حصريا.. ننشر مسرحية “سرجيلا ” للكاتب السوري الكبير “عبد الفتاح رواس قلعه جي”

المسرح نيوز ـ القاهرة| نصوص

ـ

عبد الفتاح رواس قلعه جي

 

سرجيلا

مسرحية

 

الشخصيات

 

حمدوش:       مستخدم

حميد    :       مدير دائرة الآثار والتراث المادي

روابي   :       باحثة وموظفة في دائرة الآثار والتراث المادي.

الأم    :       خدي (خديجة)

الفتاة   :       مريم

الأب   :       بولي (بولس)

الأخ   :       غوث

 

 

 

 

 

 

 

 

بين الموت والحياة جدار زجاجي شفاف، ويستمر الوجود

 

 

    – 1 –
    (دائرة الآثار والتراث المادي، لافتة معلقة بهذا العنوان في صدر المكتب، خارطة معلقة على الجدار لقرية أو أكثر من القرى الميتة، الجدران والنوافذ فيها ما تزال قائمة كأنها ما زالت صالحة للسكن لولا السقف الذي اختفى بفعل السنين.

طاولة مكتب رئيس الدائرة وعليها هاتف وبضع قطع أثرية ونقود قديمة ومجهر للفحص. بعض الكراسي لجلوس الزوار.

شاشة خلفية للعرض.

المستخدم حمدوش يمسح الطاولة بخرقة في يده ثم يجلس وراءها منتفشاً وهو يعبث بالمجهر والقطع الأثرية).

حمدوش : لا أعرف ما فائدة هذه الدائرة (يقرأ اللافتة) دائرة الآثار والتراث المادي (يشير إلى لوحة المدن الميتة) بيوت ومناطق مهجورة ومحظورة باسم الآثار والفقراء ما عندهم بيوت يسكنون فيها. جاري كان يحفر أثاثات للبيت طلع معه جرة فيها عملة قديمة ذهبية، جاءت الآثار وصادرتها وحجزت الأرض للتنقيب، وبقي جاري بلا بيت.

(يضع تحت المجهر قطعة نقود قديمة ويتظاهر بفحصها)

هه.. نقودٌ ميتة ومهمةُ هذه الدائرة إعادة الحياة إليها.. هه.. هذا بَطرُ العِلم وتَرَف المعرفة.. الناس مفلسة ما في في جيبها ولا قرش، والغلا مستفحل، ونحن هنا ( يرفع بإصبعيه قطعة النقد) نعيد الحياة إلى الموتى، ونعمل من الحبة قبة (يسند ظهره إلى الكرسي الدوار بشعور العظمة الزائف ويدور بنفسه دورة كاملة) محسوبكم حمدوش، اليوم آذن وبكرة رئيس دائرة.. والدنيا عجايب.

    (يدخل حميد رئيس الدائرة وينظر إلى الآذن)
حميد : حمدوش ماذا تفعل هنا؟
حمدوش : (ينهض ويبتعد بسرعة) كنت أنظف لك الطاولة.. معلِّم.
حميد : (يجلس إلى الطاولة) كم مرة قلت لك: لا تنادني معلِّم ، نادني باسمي أو أستاذ حميد.
حمدوش : سيدي عندما كنت في العسكرية كنا ننادي الرقيب معلم، والرقيب ينادي الملازم معلم، والملازم ينادي النقيب معلم، وهكذا لفوق.. كلمة وانحفرت في دماغي، لا تؤاخذني.
حميد : وماذا تعني هذه الكلمة؟
حمدوش : تعني الخضوع التام لمن هو أعلى منك، وهي أيضاً من الأدبيات والثقافة الحزبية.
حميد : يعني الاستلاب، أنا لا أريد إنساناً مستلباً، كن أنت، لك شخصيتك وإرادتك وآراؤك.
حمدوش : ولكنني مجرد مستخدم.
حميد : بل أنت إنسان. إذا لم تكن أنت فأنت ميت.
حمدوش : ولكني حي، أتنفس وآكل وأعيش.
حميد : الموت أنواع يا حمدوش.
حمدوش : طيب.. أمرك معلم..عفواً أستاذ، على الرغم من أنني لم أفهم ما تقول.
حميد : (يبتسم) لا فائدة “خضّ الميّْ وهيه ميّ”*
حمدوش : آسف.. فنجان قهوة كالعادة يروِّق خاطرك.
حميد : هل وصلت الآنسة روابي؟
حمدوش : وصلت وهي في مكتبها.
حميد : إذن اجعلهما فنجانين ونادها.
حمدوش : حاضر م..م.. أستاذ (يخرج)
    (حميد يتناول من درج مكتبه ألبوم صور ويبدأ بتقليبه)
حميد : سرجيلا.. محطتنا القادمة.
    (تدخل الآنسة روابي وهي تلبس الأسود ثياب الحزن)
روابي : صباح الخير أستاذ.
حميد : صباح الخير آنسة روابي، اجلسي ستأتي القهوة بعد قليل.
روابي : هكذا.. ! كل صباح؟
حميد : إلى أن تخلعي ثياب الحزن هذه.
روابي : إنها أمي يا حميد.
حميد : أعرف، رحمها الله، ولكن لا يجوز الحزن أكثر من ثلاثة أيام وإلا تسلل الموت إلى النفس.
روابي : أفكر في الموت، وماذا بعد الموت؟
حميد : بعد الموت حياة.
روابي : هل هذه فلسفة؟
حميد : بل حقيقة.
    (يدخل حمدوش ومعه القهوة والركوة،يصب القهوة في فنجانيهما ويترك الركوة الممتلئة تقريباً في الصينية)
حمدوش : يسلم الدين والإيمان آنسة روابي.
روابي : الله يسلمك .. كم مرة ستقول لي ذلك.
حمدوش : حتى تفكي الحزن.. الأسود لا يليق بك. (يسير نحو الخروج)
حميد : لحظة ، ما رأيك بالموت يا سيد حمدوش.
حمدوش : زر كهربا..طق..وتنطفئ الكهربا (يخرج)
حميد : أرأيت؟ هذا الإنسان البسيط يلخص كل الفلسفات في الموت في كلمتين.. نعم.. زر كهربا ..طق.. وتنطفئ الكهربا..فتغيب أجساد في التراب، تغوص قارات في البحر، تنهار إمبراطوريات، مدن عامرة بالحياة تصبح مدناً ميتة.
روابي : مدن ميتة..! لقد جمح بك الخيال.
حميد : ليس خيالاً، حضري نفسك لمرافقتي في مهمة علمية وسترين.
روابي : إلى أين؟
حميد : سنزور المدن الميتة، هل قرأت عنها؟
روابي : طبعاً قرأت.
    (ينهض ويقف أمام خارطة المدن الميتة وفي يده مؤشر الخارطة)
حميد : حوالي ثماني مئة مدينة وقرية أثرية ميتة منتشرة في كتلة الجبال الكلسية الممتدة ما بين حلب وأفاميا ووادي العاصي وأنطاكية. بُني فيها في فترة ازدهار المسيحية بين القرنين الرابع والسادس للميلاد أكثر من ألفي كنيسة كانت درّتها بازيليك القديس سمعان العمودي التي تم بناؤها بين 476-491 م كمجمع ديني كامل، وكانت مكاناً للحج في الماضي وللسياحة في الحاضر. وهناك الحمامات العامة وأشهرها حمامات سرجيلا. وتعد المنطقة هي الموطن الأول لشجرة الزيتون، وبيوت هذه المنطقة السورية التي تعود إلى العهدين الروماني والبيزنطي ما تزال قائمة إلى الآن وتصلح للسكن لو أعيدت لها سقوفها التي سقطت بفعل الزمن والزلازل. وهي تتسم بالبساطة و تتألف من طابقين أو أكثر و جدار خارجي و بوابة كبيرة، غرف الطابق الأرضي استخدمت كمستودعات للتخزين وكزرائب، و الطابق الأول للسكن، وتتقدم هذه الغرف أروقة محمولة على أعمدة مزينة بتيجان متنوعة كما ترين في الصورة. (روابي تضحك) لماذا تضحكين؟
روابي : أنت تبدو كأستاذ جامعة يلقى محاضرة أمام طلابه.. أنا زميلتك في البحث يا أستاذ.
جميد : أوه.. عفواً، يبدو أنني أزعجتك.
روابي : كلا.. أبدا.. تابع، ولماذا هُجِرت هذه المدن والقرى ثم ماتت (تبتسم) طبعاً رحمها الله؟
حميد : موت هذه المدن المنسية يعود إلى تفاقم أزمة داخلية تتمثل في محدودية الأراضي الزراعية وازدياد السكان بحيث لم تعد الأراضي كافية لتأمين معيشتهم وقد أثرت الزلازل والأوبئة في القرن السادس نسبياً أيضاً مما أدى إلى هجرة تلك المناطق، وانقطاع طرق التجارة أمام تصدير زيت الزيتون والكرمة إلى أوروبا بسبب الحروب بين الدولة العربية وبين القسطنطينية، كما كان للحروب بين الحمدانيين والبيزنطيين في المنطقة أثر على تدمير بعض القرى، واحتلال الفرنجة الصليبيين زاد من تدهور الحالة فنزح سكانها إلى السهول الداخلية.
روابي : تعال أستاذ.. ستبرد قهوتك.
    (يعود حميد ويأخذ رشفة واحدة من القهوة، روابي وقد أنهت احتساء قهوتها وقلبت الفنجان ثم راحت تنظر فيه لتقرأه)
حميد : إذن سترافقينني في المهمة، سنذهب إلى سرجيلاّ، ثمة تجربة أريد أن تشاركيني فيها إن صحَّت.

(روابي مستغرقة في التطلع في الفنجان وقراءة رسوماته المتشكلة من بقايا البن ويكتسب وجهها تعبيرات متعددة)

ماذا !؟ هل تقرئين الفنجان

روابي : أقرؤه لنفسي فقط، ولا أقرأُ فنجان أحد، تعلمت هذا من عمّتي رحمها الله.
حميد : (باستخفاف) طيب.. وفنجاني يا بصّارة.
روابي : أنت تسخر، أنا لم أسخر منك عندما ألقيت عليَّ محاضرة أحفظها جيداً منذ أن كنت في الجامعة.
حميد : أنا آسف، لم أكن أقصد، ولكن فتاة بمنزلتك العلمية وتقرأ الفنجان! أنا مستغرب فقط، ومهتم بمعرفة رأيك أيضاً.
روابي : يا حميد، الكون مجمل علاقات ورموز وجَفْرات، وهي تدعونا دائماً لقراءتها، أنا أومن بوجود علاقة بين صاحب الفنجان والأشكال الراسبة في فنجانه، مثلما أومن بالعلاقة بينه وبين أحلامه تماماً.
حميد : حسن، أسألك جاداً ماذا وجدت في فنجانك؟
روابي : أشكال غريبة، ليسوا بالوحوش ولا بالبشر، أبنية منهارة، انظر، هنا هُوتَة عميقة كفوهة بركان، هنا فيضانات من البشر تلاحقهم أميبات غير مرئية تريد أن تفترسهم كأنها طوالع حرب جرثومية،  وهنا وهناك ..انظر.. أرواح تطوف حولنا تحذرنا وتريد أن تحادثنا ولكنها تتكلم بلا صوت فلا نسمعها.
حميد : أوه.. هذا ما أريد تجربته والتأكد منه.
روابي : أية تجربة؟
حميد : ستعرفين في حينها. لديك حاسة خارقة في القراءة بلا كلمات.
    (يدخل حمدوش ليأخذ صينية القهوة فيجد أن حميداً لم ينه شرب القهوة)
حمدوش : أوه.. معلمي لم يشرب القهوة بعد، ومعلمتي تقرأ الفنجان، سأصب لكِ فنجاناً آخر، (يصب القهوة في فنجانها)، لا زالت ساخنة، لا يليق بالمعلم أن يشرب القهوة وحدَه.
روابي : شكراً يا حمدوش. “عقبال ما نشرب قهوتك”*
حمدوش : صحة معلمتي. الحكاية مطوِّلة.
حميد : أ لن تكف عن هذه الكلمة، معلمي ومعلمتي؟ حمدوش هل تعرف سرجيلاّ.
حمدوش : أنا الذي أعرفها، أنا من عين جارة وأعرف كل المنطقة هناك.
حميد : سنذهب إلى هناك أنا والآنسة روابي، هل تذهب معنا؟
حمدوش : لا.. اعفني أستاذ.
حميد : ولماذا؟ سنذهب بسيارة الحكومة.
حمدوش : سيدي ألا يكفيني أنني أعيش وأنام بين هذه الصور؟ هذه منطقة مهجورة ميتة يسكنها الجن.
حميد : وهل تؤمن بالجن؟
حمدوش : كيف لا ؟ وكنت أسمع صياحهم هناك في الليل، وبخاصة في الهوتة تلك الحفرة الهائلة في الأرض وكأنها فوهة بركان.
حميد : الهوتة !
حمدوش : نعم هكذا يسمونها، يقال إن شهاباً لاحَق شيطاناً يسترق السمع من السماء حتى وصل الأرض وضربها فأخذت شكل القمع وفيها كهوف متعددة تسكنها الشياطين.
روابي : تقصد نيزكاً ضرب الأرض وشكل هذه الحفرة المعروفة.
حمدوش : لا أعرف ما هو النيزك آنسة روابي.
حميد : دعيه يتحدث على راحته. تعجبني هذه الحكايات. هيا يا حمدوش تكلم، أنت كنز حقيقي.
حمدوش : عندي أستاذ حكاية مروية عن جد والدي رؤيا العين. رواها إبي عن جدي عن أبيه.
حميد : ما هي هذه الحكاية.
حمدوش : (مفتخراً وقد شعر بأنه إنسان هام) يقول جدي الأكبر وكان معمِّرا لا يشذُّ عن ذهنه شيء من الحوادث التي مرت عليه: بينما كنت جالساً في مصيف داري القديمة أسمَرُ مع جماعة من أصدقائي والنسيم العليل ينعش نفوسنا وفجأة انقطع عنا، واشتد الحر حتى شعرنا بضيق شديد في صدورنا، وما مر علينا غير عشرين دقيقة إلا وسطع في السماء ضوء أضاءت به الدنيا، ورفعنا أبصارنا  فرأينا هذا النور الساطع صادراً من كوة مفتوحة في كبد السماء، كأنها نافذة من نوافذ جهنم، وما كدنا نَرجع بأبصارنا إلى الأرض حتى هزَّ أسماعنا دويّ كهزيم الرعد، وإذا بالأرض تميد بنا يمنة ويسرة، والنجوم أخذت تتناثر وتتطاير في أفق السماء كشرر يتطاير من أتون ثم انتفضت الأرض أربع مرات متوالية أزاحتنا عن مقاعدنا، فنهضنا على أقدامنا، وما منا أحد إلا وقد أحس بدنو أجله، كأن السماء وقعت عليه أو الأرض كادت تنخسف تحت قدميه، فصرنا نكرر الشهادتين ونضرع إلى الله بقولنا يا لطيف يا لطيف، والجدران تتداعى، و السقوف تخر، والحجارة تتدحرج على الأرض فيسمع لها جلبة ودوي تقشعر منهما النفوس، كل هذا جرى في برهة من الزمن لا تزيد على نصف دقيقة.
روابي : ما هذا يا حمدوش.. زوّدتها!
حميد : دعيه يا عزيزتي، لعله يتحدث عن الزلزلة الكبرى التي ضربت المنطقة في آب 1822م
حمدوش : (يحمل صينية القهوة) سيدي لا تفسد الحكاية بالتفنيد. (يخرج)
روابي : (تنهض للمغادرة) يعجبني هذا الحمدوش، إنسان على الفطرة يسرد حكاياته ولا يحب أن يتدخل في التفسير لئلا تفقد بريقها.
حميد : تماما مثل القمر بالنسبة للعاشق لا يريد أن يعرف أنه مجرد جبال ووديان كثيفة ومظلمة.
    (تخرج روابي، ويتناول حميد من درج المكتب محفظة يخرج منها نظارتين غريبتين مجهزتين بسماعة خفية للأذن، يضع أحداهما على عينيه)

(إظلام)

     
    – 2 –
     
    (على الشاشة منظر عام لسرجيلاّ، بقايا دور وبيوت سكنية عديدة، مختلفة الأشكال والمساحات، تم تعديلها على فترات متقطعة، معظمها كانت مؤلفة من طابقين ومزودة بأروقة محمولة على أعمدة، وكان الطابق الأرضي منها يستخدم للمعيشة وتخزين الأدوات والمواد، والطابق العلوي للسكن، كنائس، حمامات، قاعات عامة، معاصر زيت، خزانات، نواويس حجرية ومدافن وقبور.
حميد : هذه سرجيلا، نموذج كامل للمدن الميتة.
روابي : وما معنى سرجيلا؟
حميد : تسميتها سريانية الأصل، سراج إيل، وتعني: سراج الإله أو نور الله. بدأ الاستيطان في هذه المنطق منذ القرن الأول الميلادي، و بلغت قمة تطورها وازدهارها مع انتشار الديانة المسيحية بين القرنين الرابع والسادس الميلاديين، فشهدت حركة عمرانية كبيرة عمت جميع المناطق والقرى.
روابي :  ما أروع حماماتها المقسّمة إلى جزأين يتضمنان أقسام الحمام، ويربط بينها ممرات، وبجوارها خزان الماء الضخم، المحفور في الصخر.
حميد : انظري هذه القاعة إنها قاعة الاجتماعات، مربعة الشكل، وتتألف من طابقين، والأروقة محمولة على أعمدة حجرية.
روابي :  وهناك الكنيسة ثلاثية الأجزاء. يبدو أن أهلها متدينون.
حميد : دخل الإسلام بنيت الكنيسة والمسجد متلاصقين وبينهما جدار مشترك.
روابي : هؤلاء القرويون يبدو أنهم كانوا متعايشين على اختلاف مذاهبهم ودياناتهم أكثر ما نحن عليه الآن ، حيث يسود التكفير، وتنتشر الحرب الطائفية.
حميد : أجل، يبدو ذلك.
روابي : للأسف ماتت هذه المدن وهجرها أهلها وماتت تلك القيم بموتها.
حميد : وما أدراك أنها ميتة؟ لعلها تحيا الآن بشروط أخرى.
روابي : ماذا؟ هل تتفلسف أم تخرِّف.
حميد : لا هذا ولا ذاك.. وهل تظنين أننا وحدنا الأحياء على وجه الأرض؟
روابي : لم أفهم.
حميد : هل تعتقدين بالموت؟
روابي : حميد.. ما الذي جرى لعقلك، أيمكن أن تنكر الموت؟
حميد : إذا كنتِ في البيت تقرئين في كتاب، ثم ناداك جدك الذي يسكن في كوخ في الحديقة لتبقي معه، فوضعت الكتاب وذهبت إلى الحديقة، فهل يعني ذلك أنك متِّ أم انتقلتِ؟
روابي : طبعاً انتقلت، ولكن ما علاقة ذلك بما نحن فيه؟
حميد : سترين.
    (يتناول من المحفظة النظارتين )
روابي : ماهذا؟
حميد : نظارتان مجهزتان بسماعة داخلية لالتقاط الأصوات، واحدة لك، والأخرى لي (يناولها النظارة) ضعيها على عينيك.
    (يضعان النظارتين في صمت)

(إظلام)

     
    – 3 –
     
    (حميد وروابي يمين خط المنظر خارج المشهد الداخلي الذي يجري على الخشبة.يتغير المنظر داخل الخشبة بعد وضع النظارات  على العيون. ثمة ستارة شفافة أو بتقنية عالية وإضاءة خاصة تبدو الخشبة وكأن جداراً زجاجياً غير مرئي يفصل بين عالمين، المسرح مغمور بأنوار كونية فلا هي إضاءة شمس ولا قمر، نجوم تتلامع وتنبض بألوان متعددة، وكواكب تعبر الفضاء وترسل موسيقى مرحة، والمنظر سحري*.

البيوت والعمائر نفسها ولكنها مسقوفة وبحالة سليمة، أناس حقيقيون يعبرون بين البيوت وقد فقدوا ثقالة أجسامهم فكأنهم يسيرون في الهواء.

يتركز المنظر على بيت بطابقين وفسحة أمامه حيث تجلس امرأة قروية تجرش القمح برحى حجرية يدوية دائرية مؤلفة من حجرَيْ رحى متطابقين.

تدخل ابنتها وهي فتاة شابة جميلة).

أعمار الأسرة جميعها متقاربة رغم تباينها في المظهر والملابس كأن الزمن لم يمر عليها.

الفتاة : ماما.. عاد أبي من زيارة القديس سمعان**.
الأم : أوه.. كنت أود أن أذهب معه ولكن كان علي أن أجرش القمح، يجب أن نأكل.
الفتاة : عملك طاعة أيضاً، في المرة القادمة سأذهب معكما، أمس جاءني القديس سمعان في المنام، وضع يده على رأسي وباركني.
الأم : عندما حملتُ بك زارني القديس سمعان العمودي وقال: أنت مباركة، ستلدين طفلة، سمِّها مريم.
    (يعتم المشهد)
    *   *   *
    (انتقال إلى خط المنظر الخارجي، وحميد وروابي يرفعان النظارتين عن عينيهما)
روابي : ما هذا يا حميد، هل نحن نحلم أم أنه شريط سينمائي؟
حميد : لا هذا ولا ذاك، وهل تعتقدين أننا نعيش وحدنا؟
روابي : لكنه عالم مختلف تماماً.
حميد : مختلف لكنه عالم حقيقي، هؤلاء سكان هذه المنطقة، سكنوها قبل مئات السنين وما زالوا فيها.
    *   *   *
    (إنارة الخشبة وعودة للمشهد السابق، يدخل الأب، وعلى الشاشة ظل للقديس سمعان فوق العمود وأمامه جموع من الناس من رجال ونساء وأطفال)
الأب : ألم تنته من جرش الحبوب يا خدي؟*
الأم : بقي القليل، هل كانت زيارتك موفقة.
الأب : جداً.. جموع حاشدة من جميع القرى والمدن أمام العمود والقديس سمعان في أعلى العمود يصلي ويدعو لنا وأعين الناس تذرف من خشية الله، ثم التفت إليَّ وخاطبني قائلاً: امرأتك في البيت تجرش الحب يا بولي** هذه أيضاً صلاة، ثم التفت إلى الجمهور وقال: تعلّموا من أم مريم كيف تكون العبادة، تظنون أن الناسك في صومعته وحده يعبد الله، هذا خطأ، دعونا لما نحن فيه وباشروا حياتكم على أن يكون الله في  قلوبكم.
الأم : آه..هذا من معجزاته، كم أنا سعيدة بأنه ذكرني في خطبته.
الأب : كان جسمه مليئا بالتقرحات الدامية نتيجة الوقوف الطويل، سنوات عديدة، فوق العمود لم ينزل منه أبداً.
الفتاة : بابا علمتني أن أستغفر بعد كل ذنب أقع فيه ، ولكن لماذا يعذب سمعان نفسه هكذا ويستغفر وهو إنسان قديس بلا خطايا.
الأب : سأله أحدهم ذلك فأجاب: عندما يكون الإنسان بلا أيةِ خطيئة معينة إضافية، تصير الخطيئة الأصلية التي فقد فيها جنةَ الله موجعةً أكثر، تكون وجهاً لوجه معه، تعصفُ بجسدِهِ وروحه.
الفتاة : وهل يأكل ويشرب؟
الأب : طبعاً ولكن كان أخوته في رهبانية الأعمدة يتناولون الطعام مرةً كل يومين، أما هو فيتناوله مرةً في الأسبوع، من أحد إلى أحد، ويصوم تماماً باقي الأيام ويقدم طعامه القليل للبائسين.
    *   *   *
    (حميد وروابي يرفعان النظارتين عن عينيهما وانتقال إلى خط المنظر الخارجي وإطفاء على مشهد الخشبة)
روابي : مذهل! أي جهاز هذا؟
حميد : إنه واحد من منجزات النار التي سرقها بروميثوس من الآلهة وأهداها للبشر.
روابي : هل كانت حياتهم هكذا حقاً؟
حميد : وما تزال، أنت لا تريدين أن تصدقي بأنهم ما زالوا أحياء.
روابي : أحياء بهذه النظارات فقط.
جميد : بل أحياء حقاً، لا شيء يفنى وإنما يتحول من حالة إلى حالة.
روابي : أية حالة هذه؟ أجسامهم إن جاز لنا أن نقول ذلك خفيفة، كأنهم يسيرون في الهواء، وما عدا ذلك فكل شيء عادي كأنهم أحياء.
حميد : بل ما زالوا كذلك، أنت لا تصدقين هذا، وتصدقين أن رواد الفضاء يفقدون ثقالة أجسامهم ويسيرون في الفضاء حين يصبحون خارج جاذبية الأرض. هؤلاء يا روابي في أرض أخرى مشابهة لأرضنا لكنها فقدت جاذبيتها، أرض مشابهة مستبدلة، وسماء مشابهة ومستبدلة، لا جاذبية ترهق الأشياء والأجسام، ولا شمس فيهما ولا قمر سوى هذا النور الكوني الذي يغمر الكائنات.
روابي : أصبح الأمر ممتعاً. ألا يمكن أن تواصل معهم ونحدثهم؟
حميد : سنجرب ذلك.
    (يضعان النظارتين على عينيهما)
    *   *   *
    (المنظر داخل خشبة المسرح نفسه، وعلى بعد في العمق ظلان ممتدان على الأرض كأنهما ظل إنسان غير مرئي. ينعكس الظلان على شاشة العرض فيكونان ظلين واضحين وهما يقفان بجانب بعضهما وعلى عيونهما النظارات، وكلما أرادا التحدث معاً مع إطفاء أنوار الخشبة يرفعان النظارات..

العائلة تلتف حول لعبة المنقلة يلعبان والرجل يأكل حجارة زوجته)

الأب : (يأكل حجرة لزوجته) هذه واحدة (يأكل أخرى) وهذه وحدة أخرى. وهذه ثالثة .. أنت تخسرين يا عزيزتي خدي.
لأم : أخسر لأنني لا أستطيع التركيز، تعبة من جرش الحب، وأنت عدت مزوداً بركات القديس سمعان.

(يأكل لها حجرة رابعة)

صوت روابي : كفى، أنت تأكل حجارتها .. حرام عليك.
الأب : (لابنته) ماذا قلت يا مريم.
الفتاة : أنا لم أتكلم.
الأب : من أين جاء الصوت إذن؟ (لزوجته) هل سمعت؟
الأم : سمعت، ولكني لم أتكلم.
صوت روابي : أنا هنا، أنا التي تتكلم.
الفتاة : (تشير إلى الظلين) بابا، أنظر هناك.
الأب : (يرى الظلين) آه.. أنتِ الظل التي تكلمَت إذن، وهذا الذي بجانبك من يكون؟
صوت روابي : صديقي، هل يزعجك أننا نزوركم؟
الأب : تزوراننا هكذا! أنتما غريبان، وهنا لا ترسم الظلال، فمن أن جئتما أيتها الظلال؟
صوت روابي : نحن لسنا ظلالاً، نحن الحقيقة.
    (حميد يرفع النظارات نحو جبينه ويتحدث مع روابي، وإطفاء على مشهد الخشبة)
حميد : يا عزيزتي لا تناقشيه، لا فائدة، كلانا من عالم مختلف، دعيني أتحدث معه ستسمعينني وتستطيعين المداخلة.
روابي : طيب.. تحدث.
حميد : (يعيد النظارات على عينيه وإنارة مشهد الخشبة) اسمع يا بولي.
الأب :  وتعرف اسمي؟
صوت حميد : أعرفه، سمعتك وأنت تتحدث عن القديس سمعان العمودي وسمعت ما قاله لك. اسمعني فأنا مثلكم وربما من أحفادكم.
الأب : ولكن كيف..(تقاطعه ابنته)
الفتاة : دعه يتحدث يا أبي، هذه لعبة جديدة تعجبني.
الأب : حسن، ماذا تريد ولماذا جئتم بهيئة الظلال إن كنتم حقاً أناساً مثلنا؟
صوت حميد : هذا أمر آخر.
صوت روابي : هل تعلمون أنكم أموات.
الأم : أموات يا ظُليلة! لم أفهم ما تقولين.
حميد : (حميد يرفع النظارات نحو جبينه وإطفاء مشهد الخشبة) قلت لك تمهلي بالحديث.
صوت حميد : (يعيد النظارة، ويخاطب الأم وإنارة الخشبة) آسف لما قالته زميلتي. مجرد سوء تفاهم، وتحيتي لك يا أم مريم.. وحتى اسمك “خدي” يعجبني.
الأم : لا بأس يبدو أنك ظل لطيف. (لزوجها) كلِّمه يا بولي ورحب به.
الأب : أهلا بك أيها الظل، هل لك اسم؟
صوت حميد : حميد.. وزميلتي هذه روابي.
الأب : أهلا بها أيضاً. هل لديك شيء لتقوله؟
صوت حميد : أقول: ما دمنا ظلالاً بالنسبة لكم، ألا تذكر أنكم ذات حياة كنتم ظلالاً مثلنا؟
الأب : لا أعرف ماذا تقصد بكلمة “تذكر”، ولكن يمر بي أحياناً شيء كالحلم أراني فيه ومَن حولي ظلالاً، ثم يغيب كل شيء ويختفي ثم أنتقل إلى ما أنا عليه الآن.
صوت حميد : إذن كنتم على غير ما أنتم عليه الآن ثم انتقلتم..حسن.. هذا هو الموت.
الأب : وما معنى كلمة الموت، وما هو؟ أنا قلت: انتقلت فجأة، كخطوة واحدة أخطوها ويتغير كل شيء، خطوة تخطوها ذرة غبار تلمع في شعاع ثم تتلاشى (يصمت ويتذكر) كان حلما خاطفاً ثم انتبهت.
صوت حميد : تلك هي أم الحقائق: الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا.
الأب : لماذا تصر على كلمة الموت التي لا نعرف معناها في حياتنا هذه؟
صوت حميد : لا..لا.. أنا لا أصر.. ولكن هناك مشكلة الزمن.
الأب : وماذا تعني بالزمن؟
صوت حميد : وحتى هذه لا وجود لها عندكم! آه.. معك حق، لس لديكم شمس ولا قمر، ولا ليل ولا نهار حتى تضبطواالمواقيت.
الأب : لا أعرف، حاول أن تبسط كلماتك أكثر.. هل أنت فيلسوف وكلامك يستغلق عليّ. ماذا تعني بكلمة الزمن ببساطة؟
صوت حميد : عندما تذهب لزيارة القديس سمعان كم تستغرق رحلتك حتى تصل..يوماً يومين.. ساعات.. هذا هو الزمن.
الأب : عندما أسافر إليه أسير بين الجبال والوديان حتى أصل، ولا شيء غير هذا، ولا أسأل نفسي غير هذا..أنتقل كما تنتقل ذرة الغبار على جناح زوبعة.
صوت حميد : إذن لا وجود للزمن عنكم.
الأب : لا وجود لهذه الكلمة أصلاً. هل يمكن أن تَعْبُر إلي لأراك، ولكن ليس ظلاًّ، سنتحدث ونتفاهم بشكل أفضل.
صوت حميد : ليس بعد، ولكن أعدك حين يحين موعد عبوري سأزوركم.
الأب : ما معنى “يحين”؟
صوت حميد : لا شيء ، دعك من هذا ما دامت ليس لديك فكرة عن الزمن.
صوت روابي : يا بولي، بيننا وبينكم جدار زجاجي، والعبور إليكم يعني الموت، وأنا وحميد خطيبان، لا أريد أن يموت وينتقل إليكم ويتركني.. أوه آسفة أنت لا تعرف معنى كلمة يموت.
الفتاة : ليتك تعبرين إلينا يا آنسة، أنت جميلة، ولكنك ظِلّ، وهذه النظارات تخفي عينيك، هذه النظارات تزيدك جمالاً (لأبيها) بابا اشتر لي واحدة كهذه أضعها على عيني.
صوت روابي : هذه النظارات يا فتاتي أضعها لأستطيع أن أراك، تماماً مثل الرحى التي تديرها أمك لتطحن الحب. أما عيناي فعسليتان.
الفتاة : وأنا عيوني عسلية أيضاً.
صوت روابي : عيناك جميلتان، هل ستبقين هكذا شابة أم تكبرين؟
الفتاة : أنا هكذا دائماً.. ما معنى تكبرين؟
صوت روابي : لا.. لا شيء، كلمة انزلقت على لساني، وأبوك وأمك كذلك أيضاً.
الفتاة : أبي وأمي هكذا دائماً.
روابي : (ترفع النظارات وتكلم حميداً الذي يرفع نظاراته أيضا،وتطفأً الخشبة) أهذا هو الخلود؟ أي خلود هذا؟ حياة بلا زمان، بلا مكان، بلا ذكريات، كل شيء على ما هو عليه..! حياة مملة.
حميد : هذا ما قبل الخلود.
روابي : وهل هذا يعني أن الخلود أقسى وأكثر مللاً.
حميد : يا حبيبتي، لماذا أنت متشائمة هكذا؟ أنت لا تعيشين حياتهم حتى تحكمي على ما يشعرون به، انظري كم هم سعداء، وتذكري أن بيننا جدار زجاجي ولا بد أن نعبره يوماً ما.
روابي : أنا أكره الموت.
حميد : ومن يحب الموت؟ حتى الشهداء يودون لو عادوا إلى الحياة، ثم زاد عليها دعاة السلطنة: يعودون ليضحوا بأنفسهم مرة أخرى.
روابي :  والمجرمون؟
حميد : المجرمون يطلبون أن يعودوا للحياة ويدعون أنهم ليعملوا صالحاً.. ولكنهم كاذبون.
روابي : بصراحة الحياة لذيذة، وبخاصة إذا كان الإنسان محباً أو محبوباً.
حميد : الحياة مرغوبة بذاتها، وقد وفّر الله لها جميع المغريات لتكون مرغوبة: الجنس والمال والسلطان، وحتى الشقاء فيها والسعادة، ورغد العيش والفقر من مكوناتها.
روابي : طيب ، والصوفية الذين يسعون إلى الموت لخلاص الروح من أسر الجسد.
حميد : دعك من هذا. كلام على الورق، مثل البيانات الإنتخابية.

يا عزيزتي يحكى أن آدم وهو أبو البشر وكان نبياً، وذاق طعم الجنة تبرع لداود بثلاثين سنة من عمره، ولما حاءه  ملاك الموت على الوعد قال: مازال عندي ثلاثون سنة، فذكره الملاك بمنحته لداود فتنصَّل منها وقال: أنا لم أعط أحداً شيئاً من عمري.

روابي : هذا يعني أن آدم الذي رفض الخلود في الجنة وآثر الهبوط إلى الأرض كان يشعر بالملل واللاجدوى من الاستمرار فأكل من الشجرة المحرمة ليصنع الخلود على طريقته، طريقة التوالد الجنسي.
حميد : هذه مجرد وجهة نظر قد تؤيدها النقوش على شواهد القبور كالسنبلة وعروق النبات، أو شجرة الحياة التي نجدها مرسومة في اللوحات الأثرية، وتعني كلها بأن الحياة تولد من الموت.
روابي : ما يحيرني أيضاً علاقة الحب بالموت، والعودة إلى الحياة لاستكمال مشوار الحب المتعثر. قرأت أن بعض الناس في شعوب عدة كاليابان ممثلاً إذا تعثر تحقق الزواج بين عاشقين لظروف ما فإنهما يخرجان لينتحرا معاً وهما في قمة السعادة والأمل في استنساخ ثان يتابعان فيه مشروع الحب.
حميد : حسن، هذا يؤكد بشكل ما ما رأيناه اليوم بوساطة هذه التكنولوجيا، النظارات السحرية.
روابي : لا زلت أشكك فيما رأيت، لعله من الخداع التكنولوجي.
حميد : ضعي النظارات، يبدو أن حدثاً جديداً ربما يفسر لك بعض الأمور.
    (يضعان النظارات على أعينهما، وتضاء خشبة المسرح)
    (الأم تمخض الحليب لتصنع الزبدة وهي تغني بصوت رتيب خفيض، والأب يعزف على آلة وترية قديمة كالطنبور)
الأم : هولا..هولا

من زبد البحر

تشكَلَتْ

سمكةٌ ملونة

طَلَعت من اللجة

في فمها

خاتميَ الذهبي

الذي رميته في البحر

حين أقسمت بألاّ أحب

هولا .. هولا

عاد الخاتم إلى إصبعي

وعاد الحب

هولا..هولا

 

    (تدخل الفتاة مسرعة)
الفتاة : ماما.. أخي وصل.
الأم : كنت أعلم أنه سيصل، قلبي لا يكذِّبني.
الفتاة : لكنه متعب ومريض.
الأم : سيقيم معنا وسيصير أفضل؛ الجو هنا صحي منعش والهواء عليل.
    (يدخل الأخ متعباً)
الأب : (يتوقف عن العزف) غوث، أراك وصلت.
الأخ : نعم أبي ، وصلت.
الأم : أنت مرهق يا ولدي، انتهيت من صنع الزبدة سأسكب لك قليلاً منها مع العسل، سيقوى بدنك وتعود صحتك.
الأخ : شكراً يا أمي. (يحاول أن يتذكر) بعد أن أصيب حصاني بسهم سقطت وسقط الحصان فوقي ولم أعد أتذكر ما حدث.
الأم :  هل تتألم يا بني؟
الأخ : أحس أن رأسي مسحوق، وعظامي مهشمة.
الأب : دعيه يا خدي كي يرتاح، ما زالت ذاكرته طازجة وسينسى كل شيء.
الفتاة : أخي أين زوجتك، كنت أريد أن أراها، أهي جميلة؟
الأخ : جميلة جدا، وقد تركتها وهي تلد، أنا حزين لم أستطع إحضار الطبيب لها.
الأب : لا بأس ستكون بخير، تعال واجلس بجانبي، أعزف لك لحناً كي ترتاح نفسك ويزول عنك الحزن.
    (يجلس الأخ بجانب أبيه، الأب يعزف. تطفأ أنوار الخشبة)
    ((حميد وروابي يرفعان النظارات عن أعينهما)
روابي : هاهو يتذكر.
حميد : هذه ذرة من غبرة مقامه الأول، ثم ينعدم الزمن لديه ويزول كل شيء.
روابي : مازلت لا أصدق ما رأيت. في هذه النظارات فيروس يأتي على كل شيء ويشوه الحقيقة.
حميد : ولماذا لا تقولين: يكشف الحقائق ويظهرها.
روابي : هل كان حلماً؟
حميد : أليست الأحلام أيضا بعالم آخر لا نعرف قوانينه؟
روابي : أنا ضائعة حقاً.
حميد : حسن، فلنعد إلى المكتب.
روابي : أجل. يجب أن نستيقظ.
     
    – 4 –
     
    (في المكتب حميد وروابي يتابعان شرب القهوة صامتين، يسمع صوت حمدوش وهو يغني)
حمدوش : نويت أسيبك، خلاص نويت

يا ريت ماكان اللي كان ياريت

نويت أسيبك، خلاص نويت

روابي: : حمدوش يغني.
حميد : أمره عجيب، لم يكن يفعل ذلك من قل.
روابي : القهوة بردت، كانت ساخنة.
حميد : بردت تماماً، هل أناديه كي يسخنها؟
روابي : لا.. أحبها باردة.
    (يدخل حمدوش)
حمدوش : صح النوم أستاذ، صح النوم أستاذة.
حميد : لماذا تقول هكذا يا حمدوش.
حمدوش : دخلت لآخذ صينية القهوة وجدتكما نائميْن على الكراسي والقهوة على حالها.
روابي : عجيب.. نائمان!؟
حميد : كنا نفكر فقط في السفر إلى موقع المدن الميتة وبلدة سرجيلا.
حمدوش : أي سفر يا معلم؟ سمعت الأخبار منذ قليل، الحكومة فرضت منع التجول بسبب هذا الجني الأحمر فيروس كورونا الذي يضرب العالم.
حميد : (يأخذ رشفة من الفنجان) خذ الصينية، لم يعد لي مزاج.
حمدوش : هل أسخنها لكما؟
روابي : لا..خذها.
    (حمدوش يحمل الصينية وعند باب الخروج يلتفت نحو حميد)
حمدوش : أستاذ أنا سأترك العمل وأعود إلى الضيعة.
حميد : لماذا؟
حمدوش : أساعد أبي في الحقل.
حميد : يا حمدوش أنت هنا في المدينة، وتنام في الدائرة وتوفر أجرة السكن، وتأخذ حوافز إضافية على الراتب، أليس هذا أفضل لك؟
حمدوش : بالتأكيد، وأنا شاكر فضلك، ولكنني لا أستطيع العيش بين هذه الخرائب.
حميد : أية خرائب؟
حمدوش : (مشيراً إلى صور المدن الميتة) هذه المقبرة، مدنك الميتة.
حميد : هذه آثار يا حمدوش وليست مقبرة.
حمدوش : آثار بالنسبة لك، ومقبرة بالنسبة لي. في الليل تظهر ليَ الجن منها،  تخرج من هذه البيوت وتثرثر وتتنطط حولي.
حميد : (يضحك) جبان.
حمدوش : سيدي، “ألف كلمة جبان ولا كلمة ألله يرحمو”
حميد : طيب، كما تريد.
روابي : سنفتقدك يا حمندوش.
حمندوش : سأذكركما دائماً بالخير (يصمت.. وفجأة) سيدي متى ستتزوجان.
حميد : عندما نقرر سنعزمك على العرس بشرط ألا تغني نويت أسيبك.
حمندوش : حتى ولو أحضرت لكما خروفاً هدية العرس؟
روابي : (تبتسم) جيب الخروف وغنّ ما شئت.
حمندوش : (مودِّعا) سلامة معلم، سلامة معلمتي.. (يخرج)
    ( حميد وروابي يصمتان كأنهما يراجعان ما مرَّ بهما)
جمد : هل كنا نحلم؟
روابي : ربما.
حميد : حلماً مشتركاً.
روابي : بالتأكيد.
     
    –       ستارة النهاية –   

 

حلب- سورية

30 رجب 1441

24 آذار/مارس  2020

عنوان المؤلف

هاتف:  00963955680098

ar.kalaji@gmail.com

* مثل شعبي يعني مهما خضضت الماء لن تحصل على زبدة.

* عبارة محكية تعني نفرح بعرسك.

* تقنية نفذت بنجاح في إحدى العروض التي شاهدتها.

** سمعان العامودي (389459م): قديس وناسك سوري (سرياني)[1] ولد في قرية سيسان بين سورية وقيليقية في الربع الأخير من القرن الرابع[2]. عاش في منطقة حلب في سوريا وهو أول من ابتكر طريقة التنسك على عمود حجري ارتفاعه 18م، أقام فيه 37 عاماً، وهي طريقة انتشرت بعده في كافة مدن ومناطق الشمال السوري ومنها إلى أوروبا. بعد وفاة القديس سمعان بنى الإمبراطور الروماني في المكان نفس نفسه كنيسة فخمة حول العمود لا تزال قائمة اليوم

 

* تدليل خديجة.

** بولس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock