د. زينب عبد الأمير و”قراءة نقدية”حول عروض “المهرجان الحسيني الصغير الدولي الرابع لمسرح الطفل”.. غياب النص وحضور الرؤية الإخراجية في عروض دمى

المسرح نيوز ـ العراق |د. زينب عبد الأمير أحمد

ـ

ما انفك الخطاب المسرحي الموجَّه للطفل (عربياً وعالمياً) يطور أساليبه واتجاهاته في صياغة وتشكيل كل من النص المقروء والمرئي جمالياً ومعرفياً، وخلق مغايرة بمعايير حداثوية محايثة لروحية العصر وحاجاته الإبداعية والتطويرية عبر خطابات مسرحية تجديدية تنشد الابتكار بما ينسجم وخصائص نمو الطفل التي خضعت بدورها لمعايير تجديدية وفقاً للدراسات الحديثة التي أُجريت في هذا الصدد إبان القرن الحالي.

وباستعراض ما قُدِّم في العراق من عروض مسرحية (عربية ومحلية) تسنَّت لي فرصة مشاهدتها في المهرجان الحسيني الصغير الدولي الرابع لمسرح الطفل –الذي أُقيم في محافظة كربلاء المقدَّسة برعاية كريمة ودعم حقيقي من لدن الأمانة العامة للعتبة الحسينية المقدَّسة متمثلة بقسم رعاية وتنمية الطفولة- واستقصائها استقصاءً نقدياً، وجدنا عروضاً تقمصت روح المشاكسة الجمالية العالية درامياً وتقنياً عبر التوظيف السينوغرافي لها، وفكرياً عبر المنظومة القيمية التي تضمنتها، وعروضاً أخرى بقيت قابعة رهن المألوف التقليدي، ومن بين هذه العروض المسرحية التي قُدِّمت، ثلاثة عروض مسرحية للدمى في محاولة جادة وواعية خاضها القائمون على هذا المهرجان في هذه الدورة تحديداً للانفتاح على مجمل أشكال التعبير الأدائي المسرحي الموجَّه للطفل، وكانت هذه العروض بمشاركة فرق مسرحية من داخل العراق وخارجه، وهي وفقاًللترتيب الآتي:

  • عرض (البيت المشترك) – عراقي
  • عرض (فرقة الحيوانات الطيبة) – سوري
  • عرض (العجوز) – تونسي

قُدِّم عرض (البيت المشترك) في اليوم الثاني ضمن منهاج المهرجان باسم فرقة معهد الفنون الجميلة/ بغداد، وكان من تأليف (فلاح هاشم)، وإعداد (جمال الشاطي)، وإخراج (هند جواد)، استطاعت المخرجة الواعدة (هند) أن تقدم عرضاً مسرحياً جيداً في بعض معالجاته الدرامية، ومثيراً لتساؤل وحيرة المتلقي (الطفل) في بعضها الآخر،

 

فقد نجحت في خلق توليفة درامية جمالية معرفية رسخت القيم التربوية التي تخللتها الحكاية كقيم التعاون، والتسامح، والتأكيد على أهمية العمل الجماعي بالابتعاد عن الفُرقة بين الأصدقاء، وقد ساعدها في ذلك حُسن اختيارها لوسيط مسرحي قريب لروحية ومخيلة الطفل ومدركاته العقلية، ألا وهو مسرح الدمى عبر مجموعة من دمى حيوانية قام بتصميمها وتنفيذها الفنان المبدع (علي جواد الركابي)، إلاّ أن المخرجة أخفقت في تحقيق وخلق جانبين أساسيين، الأول إخفاقها في تكريس طابع المنطقية في معالجتها الدرامية لبعض ما يمكن أن نقول عنهُ مشاهد العرض رغم عدم وجودها ضمن سير الأحداث وتصاعدها، وهو مشهد بناء البيت المشترك الذي أجده تكويناً مشهدياً صورياً مهماً جداً للطفل في تعزيز فكرة العمل، فقد ظهر البيت فجأة بعد إظلام، والجانب الثاني تمثَّل في افتقار بنية العرض لطابع المرح والكوميديا الذي يُدخل السرور إلى قلب المتلقي (الطفل)، ويخلق لديه الإثارة والتشويق والمتعة. أما من الناحية التقنية فقد افتقرت أغلب شخوص الدمى الحيوانية للبُعد الأدائي الذي يعزز السمات التي تميزها، وأعني هنا اختيار طبقة الصوت، وشدَّته، وإيقاعه بما ينسجم مع البُعد المادي والفكري لشخصية الدمية الحيوانية.

 

أما العرض المسرحي الثاني (فرقة الحيوانات الطيبة) والذي قُدِّم في اليوم الثالث من المهرجان باسم مديرية المسارح والموسيقى/ مسرح الطفل والعرائس في سوريا، وهو من تأليف وإخراج (بسام ناصر)، فقد تمحورت فكرته حول إحياء مسرح الدمى، وتفعيل روحيته الصورية في ذاكرة المتلقي (الطفل) من خلال مجموعة من الحيوانات التي تقرر تشكيل فرقة مسرحية بعد دخولها صدفة إلى مستودع دمى يعود لصاحب المزرعة الذي كان يعمل سابقاً بتصنيع الدمى، وفي النهاية يقتنع صاحب المزرعة بفكرتهم ويقرر أن يعمل معهم في تقديم مسرحيتهم التي تألفت من مشاهد مسرحية اختلفت في موضوعاتها، إلاّ أنها اجتمعت على فكرة واحدة، إذ اتكأ مخرجها ومؤلفها المبدع (بسام) في رؤيته على أسلوب المنهج البرشتي، فجاءت مشاهد العرض صغيرة لكل منها استقلاليته، كما أنه لم يركن إلى الأسلوب التقليدي في التركيز على شخصية محورية معينة، بل منح جميع شخوص العمل ذات الاهتمام.

وعلى مستوى التوظيف السينوغرافي للعرض، فقد أبدع المخرج في تقديمه لفضاء مسرحي يعج بجمالية تعددية مفرحة خاضتها الإضاءة الراقصة بألوانها المغايرة، ودمى أقل ما يقال عنها أنها نابضة بالحيوية عبر تراكيبها الشكلية الزاخرة بالألوان المتضادة والجريئة، وعبر التكنيك الحركي للدمى الذي جاء منسجماً وتلقائياً مع الحوار المسجل والموسيقى المصاحبة في الأغاني، وهنا لابد أن نشير إلى الاشتغال الحداثوي الذي اعتمده المخرج في تحريك الدمى من خلال ظهور المحركين أمام الجمهور في أثناء تحريكهم لهذه الدمى، إذ استطاعوا وبحِرَفية عالية بث الطاقة السحرية في أجسادها لتبدو وكأنها كائنات حية. وبالتأكيد إن هذا الأداء الحركي المحترف لم يتشكل أو يتأسس بهذا المستوى الرفيع والخلاَّق لولا الدربة الجسدية الباحثة والمستمرة والمسؤولة التي تعي تماماً كيف تخلق الطاقة الفاعلة في أجساد هذه الدمى، كما أن الطبقات الصوتية للدمى الحيوانية جاءت منسجمة حد التماهي في الشدة والإيقاع.

أما الأغاني، فقد استعان المخرج وفقاً لرؤيته التجديدية التي تسيدت العرض بقالب غنائي حداثوي في أحد مشاهد العرض، ألا وهو (الراب) مستنداً إلى مبدأ وأصول هذا النوع من القوالب الغنائية الذي ينشط على ترديد الأغنية بقافية معينة، والتلاعب بالألفاظ دون الالتزام بلحن معين، ناقلاً من خلاله فكرة المشهد ورسالته القيمية مصحوبة بالمتعة والإثارة.

لقد استحق هذا العمل حقاً أن ينال جائزتين في هذا المهرجان وهما جائزة أفضل عرض مسرحي، وجائزة أفضل محرك دمى التي نالتها مصممة الدمى المبدعة (إيمان عمر).

وأخيراً، وفي اليوم الرابع من المهرجان قدَّمت شركة أودونيس للإنتاج الفني/ تونس، عرضاً مسرحياً بعنوان (العجوز) الذي كان من تأليف وإخراج (وليد بن عبد السلام)، وإعداد (حاتم بالحاج حميدة)، والتي فازتبجائزة أفضل سينوغرافيا عرض.

قام نص هذا العمل على حبكة بسيطة في صياغتها، وفكرة قيمية حاملة في ثناياها بُعداً فلسفياً عميقاً تمحور حول بعث الأمل في حياة رجل عجوز فَقَدَ زوجته التي أحبَّها حُبَّاً جَمَّاً، فسقط أسيراً للحُزن واليأس ليعاني الوحدة ومصاعب الحياة اليومية بمفرده، وفجأة يكتشف زهرة كانت قد اشترتها زوجته قبل موتها تكاد أن تموت من العطش، فيسقيها ويرعاها ويعتني بها لتُعيد إليه الأمل في الحياة. إلاَّ أن دهاء المخرج عبر رؤيته الإخراجية المميزة، ساعد على تبسيط وتحويل تعقيد هذه الفكرة الفلسفية، إلى منظومة قيمية سهلة الإدراك من قبل الفئة التي وَجَّهَ لها هذا العرض من خلال اعتماده أسلوب اللعب التفاعلي مع الأطفال من خلال الدمية، فقد زاوج المخرج هنا بين وظيفتين في آن واحد ليخرج بأداء (المحرك الممثل)، فكان محركو الدمى (وعددهم ثلاثة)، مشاركين في العرض بوصفهم ممثلين أيضاً في الوقت ذاته، إذ كانت الدمية وهي من نوع الدمى المنضدية تتحاور مع المحركين وتُملي عليهم طلباتها من جهة، فضلاً عن تفاعلها مع جمهور الأطفال من جهة أخرى. وبهذا جاء النص بصورة تركيبية صورية رائعة حققت انزياحها عن المألوف التقليدي والمتداول في عروض مسرح الدمى، كما برع المخرج (وليد)

على المستوى السينوغرافي في توظيفه للعديد من التقنيات الفنية التي جمعت بين الأصالة والحداثة، منها تقنية مسرح خيال الظل في مشهد الحمّام، فضلاً عن توظيفه للتقنية الرقمية من خلال استخدام جهاز (الداتا شو) الذي عُرِض على شاشته فيلم يعبِّر عن حلم جميل جمع الرجل العجوز مع زوجته في أثناء نومه، في محاولة متفردة لخلق التنويع والإثارة والمتعة في نفوس المتلقين من الأطفال، وقد قام العرض على مشهد واحد فقط، ورغم جماليته التي أثَّثها التنويع التقني والسينوغرافي من ديكور وإضاءة مدروسة، إلاَّ أن بعض مفاصل هذا المشهد جاءت بمعالجات درامية كرَّست أنساقاً دلالية غير تربوية في مدركات المتلقي (الطفل)، وذلك من خلال تعزيزها للسلوك العدواني، فضلاً عن بعض المفردات النابية التي تفوهت بها دمية العجوز.

وبشكل عام، نجد أن هذا العرض قد أفرز نوعاً تغريبياًحداثوياً تفاعلياً رائعاً في عروض مسرح الدمى، ورغم ضيق وصغر الفتحة التي بُثَّ منها العرض، إلاَّ أنها شهدت في حينها ترقباً شديداً وانجذاباً كبيراً من لدن الجمهور المتلقي من الكبار والأطفال.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock