مقالات ودراسات

د. أحمد يوسف عزت يكتب: من رواد المسرح البورسعيدي؛ “عبد العاطي خليفة”


المسرح نيوز ـ القاهرة| د. أحمد يوسف عزت

ـ

 

نتحدث في مقالتنا هذه، عن أحد رموز الحركة المسرحية البورسعيدية العمالقة، ألا وهو: مُحَمَّد عَبد العَاطِي خَليفَة خَلاَّف، المولودُ ببورسعيدَ في الثالثِ عشرِ من شهرِ حُزيرانَ يونيو، عامَ أربعينَ وتسعمائةٍ وألفٍ ميلاديا. بشارعِ أُسيُوطَ بحيِّ المناخِ، إنه الأبيُّ الذي ينتهي نسبُ جُدُودِهِ إلى أعيانِ عائلةِ الخلايفةْ، بمُحافظةِ أُسيُوطْ. أبٌ لأربعةِ زهورٍ عبقةٍ: تيسيرْ، وأحمدْ، وابتهالْ، وأمنيةْ. كان يعشقُ بَنِيهِ وحفدتِهِ عشقًا يتيمًا، ومُشعًّا. ومثلُ كلِّ المتيمينَ بعشقِ رسالةٍ تؤرِّقُهُ فيؤَرِّجَهَا بِطِيبِ إيمانِهِ المؤلمِ؛

 

بدأَ (عبد العاطي) حَيَاتَهُ عُصَامِيًّا ومتدفقًا؛ كانَ عائلَ أسرتِهِ بعدَ رحيلِ أبيهِ الذي كانَ يحبُ ويوقرُ، رَحَلَ وهوَ بَعدُ في مرحلةِ الدراسةِ الثانويةِ؛ ما أسلَمَهُ إلى التشميرِ عن ساعدِ جِدٍ، ومزاولةِ العملِ لكسبِ العيشِ؛ موظفًا بسيطًا بشركةِ بورسعيدَ للغزلِ والنسيجِ، في منتصفِ ستينياتِ القرنِ الماضيَ. ظَلَّ يَكدحُ في الوقتِ الذي يُكمِلُ فيهِ فروضَ دِرَاسَتِهِ، تِرسٌ في آلةٍ صباحًا، وريشةٌ فوقَ وريقاتٍ العلمِ مساءً. تَتَجَافَى جُنُوبُهُ عنِ المضاجعِ خيفةَ أن يتهاوى الحائطُ الذي يَدعَمُهُ بِركنِهِ الرَّكِينِ. كانَ يَدرُسُ من خلالِ نظامِ التعليمِ المنزليِّ، ويومَ ظهورِ النتيجةِ خافَ فتانا النبيلُ أن يذهبَ لِيُطَالِعَهَا؛ فلن يستطيعَ وهو مُهرُ أسرتِهِ الذي يَسُدُّ هَولَ الجوعِ، ويقصفُ بأناملِهِ الفتيةِ براثنَ العَوَزِ والاحتياجِ، أو كما يقالُ في المثلِ العربيِّ المسكوكِ: “سِدَادٌ من عَوَزْ“، لن يَقدِرَ أن يتكلفَ عناءً ماديًّا إضافيًّا. دَفَعَهُ حبُّ الاستطلاعِ أن يسيرَ وَرِعًا، مُحَاذِيًّا بواباتِ مدرسةِ العُصفُورِيِّ الثانويةِ، ليجدَ كشفَ النتيجةِ قَد مُزِّقَ؛ فتسللتْ إلى روحِهِ نُذُرُ شؤمٍ لم يسمحْ لها أن تُطَارِحَهُ الغرامَ؛ فما كان لفتانَا الذي يذهبُ متخفيًّا مساءَ الأيامِ ذواتِ العددِ إلى معبدِ الموجِ المالحِ… أو البَحرِ. يشكو ويحكي ويتندرُ ويعابثُ ويعاتبُ ويمازحُ المساءَ في عينيِّ البَحرِ؛ عن طريقِ لُعبَةِ الحُوَارِ الداخليِّ (التي طَوَّرَهَا بعدَ ذلكَ وهو يَجهَرُ بِحُبِّهِ الكبيرِ على خشباتِ المسرحِ). أقولُ ما كانَ من فتانا الأبيِّ إلا أن هَتَكَ سِترَ التَّوترِ؛ شقَّ الهواءَ الثقيلَ الذي يرزحُ في المسافةِ الجيريةِ بينَهُ وبينَ مكتبِ شئونِ الطلابِ؛ ليسمعَ صوتًا آتٍ من بعيدٍ يناديهِ: “إنت فين يا خليفه؟!” فقالَ وقد أُسقِطَ في يديهِ؛ من دهشةِ توقعِ مكروهٍ: “إيه… سقطت؟!” فقالَ لهُ: “أبدا يا ابني… نجحت نجاح كبير“.

 

فانهمرتْ ملائكةُ الدمعِ من عينِيهِ الصادقتينِ، اللتينِ ذَبَلَتَا من شدةِ البذلِ والسَّهَرِ والكفاحِ؛ نَجَاحُهُ المُشَرِّفُ جاءَ عقبِ رحلةِ عطاءٍ شاقةٍ، كان موزعًا فيها بينَ مسئولياتِ العملِ، ومستلزماتِ الدراسةِ، وضروراتِ إعالةِ وإعاشةِ أسرتِهِ وشقيقيهِ الحبيبينِ (محمودْ، وعَلِيّ). انبلجتْ أساريرُ فتانا؛ وانطلقَ من فورِهِ إلى رئيسِهِ في العملِ، يتأبطُ شِهَادَةَ إتمامِ الدراسةِ الثانويةِ؛ فتبدلَ الوضعُ من حالٍ إلى حالِ… وأصبحَ (عبدُ العاطي خليفة) موظفًا مرموقًا؛ بعدَ أن كانَ عاملاً بسيطًا. ودَارَ الزمنُ دَورَتَهُ إلى أن صارَ مديرَ الإدارةِ الإنتاجيةِ، بشركةِ بورسعيدَ للغزلِ والنسيجِ. أنهى فَترَةَ عَمَلِهِ بشرفٍ منقطعِ النظيرِ، وانصرفَ بكلياتِهِ إلى مزاولةِ السرِ… الذي كان يَبُثُّهُ مساءً… للبحرِ! شبَّ عن الطَوقِ، متدثرًا بشائرَ الفجرِ الآتيْ، فكانت عطايا ثورةِ الثالثِ والعشرينَ من شهرِ تموزَ يوليو، عامَ اثنينِ وخمسينَ وتسعمائةٍ وألفٍ ميلاديا. عبدُ العاطي خليفة كانَ (دائمًا أبدًا) يؤكدُ أنَّ المشروعَ الثقافيَّ، الذي أَرسَتهُ فلسفةُ الثورةِ، وتَبَنَّاهُ الزعيمُ الراحلُ جمالُ عبد الناصرِ، إنما هو أساسُ النهضةِ الثقافيةِ التي شَهِدَتهَا الأجيالُ لاحقًا. كان يعشقُ وَطَنَهُ بوعيٍّ وفهمٍ واستنارةٍ. عبد العاطي خليفة مُعجَمٌ ثقافيٌّ يَسعَى على قدمينِ، كان يقرأُ في المعارفِ الإنسانيةِ كُلِّهَا، يلتهمُ: نظرياتِ علمِ النفسِّ، واشتراطاتِ الفلسفةِ، ومضامينَ علمِ الاجتماعِ، وعمقَ التاريخِ القديمِ والوسيطِ والمعاصرِ. اكتملت لديهِ أدواتُ الممثلِ المسرحيِّ (دونَ أن يشعرَ).

 

أما عن وقتِ الانخراطِ في سحرِ المسرحِ؛ فلقد اجتمعَ الرُّفَقَاءُ: محمود ياسين، وعباس أحمد، وسيد طليب، وشوقي نعمان، ومحمد عبد العاطي خليفة، والمحمود إبراهيم، وعلي كامل، ودولت أبو زيد، وسهير عبد السلام، وجازية إبراهيم، ومحمد بدر الدين، وشوقي صالح؛ بُغيةَ تكوينِ فرقةٍ مسرحيةٍ مختلفةٍ. شاركَهُم شَغَفَهُم الأديبُ البورسعيديُّ الراحلُ (فؤادُ صالح). وكان (محمد عبد العاطي خليفة) وقتذاكَ هو الموظفُ الوحيدُ، بعدَ أن التحقَ بشركةِ بورسعيدَ للغزلِ والنسيجِ كما أسلفنَا؛ بينا زملاؤُهُ كانوا طلبةً بمدرسةِ العُصفُورِيِّ الثانويةِ، وقد قَدَّمُوا عددًا من التجاربِ المسرحيةِ الواعدةِ، تحتَ مُسَمَّى (فرقةِ الطليعةِ)، ومنها: نيرون، ومشهدُ من الجسرِ، والمحروسةُ، وسكةُ السلامةِ، والناس اللي تحت، وعيلة الدوغري التي أبدع فيها (عبد العاطي خليفة) إبداعًا مبهرًا، في دَورِ (الطواف)، وَهُوَ بطولةُ المسرحيةِ، من إخراجِ: عباس أحمد. وكانَ يدخلُ إلى خشبةِ المسرحِ قائلاً جملةً مسرحيةً للفنانِ (فؤاد صالح)، الذي كانَ يؤدي دورَ (حسن) في المسرحيةِ ذاتِهَا. أقولُ كانَ يرددُّ الجملةَ المشهورةَ: “مش هتجيبولي جزمة يا حسن!”.

 

وكانتِ الصالةُ تَهدِرُ بالتصفيقِ في كلِّ مرةٍ يرددُ فيها الفنانُ القديرُ جُملَتَهُ التي حُفِظَتْ عنهُ بأدائهِ. لدرجةِ أنَّ نعمانَ عاشور مؤلفَ المسرحيةِ، سافرَ ليشاهدَ العرضَ في بورسعيدَ، وأثنى عليهِ ثناءً كبيرًا، وحينَ عُرِضَتِ المسرحيةُ على خشبةِ المسرحِ القوميِّ، من بطولةِ الفنانِ القديرِ: شفيق نور الدين. زارَ عبد العاطي خليفة المسرحَ القوميَّ لمشاهدةِ العرضِ؛ فقدَّمَهُ نعمان عاشور لـــ شفيق نور الدين قائلاً: “ده الطواف بتاع بورسعيد يا شفيق“؛ فاحتضنَ شفيق نور الدين، عبد العاطي خليفة، قائلا: “من شاهد العرض في بورسعيد قال لي احذر من غول مسرحي في بورسعيد، اسمه… عبد العاطي خليفه“. مَثَّلَ كذلكَ من إخراجِ عباس أحمد، بطولةَ مسرحيةِ (سكةِ السلامةِ)، وكذا من إخراجِ محمود ياسين مَثَّلَ بطولةَ عرضِ المحروسةِ. العجيبُ في هذا الممثلِ أنه جَوارَ موهبَتِهِ التمثيليةِ الفائقةِ، كان بارعًا في صَنعَةِ المَكيَاجِ المسرحيِّ وفنونِ التنكرِ، ولقد حَدَّثَ الفنانَ والمخرجَ المسرحيَّ البورسعيديَّ: أحمد عجيبة، قائلا له: “أنا كنت باخد في المسرحيه عن المكياج 4 جنيه. وكنت أستنى أعمل في الموسم مكياج 3 4 مسرحيات يعملوا تقريبا 12 جنيه كانوا بيسدوا جانب كبير من المعيشه لأسره كبيره“. هُجِّرَت ناسُ بورسعيدَ، عامَ تسعةٍ وستينَ وتسعمائةٍ وألفٍ ميلاديا، وانتقلَ (عبد العاطي خليفة) للعملِ موظفًا بفرعِ الشَّرِكَةِ في الزقازيقِ، وكَوَّنَ مع رفيقِ عُمرِهِ (محمود فراج) فرقةً مسرحيةً، باسمِ: (فرقةِ شركةِ بورسعيدَ للغزلِ والنسيجِ).

 

ومعَ تباشيرِ فجرِ الرجوعِ الذي لاحَ لمواطني بلدةِ السحرِ والفنِ والجمالِ… بورسعيدْ؛ آبَ أيوبُ إلى مساءَاتِهِ بإزاءِ البحرِ؛ يستنشقُ المسرحَ البورسعيديَّ مِن رئةِ المسرحِ البورسعيديِّ، ويستمدُ حياتَهُ من حياتِهِ. عادَ مع المخرجِ المسرحيِّ (ماهر عبد الحميد)، الذي كانَ يُخرِجُ مسرحيةَ (الخماسين)، تأليف: أحمد أبو النور، ومن بطولةِ رائدِ المسرحِ البورسعيديِّ، الفنانِ المُلهِمِ (نصر الدين الغريب). العرضُ المذكورُ كانت تقدِّمُهُ فرقةُ بورسعيدَ الإقليميةْ. واحتارَ (ماهر عبد الحميد) في أحدِ الأدوارِ إلى أن أشارَ عليهِ (نصرُ الدينِ الغريب) قائلاً أمامَ الفرقةِ: “محدش يعرف يعمل الدور ده إلا عبد العاطي خليفه!”. ارتسمتْ علاماتُ الاستفهامِ التعجبيِّ، على وجوهِ أعضاءِ الفرقةِ الإقليميةِ؛ إِذ إنَّ (عبد العاطي خليفة) لم يكن عضوًا في الفرقةِ؛ وإنما عَظَمةُ هذا الزمانِ أنَّ أعضاءَ الفرقةِ الإقليميةِ عن بكرةِ أبيهِم، رَحَّبُوا أَتَمَّ الترحيبِ بالفنانِ عبد العاطي خليفة. وكان الفينالُ يَجمَعهُمَا (نصرَ الدين الغريب، ومحمد عبد العاطي خليفة) معًا.

 

وكانَ (نصرُ الدين الغريب) يقول لـــ محمد عبد العاطي خليفة: “أنا بستمتع وأنا بتفرج عليك“. ومن هنا عَشِقَ (محمد عبد العاطي خليفة) الفرقةَ الإقليميةَ، وثبتَ أقدامَهُ فيها، واستمرَ بِها ممثلاً، ثم عضوًا بمجلسِ الإدارةِ، ثمَّ رئيسًا لمجلسِ الإدارةِ. ومن أهمِّ الأعمالِ التي شاركَ فيها (عبد العاطي خليفة) الفرقةَ الإقليميةَ: واقدساه، تأليف: يسري الجندي، وإخراج الفنان المسرحي البورسعيدي الكبير، الأستاذ: صلاح الدمرداش، ومسرحية أخبار أهرام جمهورية، تأليف: إبراهيم الحسيني، ومن إخراج: محمد الملكي. أما آخرُ أعمالِهِ؛ فكانت الملحمة الكبرى (محتاجينك يا نبي)، تأليف الشاعرِ والأديبِ البورسعيديِّ الراحلِ: عبد الناصر حجازي، ومن إخراجِ الفنانِ المبدعِ: صلاح الدمرداش.

 

حَمَلَ (عبدُ العاطي خليفة) على أكتافِهِ تاريخَ هذهِ الفرقةِ العظيمةِ، وهؤلاءِ الممثلينَ العُظَمَاءِ من روادِهَا الأوائلِ، وَأَطلَقَ على الفرقةِ الإقليميةِ اسمَ (بيتِ المسرحيينَ). وكان حُلمُهُ الذي يراودُهُ ويقضُّ مَضجَعَهُ أن يكونَ للفرقةِ الإقليميةِ مسرحًا مُجَهَّزًا وحديثًا. خاضَ معركةَ الترميمِ ببسالةٍ قصوى تُحسبُ لَهُ، وناضلَ مع ثلاثةِ وزراءَ للثقافةِ، هُم: شاكر عبد الحميد، وعماد أبو غازي، ومحمد صابر عرب، الذي زارَ مَقَرَّ الفرقةِ الإقليميةِ، وقالَ حرفيًّا: “هذا ليس مسرحا، وإنما مركز ثقافي متطور“، ورصدَ له مبلغَ مليونينِ ونصفَ المليونِ لأعمالِ الترميمِ؛ إلاَّ أنَّ هذا المشروعَ مازالَ في غياهبِ صندوقِ التنميةِ الثقافيةِ، ورَدهَاتِ وَزَارَةِ الثقافةِ ينتظرُ ساعةَ الخروجِ… المبينْ!”…

 


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock