د. خالد أمين: لست مُنظِّرا مسرحياً… والحداثة المسرحية الغربية اجتهادات مبنية على الحوار وإعادة المُساءلة

المسرح نيوز ـ القاهرة |حاوره: بوسرحان الزيتوني

ـ

أجرى المخرج المسرحي “بوسرحان الزيتوني” السنة الماضية (2014) حوارا مع الناقد المسرحي “خالد أمين” بمناسبة إصداره، رفقة الباحث المسرحي العراقي “محمد سيف”، لكتاب “دراماتورجيا العمل المسرحي والمتفرج”، أجاب فيه المُؤلف عن مجموعة من الأسئلة حول فكرة الإصدار ومضمونه وعلاقته بندوة ملتقى طنجة للفنون المشهدية، وقضايا أخرى تخص المركز الدولي لدراسات الفرجة عامة. ونظرا لأهمية الحوار، فإننا نعيد نشره في موقع  “المسرح نيوز”

من الكتب المسرحية التي تنخرط في زمانها ولا تعيد إنتاج أي كلام حول الظاهرة المسرحية، كتاب “دراماتورجيا العمل المسرحي والمتفرج”، الصادر مؤخرا ضمن منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة. يعكس الكتاب القلق المعرفي الخاص براهن الممارسة المسرحية المغربية وبأهم التوجهات التي أصبحت سائدة فيها، ويهمنا هذا اللقاء الصريح مع د. خالد أمين، رئيس المركز الدولي لدراسات الفرجة.

س: أصدرت مع د. محمد سيف كتاب “دراماتورجيا العمل المسرحي والمتفرج”، هل جاءت فكرة إصداره لمواكبة الندوة الدولية التي نظمها المركز الدولي لصناعة الفرجة تحت عنوان الدراماتورجيا البديلة؟

ج: بداية أشكرك أخي العزيز المبدع المتألق دائما بوسرحان الزيتوني على اهتمامك بكتابنا المشترك رفقة العزيز د محمد سيف. بالفعل، فكرة الكتاب مرتبطة بالندوة الأخيرة، ولكن أيضا بالندوات السابقة…. نقاشاتنا مستمرة دائما وهي إجمالا سعي نحو مد جسور التواصل بين البحث المسرحي والممارسة الإبداعية… بدأ هذا النقاش الممتد عبر الجغرافيا والزمن مند سنين خلت ضمن اللقاءات الوطنية التي كنا ننظمها برحاب جامعة عبد المالك السعدي بتطوان وها هو الآن يتفاعل أيضا مع هواجس المركز الدولي لدراسات الفرجة والأسئلة التي يتقاسمها مع فرسان الخشبة بالمغرب وخارجه… والكتاب عبارة عن تفكير مشترك في موضوع الدراماتورجيا البديلة. شارك في كتابته صديقي المبدع الدكتور محمد سيف العراقي المغترب في باريس، وهو ممثل ومخرج وباحث مرموق له خبرة ميدانية مهمة مع كبار المبدعين أمثال جاك لوكوك وبيتر بروك وقاسم محمد…

س. يشكل عنوان الندوة عنوان الجزء الذي أنجزته داخل الكتاب هل يمكن اعتبار ما ورد في الكتاب خلاصات للندوة أم تعبير عن وجهة نظرك التي دافعت عنها خلالها؟

ج: ما ورد في الجزء الخاص بي من الكتاب هو وجهة نظري المتواضعة في الموضوع ليس إلا… أما الخلاصات التركيبية للندوة –أو بالأحرى، أشغال الندوة- فستخرج إلى حيز الوجود ضمن مصنف جماعي قريبا جدا. لقد جرت العادة أن نوثق كل لقاءاتنا العابرة ضمن كتب جماعية حتى يستفيد منها كل طالب علم…

س: يشير د. سعيد كريمي أن الكتاب يجمع بين التنظير والتطبيق، فبأي معنى يا ترى يحضر التنظير في هذا الكتاب؟

ج: لست منظرا في مجال المسرح ولا أدعي ذلك، بل أسعى فقط أن أتابع بعشق وشغف هذا المجال البحثي الخصب بأسئلة حداثتنا المعطوبة. ربما يحضر التنظير على شاكلة اقتفاء الأثر… بمعنى أننا (أنا ومحمد سيف) حاولنا ممارسة نوع من الأركيولوجيا لتتبع التطور الإتيمولوجي لمفهوم الدراماتورجيا وتحولاته عبر الأزمنة والمواقع الجغرافية والثقافية والإبداعية… لا يخفى عليك أن ‘الدراماتورجيا’ مفهوم جد معقد ومتعدد الاستعمالات من حيث التداول في الأوساط المسرحية، وهو في تحول مستمر…

ومع ذلك سأنتهز هذه الفرصة للتعبير عن وجهة نظري المتواضعة في موضوع ‘النظرية’ و’التنظير’ بعيدا عن الدراماتورجيا وتفاديا لأي التباس في موقفي اتجاه ‘حمى التنظير’: خلافا للاعتقاد السائد الذي يقيم تعارضا جوهريا بين “النظرية” و”الممارسة”، فإن ‘النظرية’ تعني في المقام الأول: “هيكلا أو بنية متشكلة من أفكار تشرح الممارسة.” (Raymond Williams, Keywords 316) هذا إضافة إلى كونها أرقى مستويات المعرفة من حيث هي بناء مفاهيمي منسجم ومتقن العمران ‘يؤدي إلى ربط المقدمات بالنتائج’. (المهدي بندق، تفكيك الثقافة العربية، 5) وإذا ما افترضنا أن هذا البناء المفاهيمي منسجم مع ذاته ومحكم، فهذا لا يعني أنه غير خاضع لسيرورة التحول. إننا عندما نعتبر النظرية بناء مفاهيميا شديد الانسجام، تلتئم فيه المقدمات بالنتائج، فهذا يعني أن تنظيرات الحداثة المسرحية الغربية لم تقدم نفسها على أنها مطلقات بقدر ما تقدمت كاجتهادات تستفيد من فلسفة العمل التي تتميز بها الواحدة عن الأخرى: (فلسفة عمل ستانيسلافسكي تختلف عن فلسفة برشت، أو مايرخولد، أو غروتوفسكي، أو باربا، أو بيتر بروك، أو روبرت ولسن…)، وهي ـ في عمومها ـ اجتهادات مبنية على الحوار وإعادة المساءلة. لا تطرح نفسها البتة كمطلقات ترقى إلى مجال المقدس واللاهوت وبالتالي تنذر بالسقوط في ماهوية مطلقة ومقولات شمولية. بينما شهد تاريخها العديد من التصويبات والمراجعات احتكاما إلى منطق الاستيعاب والتجاوز؛ ناهيك عن أنها عرفت التراكم والاستمرارية، القطائع والتمرد، التبني والرفض… فستانسلافسكي، مثلا، وتفاديا للتحجر، فتح بيته في شيخوخته لرعيل من الشباب المسرحي بدأ معهم مسيرة بحث جديد مشرع على أفق أرحب. وهي إشارة فيها تأكيد لعدم استسلامه لمنطق المطلقات واللاهوت، حيث قر عزمه على الاستمرار في البحث إلى آخر أيامه، بما يعني ذلك من ملازمة للمعرفة واستشراف لآفاق وإمكانيات تطوير منهجه ونظريته في إعداد الممثل. نفس الشيء يمكن أن يقال عن برشت وغروتوفسكي وآخرين… في السياق نفسه، وفي محاولة منه لترسم ما آلت إليه بعض ‘النظريات الكبرى’ في المسرح، طرح أوجينيو باربا أسئلة جوهرية من قبيل: ماذا يعني أن نكون ستانسلافسكيين أو مايرخولديين؟ هل يعني ذلك أن نكون حراسا لمقابر هؤلاء أو سدنة لكهنتهم؟ أم نشد الرحال وننطلق بحيوية من علاماتهم نحو ما هو أفيد؟ لا توجد مطلقات في التنظير المسرحي، حسب رأيي المتواضع. كما أنه ما من منهج بديل -أو دراماتورجيا بديلة- يقوم على خلفية فلسفية في الممارسة المسرحية، بإمكانه أن ينبعث من فراغ، وأي منهج حقيقي يستوجب الانطلاق من إرث الخبرات المسرحية التي أضحت ملكا للإنسانية جمعاء في إطار جدلية الهدم وإعادة البناء، والبحث عن الخصوصية والسعي للانخراط في الكونية. من هنا لم يعد ممكنا غض الطرف عن التراكم الإيجابي الذي حققه الآخر (بصيغة الجمع) عبر تاريخ المسرح وإلا سنسقط حتما في ما أسماه الخطيبي ب”الاختلاف المتوحش” الذي يسلبه إمكانية التطور والانفتاح على الآخر من خلال ترسيخ الماضي في الحاضر كما هو. فالتراكم صار إرثا إنسانيا يتجاوز الحدود.

س: عرفت الندوة الدولية لطنجة المشهدية في ذكراها العاشرة مشاركة أسماء وازنة من خارج المغرب، وقد تابع، وبعضهم لأول مرة، عروضا مسرحية مغربية، كيف وجدت ردود فعلهم؟

ج: إذا رجعت إلى الدورات السابقة فستجد ثلة كريمة من الأسماء الوازنة في سماء البحث المسرحي الدولي كانت دائما تساهم معنا في المشهدية…. والدورة العاشرة ليست استثناء، إذ حضر معنا فيليب زاريلي وكايت أوريلي وبراين سنجلتن وإيلن أستن من إنجلاتيرا، ومارفن كارلسن من أمريكا، وكابرييل براندستيتر وكريستل فاير من ألمانيا، وبيتر أيكلمان من أستراليا وروستم باروتشا من الهند وأسماء أخرى لا تقل أهمية… المركز الدولي لدراسات الفرجة منفتح على أصوات العالم وهمه الأبرز هو مد جسور التواصل بين الأنا والآخر، وإبراز طاقاتنا الإبداعية للآخر بدون مركب نقص…

بالفعل، لقد اكتست مشاركة باتريس بافيس هذه السنة لأول مرة معنا (وأول زيارة له للمغرب) أهمية ضافية بالنسبة لنا وللعديد من الباحثين المغاربة والمهتمين والصحفيين، وذلك مرده كون المغرب مرتبط أكثر بالمجال الفرانكوفوني فيما يرتبط بالممارسة المسرحية. وبافيس له أيادي بيضاء في تطوير آليات البحث المسرحي في المغرب من خلال طلبته.. وقد كان جد سعيد وهو يتابع العروض المغربية وخاصة عرض ‘دموع بالكحول’ الذي كتب نصه صديقنا عصام اليوسفي أستاذ الدراماتورجيا بالمعهد والذي أعد أطروحة الدكتوراه تحت إشراف بافيس بباريس… وقد كتب بافيس شهادة بليغة حول العرض… كما كتبت الباحثة الإنجليزية إلين أستن مقالة مركزة وجد إيجابية حول ثلاثة عروض: ‘سكيزوفرينيا’، ‘دموع بالكحول’، و’حادة’. في نفس السياق، لا بأس من التذكير بأن البحث المسرحي الدولي -سواء ضمن الفيدرالية الدولية للبحث المسرحي أو الجمعية الدولية لدراسات الفرجة- مهتم بشكل كبير بما يجري في دول ما بعد الربيع مسرحيا… وهنا أيضا، أنتهز هذه الفرصة لأهمس في آذان الصديقات والأصدقاء المسرحيين لأقول: لا ينبغي علينا أن نختزل العالم في فرنسا فقط، لأن ذلك يحجب علينا ارتياد آفاق الكونية والتفاعل مع باقي تجارب العالم (مع التأكيد أن فرنسا جزء من هذا العالم).

س: عودة إلى الكتاب، تناولت من خلال الإشارة المفصلة والعابرة العديد من التجارب المسرحية التي شكلت تاريخيا انعطافة، من وجهة نظرك، في تاريخ الدراماتورجيا المغربية، وأفردت لبعض التجارب حيزا هاما، ومن ضمنها مسرحية ‘ديالي’. أين تضنف بداية منهجك التحليلي لهذه المسرحية؟

ج: لقد تابعت ما كان يكتب حول هذه المسرحة من قبل من شاهدوا عرضها ومن لم يشاهدوه، ومع ذلك انتقدوا التجربة، وهناك من أصدر فتوى بشأنها. لقد شاهدت هذه المسرحية وقرأت نصها في صيغتين (الأولى مسودة والثانية منقحة) وحاولت النبش في بعض من الأسباب التي جعلت الكثير منا يرفضون المسرحية قبل أن يشاهدوها (بما فيهم بعض المسرحيين والنقاد الذين يعرفون اشتغال فرقة الأكواريوم ورهاناتها على تنمية القدرات عبر المسرح أكثر من الرهانات الجمالية، ومع ذلك انساقوا مع موجة الدفاع على ‘الفن النظيف’)… وحتى إن شاهدوا إحدى عروضها يبخسون قيمتها الفنية غير مكترثين برهانات الفرقة التواصلية… باختصار شديد، لقد حاولت قدر المستطاع التسلح بالنقد الثقافي للتعاطي مع ‘ديالي’ في المجال المسرحي العمومي المغربي؛ وهو منهج يقوم عموما على هندسة ذهنية تقارب النصوص وتتجاوز بنياتها لتقتحم المواقع والأمكنة التي تنبعث منها وتكتب بها تلك النصوص. لقد توارى مجمل الخطاب النقدي الذي تعاطى مع ‘ديالي’ وراء الوازع الأخلاقي لرفض عمل قد يكون صادما في علاقته بالمقدس- سواء من خلال قذفه للجسد الطقوسي في بؤرة ضوء كاشفة، أو استعماله للغة بذيئة – لكن دون مساءلة هذه الاستعمالات شكلا ومضمونا… أمثل لهذا الرفض المزاجي ما أثاره عنوان مسرحية “ديالي” وليس العرض… وهنا لا بأس أن أشير إلى أن كلمة “ديالي” في المسرحية لها أكثر من دلالة، ولا يمكن اختزالها في العضو التناسلي للمرأة بتلك الطريقة الفجة التي تعمدت تبخيس الأبعاد الحقيقية للعمل… فهو بؤرة للخجل والعار بالنسبة للأب، كما جاء في الصفحة الأولى: “بنتك إيلا جابت شي عيب لهاد الدار، قرطاسة ليها، وقرطاسة ليك، والثالثة ديالي.” وفي مقام آخر، “ديالي” ترمز إلى الجسد الأنثوي المهشم والمغتصب. بعد معاناتها المريرة بفعل الاغتصاب، عبرت الفتاة عن رفضها لاحتقار جسدها: “كنت باغة نغسل، باغة نحيد الجلدة ديالي، اللحم ديالي. نموت.”…

س: أتعتقد أنه من الضروري في مواجهة أراء متخلفة أعقبت عرض مسرحية ديالي أن نسعى دائما لإبعاد تهمة الثأثر بالغرب، رغم أن أوطان اليوم، حياتها وفكرها هو فكر وحياة عالمية أصلا، ولم يبق هناك أي إمكان لاحتماء ممكن من قدر كونية الإنسان اليوم. ألم تضعف هذه المواجهة تحليلك لمسرحية ديالي، إذ أن تركيزك حول حيوية القضية موضوع المسرحية أبعدك أكثر عن المسرحية ذاتها؟

ج: التأثر بالغرب ليس بتهمة بل هو واقع حال… وهنا لا بأس أن أستحضر نداء فرانز فانون قبيل وفاته: “هيا، أيها الرفقاء، لقد انتهت اللعبة الأوربية، ولابد من البحث عن شيء آخر.” وذلك بالنظر إلى حجم الخسائر التي خلفها الاستعمار. لقد كان نداء مشروعا مثله في ذلك مثل ‘الزنجية’ مع ليوبارد سنغور وآخرين، غير أن عبد الكبير الخطيبي ما لبث أن استفز هذا النداء بحرقة الأسئلة: هل المقصود هو التخلي عن أوربا، والابتعاد عنها إلى الأبد؟ أليس هذا وهما، ما دامت أوربا تقيم في كياننا؟”هل توجد إمكانية الانفصال عن هذا الغرب؟ هل المقصود هو التخلي عن المسرح في صيغته الغربية؟ وهل المسرح الغربي واحد؟ لقد أدت أغلب مسارات الانفصال إلى ‘الاختلاف المتوحش’، “ذلك الانفصال الزائف الذي يقذف بالآخر إلى خارج مطلق. فالاختلاف المتوحش يؤدي بشكل حتمي إلى ضلال الهويات المجنونة: الثقافوية، التاريخوية، القوموية، التزمتية الوطنية، العرقية…” ليظل نقدنا لهذا الآخر الغربي أسير العدوانية والانفعال، وهو بذلك يكرس ‘هيجيلية منحطة’ بثنائياتها وبنيات تفكيرها المكرسة للتراتبية السلطوية… عودة مرة أخرى لمسرحية ‘ديالي’، لقد حاولت تفكيك بعض الخطابات التي قذفت بالمسرحية إلى خارج مطلق عوض قراءتها ضمن سياق تحققها المادي…

س: لم تشر في تحليلك لهذه المسرحية إلى مصدرها، ولا إلى انخراطها في حركية عالمية تعبر عنها حركة V-day المناهضة للعنف ضد المرأة، فما السبب في ذلك، علما أن ذلك لا ينقص من خصوصية القضية المتناولة وإن في السياق العام. من المؤكد أنك مطلع على نص مسرحية انسلر منولوجات المهبل، وعن العروض التي تأسست منذ عشرات السنوات في الكثير من بقاع العالم، هل يمكن أن تحدثنا عن خصوصية العرض المغربي، خاصة في أدائيته وسينوغرافيته. وهل يمكن أن توضح لنا تحديدا الجديد الدراماتورجي الذي اقترحه العرض المسرحي؟

ج: العزيز بوسرحان، أرى أنك تركز بشكل ملفت للانتباه على مسرحية ‘ديالي’ في حوارك هذا (وتدويناتك الفيسبوكية)، مع العلم أنني تحدثت على مجموعة من التجارب الأخرى التي لا تقل أهمية عنها؛ مع التأكيد أن ما ورد في الكتاب جد مقتضب بخصوص هذا الموضوع. وإن أردت الاطلاع على تفاصيل أكثر دقة حول مقاربي للموضوع، برجاء الرجوع إلى الدراسة المطولة (بالإنجليزية) التي نشرتها في مجلة الفيدرالية الدولية للبحث المسرحي المحكمة:  Theatre Research International / Volume 38 / Special Issue 02 / July 2013, pp 87-103. في هذا العدد ستجد أخي بوسرحان مقاربة لاستفادة فرقة الأكواريوم من دراماتورجيا إيف إنسلر في مسرحيتها الشهيرة ‘مونولوغات المهبل’ وما تمخض عنها من آليات نضال نون النسوة في جميع أنحاء المعمور… كما أحيلك لموقع الأكواريوم حيث دونت ملاحظاتي في الموضوع في ذروة النقاش حول ‘ديالي’ وتكلمت على مسرحية إنسلر وكذلك حركة V-day… بالنسبة لي، لم أرى أنه من المفيد أن أعيد نشر كل ذلك في هذا الكتاب… المهم، لقد استفادت الفرقة من آليات اشتغال إنسلر فيما يرتبط بالموضوعات الخاصة بروايات المهبل من وجهة نظرهن، بالإضافة إلى البحث الميداني رفقة المعنيين بالأمر والذي شمل حوارات مطولة وملء استمارات مع 150 من نساء المغرب. وتم بعد ذلك تطويع كل تلك الآليات بما يتماشى مع الثقافة المغربية وأسلوب الفرقة في العمل، وهو أسلوب معروف عند المتتبعين باهتمامه أكثر بالجوانب التنموية وتوسله في ذلك بآليات اشتغال مسرح المنتدى ومسرح المقهورين… تم التركيز على أربع روايات بالإضافة إلى إشكالية التسمية ‘الطابو’… الجديد الدراماتورجي الذي اقترحته ‘ديالي’ هو الانطلاق من الجمهور المفترض ورواياته وانشغالاته، فتم إعداد النص (من طرف ماها سانو) في صيغته الأولى بناء على تلك المقابلات مع نساء الحي بالعكارين وأخريات… وبعد العرض مباشرة يكون هنالك حوار آخر مع الجمهور الذي يدلي بدلوه في كل شيء يخص ‘ديالي’ سواء كموضوع أو فرجة مسرحية… وهذا الحوار بين الخشبة والصالة يغذي بدوره دراماتورجيا العرض في طور الإنجاز. والمتتبع لعروض ‘ديالي’ سيلاحظ الفرق بين العرض الأول الذي لم يتعدى 30 دقيقة والعروض الأخيرة التي استفادت كثيرا من نقاش الخشبة- الصالة، من جهة، ومن جماع الانتقادات في المجال العمومي الافتراضي وغيره التي أحيانا تجاوزت حدود النقد أو الانتقاد لتقذف بالعمل في خارج مطلق… باختصار، وحسب رأيي المتواضع، ما يميز دراماتورجيا ‘ديالي’ هو هذا التفاعل بين المسرح والمجتمع، الخشبة والصالة، الداخل والخارج. قبل العرض بدا هذا التفاعل على شاكلة استنطاق الجنسانية الأنثوية من خلال ملء الاستمارات وجلسات نقاش مع نساء مغربيات من مختلف الأعمار والمشارب. وبعد العرض الأول مباشرة استمر هذا التفاعل من خلال فتح نقاش بين الخشبة والقاعة، وتم تحويل المسرح إلى منتدى حقيقي لتبادل الآراء حول قضايا حساسة تهم المجتمع المغربي بأسره.. كما تم استثمار هذا النقاش في ورشة الأكواريوم لتطوير العمل في طور الإنجاز في العروض اللاحقة…. لقد راهنت دراماتورجيا ‘ديالي’ على استشكال علاقتنا بالطابو بواسطة ‘سميأة’ الجسد، وهي ‘سميأة’، حسب منظور جوليا كريستيفا، تخلخل النظام الرمزي رغم تعايشها الحتمي معه. ففي الوقت الذي يحيل فيه النظام الرمزي إلى القانون الناظم للغة، يحتوي الأفق السيميائي على كل العناصر المنزاحة الثاوية في تخوم السيرورة الدلالية…

س: تشير في الكتاب أن الدراماتورجيا البديلة لا تعني قطيعة مع غيرها، بل هي محاورة ومستوعبة ومتجاوزة، من وجهة نظر دراماتورجيا كيف يمكن أن توضح للمهتم الخصائص التي تجعل منها كذلك ؟ وهل من شواهد تدل على الاستيعاب والتجاوز ؟

ج: نعم قلت ذلك أكثر من مرة والكتاب يتضمن العديد من الأمثلة التي تدل على الاستيعاب والتجاوز. وقلت أيضا أن الممارسات المسرحية البديلة في مغرب اليوم لا تعني بالضرورة القطيعة مع ما هو سائد، بل على العكس من ذلك، فهي تلك الممارسة الدراماتورجية المختلفة والمغايرة التي لا يمكنها أن توجد إلا في حدود علاقتها مع آخرها. وهي بذلك استيعاب وتجاوز للدراماتورجيا السائدة في نفس الآن دونما إلغائها بالكامل. لذلك، يمكن التأكيد ها هنا بأن الحساسيات المسرحية ‘البديلة’ لا تعني بالضرورة الانفصال والقطيعة، لأنها لا تلغي ما سبقها. فكل الأساليب الدراماتورجية لا تزال تتجاور وتتعايش وتقتبس من بعضها البعض… وما يميزها عن بعضها هو نقل التشديد من أحد مكوناتها إلى آخر دونما التخلي عنه كلية… المسرح المغربي اليوم أصبح يستشرف رحابة حساسيات فنية مختلفة، ولم يعد مرهونا بأسئلة تدفع بعض ممارسيه إلى نوع من الانكفاء على الذات والماهوية المطلقة… وتنوع الحساسيات الفنية الموجودة في الساحة الآن هو نتيجة لتراكم خبرات الجسد المسرحي المغربي… بمعنى أنه لو لم يكن الطيب الصديقي والمرحوم أحمد الطيب لعلج وتراكم تجارب المعمورة ومسرح الهواة فيما بعد إبان الزمن الجميل، ومسرح الشمس، ومسرح اليوم… لما وصلنا إلى بوسلهام الضعيف وعبد المجيد الهواس وحسن هموش وبوسرحان الزيتوني وأسماء الهوري، ونعيمة زيطان، ومحمد الحر، وجواد سنني، وحمزة بولعيز، ومحمد الشاهدي،… من جهة أخرى، يجب الإقرار بأن المسرح المغربي هو جزء من العالم…. فهناك متغيرات وعوامل موضوعية -على المستوى العالمي- أثرت أيضا في تسريع المنعطف المسرحي المغربي الراهن: ولعل أبرزها تفاعل المسرحيين المغاربة واحتكاكهم مع الفنون الأخرى المجاورة مثل فن الأداء والفرجة الخاصة بالمواقع، والتجهيزات الفنية بشتى تلويناتها، ناهيك عن حساسيات فنية أخرى مثل مسرح ‘ما بعد الدراما’ والمنعطف الوسائطي في المسرح المعاصر… بالإضافة إلى التفاعل مع ثقافة الصورة والثورة الثقافة الرقمية وتقنياتها الجديدة أثناء صناعة الفرجة إلى حد الإفراط أحيانا. باختصار، هناك حساسيات جديدة في المسرح المغربي، لكنها لم تأتي من فراغ (لم يقطر بها السقف)، بل هي نتيجة تراكم خبرات الجسد المسرحي المغربي… إن منطق الاستيعاب والتجاوز يقتضي انصهار مجموعة من العناصر لتشكيل معالم تجربة ما…

س: تؤكد في كتاب دراماتورجيا العمل المسرحي، أن استخدام وسيط الفيديو – مادام ليس هناك لدينا غيره – يعتبر واحدا من مظاهر الجدة في بناء العرض المسرحي ما بعد الدراما، هل استخدام هذه الوسائط كاف في ذاته/ بذاته ليجعل من عرض ما منخرطا في السياقات الجديدة لصناعة الفرجة المسرحية؟

ج: لا أعتقد أن هذا ما قلته بالضبط، لأنني أستعمل عبارة ‘الدراماتورجيا البصرية’ للتعبير عن الوسائط البصرية بما فيها الفيديو، مع التشديد بأنه لدينا سواه من الوسائط الأخرى المستعملة مثل ‘الميكروفون’ من حيث هو أداة وسائطية تذكر مستعمليها بأنهم بصدد مخاطبة أناس آخرين عبر أثير ما…. ومع ذلك، يجب الإقرار بأن التوظيف الواسع الانتشار للمكروفون في المسرح المغربي راهنا له نفس تأثير الأسلوب مابعد الدرامي. فالميكروفون هو جهاز يحول الموجات الصوتية إلى طاقة كهربائية. وبالتالي فهو يخلق قناعا صوتيا إلكترونيا يحجب الصوت الحقيقي للمؤدي، وبهذا نكون في أغلب الأحيان إزاء مؤدي أكثر من ممثل متقمص لشخصية ما… وهذا الاستعمال يؤدي إلى ارتباك في منظومة التمثيل/حضور.

إن استخدام الوسائط في المسرح هو أولا وقبل كل شيء اختيار جمالي…. أن نتقن هذا الأسلوب في صناعة الفرجة أم لا فهو موضوع آخر… مند ستينات القرن الماضي انجرفت الممارسة المسرحية الغربية بخاصة مع التيارات الحداثية العارمة التي خلخلت أسس ونظريات المسرح الحديث. فلم تعد تستقر على حال. وبحلول العقد الأخير من القرن العشرين أصبح المسرح مستوعبا أكثر فأكثر خبرات الفنون الأخرى، وفن الأداء بشكل خاص. وهنا تحديدا يمكن القول أن المسرح المغربي من حيث هو أقرب المسارح العربية على مستوى الممارسة لكل تلك الحساسيات الغربية الجديدة ينحو عموما نحو دمقرطة الفعل المسرحي عبر تفكيك تراتبية السلطة المضمرة في الثنائيات: نص/عرض، مؤلف/ مخرج… وتشكل الوسائط أحد الأساليب التي انفتحت عليها مجموعة من التجارب المسرحية المغربية. إن متابعتنا للتجارب المسرحية المغربية الجديدة تجعلنا نخلص إلى أن أعمال الجيل الجديد مثل “دموع بالكحول” أو “حادة” أو “بين بين” أو “سكيزوفرينيا” يستحيل مقاربتها من منظور النقد التقليدي أو حتى نموذج التحليل الدراماتورجي البافيسي، وذلك ببساطة لانفلاتها عن التسنين المسرحي الخطي، وإرباكها لمفهوم التمثيل داخل المسرح واعتمادها كتابة شذرية وأنساق دلالية ووسائط مختلفة.

س. من الملاحظ أن أغلب عروض المسرح المغربي مؤخرا تتأسس على مونودرامات وتدور مضامينها حول المرأة، والبعض منها يدور حول نفس الصورة للمرأة / الخادمة المغتصبة العاهرة …… . هل نطمع منك إلى تفسير لهذا الأمر إذا كان صحيحا؟

ج: لست في موقع يخول لي أن أقول إن كان هذا الأمر صحيحا أم لا. ومع ذلك، أرى بأننا نعيش اليوم حراكا من نوع آخر رغم كل التعثرات التي يعيشها ربيعنا العربي مشرقا ومغربا، حراك يرتبط أساسا بمواجهة تراكم الرقابات التي تسيج متخيلنا الجمعي. وما الرقابة على عوالم الأنثى التي حولتها إلى بؤر الخجل والخوف إلا جانبا من هذه المواجهة. والحراك لا يزال في بدايته، وصور معاناة المرأة هو فقط وجه من أوجه هذا الحراك… وإذا كان المسرح هو الوجه الحقيقي لتقدم المجتمع، ينبغي أيضا أن يكشف تناقضاته ونفاقه… كما ينبغي أن نشجع المرأة المبدعة على استعادة اللفظ ومسرحة معاناتها عبر العصور…

س: وأنت تقرأ نص دموع بلكحل، هل كنت تتوقع أن ينتج عنه عرض دموع بلكحول؟

ج. لقد شاهدت العرض قبل أن أقرأ النص. واستمتعت بالمشاهدة أربع مرات وبالقراءة أكثر من مرة… نص ‘دموع بالكحول’ يفرض أسلوب ‘دراماتورجيا الشذرة’؛ إنه ينتمي إلى نوع من النصوص المفتوحة والتي تحمل في طياتها بدور تقويض سلطة النص المكتوب… بمعنى أن النص يقدم نفسه على أنه مكون من مكونات أخرى قد تشكل ممكنات الكتابة الركحية. وقد تمكنت المخرجة أسماء الهوري وفريق عملها من تطويع أسلوب ‘دراماتورجيا الشذرة’. باختصار، تتميز دراماتورجيا فرجة “دموع بالكحول” بنزوع نحو إلغاء التراتبية بين مكونات العرض المسرحي. لقد تم توظيف كل من النص الدرامي، والممثل، والفضاء، والزمن، والإضاءة، والملابس، والموسيقى الحية، والمنجز السينوغرافي… بطريقة متساوية وبمعزل عن مركزية أو هيمنة لمكون ما… وهذا في حد ذاته اختيار ذكي من طرف المخرجة أسماء الهوري. إنه أسلوب ما بعد درامي فيما يخص دراماتورجيا الفرجة وتعاطيها مع مكونات العرض المسرحي…

س: ألا ترى أن الحاسم في العرض المسرحي في النهاية هو الإخراج المسرحي لأي شكل من الكتابة مهما كان. وأن أكثر النماذج نجاحا والمثارة في الكتاب أتت من كون أصحابها هم مخرجون كتاب عروض لا نصوص؟

ج: أتفق معك صديقي المخرج بوسرحان الزيتوني… ومع ذلك أفضل الحديث عن ‘الكتابة الركحية’ التي يشارك فيها كل الفريق وليس فقط المخرج. مثلا، حينما نروم الحديث عن ‘بين بين’، العرض الفائز بالجائزة الكبرى في مهرجان مكناس 2014، لا يمكننا إلا أن نتحدث عن دمقرطة في التعاطي مع مكونات العرض… فالنص الدرامي في هذا العرض هو مجرد مكون ضمن باقي المكونات الأخرى التي لا تقل أهمية…. اليوم نعيش زمن “شعراء الخشبة” (حسب تعبير صديقي المبدع الدكتور محمد سيف)، إنه زمن المجموعات المسرحية والكتابة الركحية الجماعية المتعددة الاختصاصات والتي تلتئم لتشكل لغات العرض وفق تصور إخراجي فردي أو جماعي.

ـــــــــــــــــ

دراما ميديا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock