقصين والفنانين التشكيليين والشعراء، والفولكلوريين أن يشاركوا في المسرح (أبو الفنون) حيث هناك إمكانية لمشاركة قطاع من الفنانين في الأعمال المسرحية، بسبب حاجة المسرح لأكثر من نوع فني كما هو معروف. وتعلم إعداد موسيقى تصويرية للأفلام مثلا جاء بعد تنفيذ الموسيقى التصويرية في المسرح.

والكلام ذاته ينطبق على التقنيين من هندسة وإضاءة وديكور وصوت …، حيث أقبل العشرات من هؤلاء على تعلم هذه المهارات والتي يستطيعون العمل فيها، وهذه نتيجة لدور المسرح في الحركة الثقافية، كذلك الحال في تعليم الإدارة الثقافية في فلسطين، حيث شكّل جزء من العاملين في المجال المسرحي إداريين ثقافيين في مؤسسات ثقافية وغير ثقافية. لقد دفع المسرح الفنانين والتقنيين والإداريين نحو امتلاك المهارات والتنافس البناء في السعي لها، وهو دفع باتجاه إيجاد وتفعيل البنية الثقافية الفلسطينية.

وتشكل الكتابة كفعل أدبي متميز مجالاً من مجالات الدفع المسرحي، ولم تقتصر الكتابة على التأليف وتعلم الكتابة والإعداد المسرحي فقط، بل تقدمت ذلك إلى الكتابة الصحفية والنقدية، بمعنى أن المسرح أيضاً فعّل الكتابة في وسائل الإعلام الجماهيري على تعدد أنواعها ووسائطها، ولما كان لهؤلاء الكتاب جمهور يقرؤهم، فإن ذلك يعني دوراً استراتيجياً للمسرح في مد المجتمع بكتابات تنويرية تصل إلى الجمهور، حيث تتكامل المشاهدة مع القراءة، وإن وجود أحدهما هو بحد ذاته مكسب للثقافة. كما أنها كتابة نوعية تختلف عن الكتابة الأدبية الصرفة.

إن النقاش الاجتماعي والفكري حول المسرح وحول الكتابات التي تكتب حوله يخصّب الحياة الثقافية ويمدها بأسباب الحياة. وفي هذا الصدد ينبغي الإشارة إلى نقطة مهمة تتعلق بدور المسرح الفلسطيني في قيادة حركة الحداثة الثقافية في المجتمع بسبب اتصال المسرحيين بحركة الحداثة في الخارج على مستوى الشكل والمضمون، كما كانت الإنتاجيات المسرحية محفزة للإنتاجيات الفنية الأخرى ومعمقة لها.

أما التربويون فقد تفاعلوا مع عالم الدراما فوجد في فلسطين لأول مرة نشاطات وتنظير حول الدراما التربوية واستخدام المسح في التعليم. لذلك فقد ارتقى المسرحيون وفعلوا التعلم الفعال.

إن المسرح الذي يخاطب النفس الإنسانية من الداخل بكون قادرا ليس على تعميق رؤية المشاهد فقط بل يعمق فكره، وينطبق ذلك أكثر على العاملين في الإنتاج الفني.

ومصدر الفنانين

ليس هناك شك أن بيت المسرح مدّ الحركة الثقافية والفنية (السينما والتلفزيون والغناء …) بالكوادر المختلفة خصوصاً في فئة الممثلين والممثلات، حيث إن وجود هؤلاء في المسرح سهل إنتاج الأفلام والمسلسلات الميلودرامية والوثائقية التي أنتجها التلفزيون الفلسطيني والقطاع الخاص.

إنه مصدر غني مستمر في العطاء في تصدير الكفاءات والمواهب والمهارات إلى باقي الفنون. كما أن جزء من هؤلاء الفنانين ساهموا في تأسيس وزارة حكومية للثقافة والفنون، كما ساهموا في مؤسسات فنية وثقافية مختلفة.

سدّ فراغاً

لقد سدّ المسرح جزءاً من فراغ ظاهر في الحركة الثقافية الفلسطينية لسنوات طوال خصوصاً تحت حكم الاحتلال، وكان المسرح عنواناً للشخصية الفلسطينية وقت قرار المواطنين للذهاب إلى المسرح، وعنواناً لهذه الشخصية خصوصاً في تأصيل البعد الثقافي في ظل عدم وجود تلفاز ووسائل إعلامية غير مراقبة، حيث كان المسرح أكثر تحرراً في مسألة المراقبة من سلطات الاحتلال بسبب قدرة المسرحيين على المراوغة والرمز للاحتيال على المراقب الاحتلالي، في حين تعرضت وسائل الإعلام المكتوبة للمراقبة والشطب لكل ما هو فلسطيني.

لقد ساهم المسرحيون في المحافظة على التراث الفلسطيني والفولكلور من خلال رؤية وطنية تعمل على حفظ مقومات الهوية من التهويد والتغريب، فكان أيضاً مشجعاً لتوظيف سياقات التراث والفولكلور في الأعمال المسرحية في ظل عدم وجود وسائل إعلام جماهيرية.

مهرجانات

إن مساهمات الحركة المسرحية في إقامة مهرجانات مسرحية أو عروض وافدة في فلسطين منح المثقفين والجمهور فرصة التعرف على أشكال مختلفة من المسرح، وعلى أفكار ومضامين إنسانية متعددة. فقد ساهمت مهرجانات مسرح الطفل في القدس وبيت لحم في تثقيف الطفل والأسرة في مجالات ثقافية وإنسانية وفكرية. كما كانت مشاركات الحركة المسرحية الفلسطينية في الخارج مساهمة في لعب الحركة الثقافية دور خارج فلسطين، وشكل الاعتراف العالمي بالمسرح الفلسطيني (عن طريق الجوائز) اعترافاً بالثقافة الفلسطينية وقدرتها على المشاركة والتميز. وهذا ارتقاء بالثقافة الفلسطينية وتقديمها للعالم، وعقد صلات مع الجماهير خارج فلسطين ومجالاً خاصاً للتواصل مع فلسطينيي الشتات. والمطلوب من المسرح أن يعي طاقاته وطاقات العاملين فيه وثقافاتهم ودورهم الطليعي باستمرار، والمطلوب له الرعاية اللازمة والتمويل والتثبيت.

 


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock