مقالات ودراسات

حصريا.. الناقدة العراقية د. سافرة ناجي تكتب: مسرحية “هنّ”.. بوح عبثي تطلقه فوهات المدافع!


 

المسرح نيوز ـ العراق| د. سافرة ناجي*

أكاديمية وناقدة مسرحية من العراق*

ـ

 

د. سافرة ناجي

 

لكل فعل جمالي هناك عتبة تمهد للدخول الى فضائه. وعتبة مسرحية “هنْ ” كانت البطاقة التعريفية به/ الفولدر. وما ان يتم اللقاء بين المتلقي وهذه العتبة، حتى يرسخ لديه انه عرض يتحدث عن الحرب وعن نسوة جمعتهن الحرب. فيكون المتلقي تحت سطوة مفاهيم الحرب وضجيجها شاء ام ابى، حتى وان لم يكن واقعا للمتلقي، فالحربتقتحم كل الفضاءات سواء عن قرب او بعد، فليس هناك انسان اليوم لا يعرف ما تعني اوزار الحرب في عالم العولمة الاتصالية  . وبالتالي يتصل المتلقي بهذا العرض عبر الحرب.

 

وما ان تلج فضاء العرض حتى تجد صالة مكشوفة مؤثثة بخمسة كراسي اصطفت بخط مستقيم وهو انشاء مرئي لما ورد في بطاقة التعريف. اذنهو مجلس عزاء بسبب الحرب، ولا غير الحرب وايقونته الرئيسة الدف وما يحمل من رمز مزدوج للفرح والحزن.  في هذا العرض احالة الى رمزه الحربي اذ بداية كل حرب تبدأ منه.

 

سينوغرافيا العرض خشبة مجردة موثثة بنساء مجردات من كل شيء كما يظهر عليهن ، ولم يبقى لهن غير ذكراة  تحيط بهن كما تعلن اطارات حافظة الصور.وهذا الشح في كل شيء يكسر توقع التلقي ليحلق بمناقشة ماذا سيقول العرض عن الحرب ؟

هي الحرب مرة اخرى علامة/ ايقونة لا تقبل التفسير ولا تخرج عن انغلاق التأويل في مدلولاها الموت ولا شيء غير الموت.هي فعل يستبيح كل مدلولات الحياة. حدودها صورة صراع (موت  xحياة).

 

بنية درامية يَستعَر صراعها من اجل نفي احد اقطاب هذا الصراع،ولا تقبل غير مقولة اما النفي اما الموت، واما الحياة. ولا يعني ان كانت هذه الحرب نشبت من اجل غاية سامية ام دونية.

 

لان الحرب لا تخرج من دونيتها مهما زوقت وحسنت من صورتها، تبقى علامة موت .وهذا الرسوخ يبقى محل جدال جمالي لدى المسرح عندما يحيط بذوات البث الجمالي لأي عرض مسرحي يحاكي موضوع الحرب. هذا ما يجعل التلقي ازاء عرض مسرحي قادما من مكان يشتعل بنيران الحرب ويصطف الموت على ابوابه.

 

لا يخرج عن صورة ضجيج الحرب وصراخ الموت .ليمارس عرض”هنْ” كسر توقع لهذا الرسوخ ليكون خطاب يَشرعمن نقيض الحرب الى هدوء السلام في حضرةلقاء نسوي حزين، فيكسر ايقاع هذه اللقاءليكون طقس هاديءيجمعبين نسوة بعد غياب طويل يمتد بينهن تاريخ صداقة وذكريات واحلام.  توزع حضورهن بحسب حضور الكراسي واصطفافها المستقيم كعلامةان الحدث يدور في عزاء،ليكون لنقرة الدف اشارة اذن بالسماح لانطلاق فعل الحكي/ الندب في مثل هذه المناسبات وهي شعيرة أنثروبولوجيا تتم  في طقس العزاء،اذ يتحول  المعزون من نادبين لموضوع العزاء الى ندب ذاتي خاص. فذهب العرض الى الملفوظ  كتقنية تعبير، وهي اشارة الى ان الحرب تعطل كل شيء في ادانة صارخة للحرب، التي تنفي اي فعل فيزيقي ممكن ان يصدر عن انسان عاش الحرب،ولا يقوى في هذه الحالة غير الاداء اللفظي على وصفها.فقدم صورة مكثفة لقهر الحرب للإنسانأياكان انتماءه. ولا يملك اي قوة لرد لسان فوهات مدافعها سوى مناجاة الالم والتمسك بأمل الخلاص منها عبر استذكار تاريخ المدينة.وبوح النسوة هنا لا يقول اكثر مما قالت الحرب وهن ينتظرن حلم لا يأتي وكأنهنْ يقولنْ لا شيء يتغير، لا شيء يحدث، اذا بقي الانسان يحل مشكلاته بالحرب، ويغيب منطق العقل. وكم من مرة رَددت الانسانية هذه المقولات بعد كل حرب.

 

لتعود مرة ثانية ويكون الحرب قرار حياة من جديد. اذا لا جدوى من اي حوار يمضي باتجاه الحرب.  ومناقشة فعلها العنيف الذي يبطش بكل شيء  سوى ملء لفراغ ما تركت الحرب. فقدمت “آنا عكاش” قراءة ادانة للحرب من منظور كشف عورتها الملتحفة بالحق والدفاع عن الانسان. وهي تدين الحرب من واقع استباحة المرأة ايقونة الحياة والارض.  لتعلن من خلال اصطفاف خمسة نسوة وخمسة دفوف لفضاءخاوي الا من ارواحهن الموجعة بالم الحرب، لتشدو اسئلة العرض بعزف سمفونية الوجع على وطن مبتلى بالموت وارض لم تروى بعد ، ماذا يمكن ان نقول للحرب؟ وماذا نقول عنها؟ هل بجلد الذات ام جلد التاريخ ،ام الحاضر؟. كل هذه التساؤلات شَرع بها المتلقي مع العرضلتفكيكها .لتزيح فرضيته الجمالية المعطيات المتداولة حول الحرب. لتقدم  حكايتهن عبر انين خافت يشبه الموت، يجسد وهن الوطن ، ولم يبقى لهنْ ولا للوطن غير أنين روحي خافت منزوي في ظلام حالك.

 

مسرحية “هنْ” تناقش قضية وطن من احساس المرأة المهزومة المتشبثة بالحياة،لتحدد علاقتها بوطن لا يشبع من سلب حقوقها من الامومة والعشق ، والامل والمستقبل،  فتحتج  لفظيا، وترفض ان يسلبها كل احلامها وكأن لسان حالهايقول لانريد وطن يملْا احضاننابشظايا الحرب لتستقيم وتشمخ رايته خفاقة، ايشموخوقلوبنا تخفق بإلالم. فقدم العرض صورة لاجتماعشظايا الحرب المغروسة في احضان النسوة اللاوتيثكلتهنْ الحرب بأرواحهنْ واحلامهنْ بولد يكبر،وحب مثمر، وحبيب عائد، واخ يحتضن اخيه وقت الوجع، وكل هذه الاحلام تجتمع على الحلم بوطن أأمن،،ومستقبل يعج بالفرح لا بالحزن. كتبت “انا عكاش” سيمفونية الحرب من علاقة المرأة بالأرض.لذلك تَصر نسوة عرض “هنْ” على البقاء في ارض سوريا والتمسك بها.صرخن بوجه الحرب بقراءة ناعمة الشكل تستر على بركان من الغضب والاشتعال بوجع الالم والخوف التناقض، فيبقى مدار  كبت وبوح من الذات الى الذات.فظهر العرض وكانه مسطح لحكاية ممكن ان تروى في اي مكان وليس على خشبة المسرح،، فهي لم تمسرح الحرب بل اقتنصت صدق الواقعلتحقق معادلة الدراما في جمع المتناقضات تماهيا مع متناقضاتالحرب التي تعلن السلام عبر فوهات المدافع.

 

وقد جردت المسرح من تقنياته المرئية الاتقنية الملفوظ الذي يكرر نفسه مرئيا عبر توظيف الداتا شو والمزج بين ذوات الفعل المسرحي وذات سوريا وكانهما ذات انشطرت الى اثنين بمعنى ان الحياة عبارة عن وطن ومرأة،. فتجعل من المتلقي متبرم من العرض وهي تدمغه وتدمغ الحضارة بصفعة احتجاج، وتقول ان الانسانية اليوم لا تعلن عن تحضرها بل عن بربية وحشية وهي تغض البصر عن تدمير تاريخ حضاري لوطن مثل سوريا . وهي تعيد مقولات التاريخ وتعيد مجد الجريمة الاولى، لتكون سؤال ومقولة احتجاج الام على وطن يسلبها امومتها فتطلب منه ان يتقاسم معها الوجع النصف بالنصف على الرغم من ايمانها بان الولد اغلى من الوطن، وهكذا يتناوب السؤالبينهن وبين المتلقي ما الذي جعل الاطفال يتحولون الى قتلة؟، كيف تحولالود والصداقة الى سمفونية قتل مستمرة لا تنتهي؟ . هل لان هذه الارضلم ترتوي من دم جريمة جبل قاسيون فبقيت سوريا نهمة للموت والدم. فكانالتجسيد المرئي للملفوظ الاحتجاجي بعرضثيمات صور الذكريات لأشخاص غابوا غيابا ماديا، أوغياباً معلقاً، حتى تحولوا الى بضاعة في سوق نخاسة تجار الحرب.فكان تأويلتجريد الخشبة من موجودات مسرحية، واداءمسرحيامجردا من التقمص والادعاء. علامة صارخة على ما تترك الحرب من اثار قهرللأنسان. لهذا نرى ان استعارة تقنية البوح  ذكاء جمالي ، لان الحرب لا تترك لنا غير البوح الذاتي ، فكان خطاب العرض هو بوح الروح للروح هو حوار روحي، صوت داخلي  خاص جدا وعام جدا في آن  واحد.

 

وهو اعلان صارخ باننا نغني لأرواحنا ولا يسمعنا احد. نحن ثرثرة عبثية عن الحرب ، نحن انتظار ما لا يأتي ولا شيء سوف يحدث،. سيقبى كل شيء على حاله  نحن وانتم . انا التلقي معطلة وانا البث معطلة مثلما تعطل الحرب كل شيء، فكل شيء على المسرح معطل ، ولا يصدح فيه غير انين ذات مقهورة وهو علامة دالة على التكثيف الجمالي لإدانة الحرب . وهذا الايقونات التي سبقت تلقي الحرب وخلصت الى ان هذا العرض كتب مدونته النصيةتحت سياط الحسرة على وطن التهمته ايدلوجيا السياسة والحرب، وفرضت سطوتها عليه ولا خيار له اما الموت، او الهروب، وفي كلا الموقفين نفي قصري لإنسانيته. عرض هن يسرد وجع الحرب بقلم امرأة خبرت الحرب وعاشت خوفها وتنفست بارود القذائف والرصاص . وعرفت رعشة الموت والحب والالم والفرح. كل هذه الايقونات الحربية كانت حاضرة ومهيمنةعلى بنية العرض، وهي تؤكد العجز عن ايقافها ولم يبقى امامه من وسيلة  سوى الهروب الى احضان الذكريات لأنها الملاذ الامن في زمن الحرب ، هروب من حاضر الحرب.  ليعلن عن عبثية الوجود التي اطلقتها فوهات المدافع .هي رسالة احتجاج واصرار على اننا باقون وسيظل صوتنا ايقونة رفض حتى وان كان هو الاخر رفض عبثي .

 

فتحية لفريق العمل الذي  شاكس الحرب بمغايرة جمالية ازاحت المتداول عنها، ليكون سؤال الحرب سؤال قلق معلق يبحث عن اجابة.

قدم هذا في الدورة العاشرة لمهرجان المسرح العربي التي عقدت في تونس يناير 2018 وهو من تأليف واخراج آنا عكاش.  

 


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock