“شكوي‮ ‬المهرج الحكيم ” نص مسرحي للكاتب المغربي عبد الكريم برشيد

شكوي‮ ‬المهرج الحكيم

  • تأليف:عبد الكريم برشيد

1ــ استهـــلال
‮(‬فضاء أسود مفتوح‮ ‬يوحي‮ ‬بخيمة سيرك مصابيح وأضواء وألوان ووجوه مرسومة لمهرجين تتدلي‮ ‬من فوق ستارات بيضاء شفافة تتشكل الستارات علي‮ ‬شكل خيمة بحجم الخشبة كلها عاكسات الضوء ترسم في‮ ‬الوسط حلبة دائرية مضاءة من خلف الكواليس تنبعث أصوات حياة أخري‮ ‬لا نراها نسمع أصوات الحيوانات،‮ ‬وأصوات الطيور،‮ ‬وأصوات فناني‮ ‬السيرك وعماله فجأة،‮ ‬يعم الصمت،‮ ‬وتقرع الطبول،‮ ‬إيذانا ببداية الحفل الفني‮ ‬يدخل رجل وهو في‮ ‬زي‮ ‬مروضي‮ ‬الأسود‮ ‬يصاحب دخوله بقعة ضوء متحركة ويستقبله التصفيق والهتاف وشيء من الصفير‮ ‬يمسك الرجل بيده سوطا،‮ ‬بضرب به في‮ ‬الهواء،‮ ‬وهو‮ ‬يدور داخل الحلبة المضاءة‮)‬
الحكواتــي‮:‬‮ (‬وهو‮ ‬يخاطب مخلوقاته الوهمية‮) ‬اصطفوا‮.. ‬اصطفوا صفا واحدا‮.. ‬الأطول في‮ ‬الخلف والقصير في‮ ‬الأمام‮ .. ‬اصطفوا قلت لكم،‮ ‬ألا تسمعون؟‮ ‬
آه،‮ ‬جميل‮. ‬جميل جدا،‮ ‬والآن ارقصوا‮.. ‬ارقصوا كما تشاءون،‮ ‬رقصا شرقيا أو‮ ‬غربيا لا‮ ‬يهم‮.. (‬موسيقي‮ ‬السيرك‮) ‬نعم‮ ‬،‮ ‬هكذا،‮ ‬ما أجملك أيتها المخلوقات الرائعة‮.. ‬ارقصي‮ ‬يا صوري‮ ‬وكلماتي،‮ ‬ويا أحلامي‮ ‬وأوهامي‮.. ‬جميل‮ .. ‬جميل جدا‮.. (‬تصفيق الجمهور الوهمي‮) ‬
ردوا علي‮ ‬تحية الجمهور‮.. ‬انحنوا بشكل جيد‮.. ‬بدون مبالغة رجاء،‮ ‬نعم نعم،‮ ‬هكذا‮.. ‬رائع‮.. ‬رائع جدا‮..‬
‮(‬يلتفت إلي‮ ‬الجمهور الواقعي‮) ‬عذرا‮.. ‬هذا الكلام لم‮ ‬يكن لكم،‮ ‬ولكنه كان موجها لجمهوري‮ ‬الآخر،‮ ‬والذي‮ ‬لا أراه إلا أنا،‮ ‬أما أنتم،‮ ‬فإنني‮ ‬أقول لكم ما‮ ‬يلي،‮ ‬ورجاء أن تسمعوا،‮ ‬وأن تعوا جيدا ما سأقول لكم،‮ ‬انظروا إلي‮ ‬هذا الزي‮ ‬الذي‮ ‬لم أختره،‮ ‬نعم،‮ ‬هو زي‮ ‬مروضي‮ ‬الأسود‮.. (‬يضحك‮) ‬لقد ارتديته لأنني‮ ‬لم أجد‮ ‬غيره في‮ ‬مخازن هذا المسرح،‮ ‬والذي‮ ‬هو الآن سيرك حتي‮ ‬احتفال آخر،‮ ‬وأعترف لكم بأنني‮ ‬لست مروض أسود،‮ ‬ولا حتي‮ ‬مروضة قطط أو أرانب‮.. (‬يضحك‮) ‬وأكون سعيدا لو أنني‮ ‬أستطيع أن أكون مروض نفسي،‮ ‬وأن أروض هذه اللغة التي‮ ‬لا تسعفني‮ ‬دائما،‮ ‬وأن أروض فني‮ ‬الحقيقي،‮ ‬والذي‮ ‬هو فن القول الجميل وفن الحكي‮ ‬النبيل‮..‬
آه لو أستطيع أن أكون كما أشاء،‮ ‬وأن أجعل الحروف والكلمات والعبارات طيعة علي‮ ‬لساني،‮ ‬وأن أجعل الأسماء والأشياء طيعة بين‮ ‬يدي‮.. ‬
ورغم أن هذا السوط بيدي،‮ ‬فإنني‮ ‬أخافها،‮ ‬وحق الله إنني‮ ‬أخافها‮.. ‬أخاف الكلمات الوحشية،‮ ‬وأخشي‮ ‬أن تفترسني‮ ‬الصور المرعبة،‮ ‬وأن تدمرني‮ ‬الأفكار المدمرة‮.. ‬لهذا فإنني‮ ‬أحاول أن ألعب معها لعبة الأسود ومروض الأسود‮..‬
‮(‬من جديد‮ ‬يفرقع الصوت في‮ ‬الهواء‮) ‬اصطفي‮ ‬أمامي‮ ‬أيتها الكلمات والعبارات والمشاهدات،‮ ‬اصطفي‮ ‬كما أريد،‮ ‬وتشكلي‮ ‬بالشكل الذي‮ ‬أشاء،‮ ‬وانتظمي‮ ‬في‮ ‬منظومة أقوال وأحوال،‮ ‬وكوني‮ ‬قصة وحكاية،‮ ‬وكوني‮ ‬مشهدا ورواية،‮ ‬كوني‮ ‬كما‮ ‬يأمر مولانا الجمال في‮ ‬دنيا الفن والخيال‮.. (‬يضرب بالسوط في‮ ‬الهواء‮.. ‬تظهر في‮ ‬الخلف حروف تسقط من فوق،‮ ‬فيتعقبها الحكواتي‮: ‬كما‮ ‬يتعقب الأطفال الفراشات‮) ‬والآن،‮ ‬يا مخلوقاتي‮ ‬العجيبة،‮ ‬وبعد هذا الاستعراض الجميل،‮ ‬يمكنك أن تنصرفي،‮ ‬وأن تعودي‮ ‬من حيث جئت‮ .. ‬
رجاء صفقوا عليها مرة أخري‮ .. (‬يتعالي‮ ‬التصفيق أكثر‮)‬
‮(‬للجمهور‮) ‬من حقكم أن تسألوا الآن‮: ‬من‮ ‬يكون هذا الرجل الذي‮ ‬يروض الخيال،‮ ‬والذي‮ ‬يشتغل بفقه الجمال،‮ ‬والذي‮ ‬يسافر بهذا الخيال إلي‮ ‬حدود‮ ‬المحال،‮ ‬والتي‮ ‬يبحث دائما عن الجلال وعن الكمال؟
هذا الرجل هو أنا،‮ ‬نعم،‮ ‬وما أنا إلا صانع بين الصناع‮..‬
صانع؟ تسألون صانع ماذا؟
صانع أحلام ومروض أحلام وتاجر أحلام وعالم أحلام في‮ ‬سيرك الأحلام‮.. (‬موسيقي‮ ‬السيرك‮) ‬آه،‮ ‬نسيت أن أخبركم بأن هذا السيرك له اسمان‮: ‬الأول هو سيرك الأحلام
والثاني؟
هو سيرك الأوهام‮..‬
وبين حد الأحلام وحد الأوهام أعيش أنا،‮ ‬وتعيش معي‮ ‬كل أسمائي‮ ‬ومخلوقاتي،‮ ‬وأكون سعيدا‮ ‬يا أحبتي‮ ‬لو أستطيع أن أقتسمها معكم،‮ ‬أقتسم معكم الأحلام والأوهام،‮ ‬وأقتسم الخيال والاحتفال‮.. ‬
أنا السيد‮ ‬الحكواتي‮:‬،‮ ‬وأنا فعل الحكي،‮ ‬وأنا كل الحكايات والروايات‮.. ‬حكواتي‮ ‬من هذا الزمان،‮ ‬لقد ضاقت بي‮ ‬كل البنايات والساحات،‮ ‬ولم تسع أحلامي‮ ‬وأوهامي‮ ‬إلا هذه الخيمة الكبيرة،‮ ‬انظروا إليها،‮ ‬هي‮ ‬خيمة بسعة الوجود وبحجم الدنيا وبعمق الخيال اللامحدود‮ (‬وهو‮ ‬ينصت إلي‮ ‬الجمهور‮) ‬
آه‮.. ‬تسألون‮.. ‬هذا السيرك أين‮ ‬يقع؟
‮(‬يحك رأسه‮) ‬أين‮ ‬يقع‮ ‬يا رأسي،‮ ‬أين‮ ‬يقع؟ اسعفيني‮ ‬يا كلماتي‮ ‬التي‮ ‬روضتها،‮ ‬أو خيل لي‮ ‬أنني‮ ‬روضتها‮.. ‬
آه‮.. ‬وجدتها‮.. ‬اسمعوا‮.. ‬لن أقول لكم بأنه‮ ‬يقع في‮ ‬اللاموقع،‮ ‬وبأنه موجود في‮ ‬اللاوجود،‮ ‬وبأنه كائن في‮ ‬اللامكان‮.. ‬كل هذا لن أقوله،‮ ‬ولكنني‮ ‬ـ مع ذلك ـ سأقول ما‮ ‬يشبهه‮.. ‬
‮(‬وهو‮ ‬يتأمل المكان حوله‮) ‬إنني‮ ‬أعترف بأنه‮ ‬يصعب علي‮ ‬أن أحدد لكم حدود هذا المكان‮ ‬
ويصعب علي‮ ‬أن أعطيه اسمه ورسمه وعنوانه،‮ ‬وإنني‮ ‬أطلب منكم كلكم ـ دام فضلكم ـ أن تساعدوني،‮ ‬وأن تعطوا لهذا المكان الاسم الذي‮ ‬تريدون،‮ ‬وأن تمنحوه الرسم الذي‮ ‬تتخيلون،‮ ‬أما أنا،‮ ‬فإنه‮ ‬يكفيني‮ ‬أن أقول لكم الكلمة التالية‮: ‬
إن هذا المكان‮ ‬يختزل كل الأمكنة،‮ ‬وهو مكان ليس به شرق ولا‮ ‬غرب،‮ ‬وليس به شمال ولا جنوب،‮ ‬وهو مكان مفتوح كالسماء،‮ ‬وهو فضاء حر كالريح والهواء
أما أنا‮.. ‬الحكواتي‮:‬‮ ‬الجوال،‮ ‬فماذا‮ ‬يمكن أن أقول لكم عني؟‮ ‬
أنا رجل من الناس‮.. ‬رجل‮ ‬يختزل كل الرجال‮. ‬من قبل كنت طفلا،‮ ‬وإلي‮ ‬اليوم مازالت طفلا،‮ ‬وسأبقي‮ ‬طفلا إلي‮ ‬ما شاء الله،‮ ‬ومن كل الأمراض لا أخشي‮ ‬إلا مرضا واحدا،‮ ‬والذي‮ ‬هو مرض الشيخوخة،‮ ‬وقانا الله وإياكم من هذا المرض الخبيث‮.. (‬صمت‮)‬
أنا حكواتي،‮ ‬وصناعتي‮ ‬هي‮ ‬أن أتكلم دائما،‮ ‬وأن أتقن فن الحكي‮ ‬والكلام،‮ ‬وإنني‮ ‬وفي‮ ‬لجدتي‮ ‬الحكواتي‮:‬ة الأولي،‮ ‬والتي‮ ‬قالت لي‮ ‬يوما‮.. ‬اسمعوا ما قالت لي‮: ‬
صوت خارجي‮: ‬ارفع صوتك عاليا وتكلم‮.. ‬تكلم‮ ‬يا ولدي‮ ‬إذا كان لك كلام أبلغ‮ ‬من الصمت،‮ ‬وإلا‮.. ‬فلذ بالصمت الناطق،‮ ‬ودع مولانا الصمت وحده‮ ‬يتكلم،‮ ‬وبلاغة الصمت أحيانا ليس كمثلها شيء‮.. ‬
الــــحـكواتــي‮:‬‮ ‬مهنة الحكي‮ ‬مخيفة ومرعبة‮ ‬يا جدتي‮..‬
الحكي‮ ‬ليس مهنة،‮ ‬لأنه ظل الوجود وظل الحياة‮ ‬يا ولدي‮.. (‬صمت‮) ‬احرص علي‮ ‬أن تكون أنت هو أنت وألا تكون‮ ‬غيرك،‮ ‬قل دائما ما تؤمن به وآمن بما تقوله،‮ ‬وافعل ما تفكر فيه وفكر في‮ ‬كل ما تفعله،‮ ‬وكن صادقا في‮ ‬القول والفعل،‮ ‬وفي‮ ‬الحلم والوهم،‮ ‬وتحدث إلي‮ ‬الناس بلغة الناس في‮ ‬كل ما‮ ‬يهم الناس‮.. ‬
الــــحـكواتــي‮:‬‮ ‬كان هذا صوت جدتي‮ ‬شهرزاد الأولي،‮ ‬االمرأة التي‮ ‬قهرت الطغيان بسحر الكلام،‮ ‬واالتي‮ ‬علمت الإنسان بأنه لا سلطة تعلو فوق سلطة الكلام‮.. ‬
إخوتي‮ ‬
انتهي‮ ‬النفس الأول‮.. ‬وهذا الكلام هو أول الكلام،‮ ‬ألقاكم بعد الفاصل‮ .. ‬فابقوا معي‮ .. (‬يخرج‮ .. ‬ظلام وموسيقي‮) ‬
2 ‮-‬خيمة بحجم الدنيا‮..‬
‮(‬تعود الإضاءة‮.. ‬يدخل الحكواتي‮: ‬من جديد وهو بنفس زيه الأول،‮ ‬يدفع مشجبا متحركا علقت عليه بعض الأزياء المسرحية‮)‬
الحكواتــــــي‮:‬‮ ‬هذا مساء‮ ‬يوم آخر،‮ ‬من نفس عمر هذا الاحتفال المسرحي‮.. ‬
انظروا‮.. ‬هو مساء‮ ‬يوم تضيئه مصابيح النجوم التي‮ ‬في‮ ‬السماء
‮ ‬وتضيئه الأعمدة الكهربائية التي‮ ‬في‮ ‬الأرض‮ ‬
ويضيئه بعض نجوم الفن الجميل‮.. ‬من أمثال حضرتنا‮.. ‬
نعم،‮ ‬هو‮ ‬يوم‮ ‬يشبه كل الأيام،‮ ‬ويختلف عن كل الأيام‮.. ‬يشبهها في‮ ‬أشياء،
ويختلف عنها في‮ ‬أشياء،‮ ‬وسبحان مبدل الأشياء،‮ ‬وسبحان مبدل الليالي‮ ‬والأيام‮..‬
إخوتي‮.. ‬لقد عدت إليكم،‮ ‬ومعي‮ ‬هذه المرة حكاية جديدة،‮ ‬ومع هذه الحكاية شخصيات مسرحية حية،‮ ‬ولقد وفرت لها عدة الشغل كما ترون،‮ ‬انظروا،‮ ‬هذه هي‮ ‬ملابسها التي‮ ‬سوف تحتاج إليها لاحقا،‮ ‬لقد أخرجت من خيالي‮ ‬رسوما،‮ ‬وأعطيتها أسماء،‮ ‬وسوف ألبسها هذه الأزياء حتي‮ ‬تكون كما تشاء‮.. ‬كما تشاء هي،‮ ‬أو كما أشاء أنا،‮ ‬أ و كما تشاء هذه المسرحية؟‮ ‬
لست أدري‮.. ‬واالله لست أدري‮.. ‬
أنا حكواتي‮ ‬حقا،‮ ‬ولكنني‮ ‬لست بطل حكاياتي،‮ ‬ومهمتي‮ ‬هي‮ ‬أن أحكي‮ ‬وأروي،‮ ‬وأن أبقي‮ ‬بعيدا جدا،‮ ‬وأن أظل في‮ ‬الظل،‮ ‬أما دورها هي،‮ ‬وأعني‮ ‬شخصياتي،‮ ‬فهو أن تعيش حياتها،‮ ‬وأن ترسم مسارها‮.. ‬تعيشه كما تشاء هي،‮ ‬أو كما‮ ‬يشاء لها مسار هذه الحياة المسرحية الغريبة؟‮ ‬
مرة أخري‮ ‬أقول لكم‮: ‬
لست أدري‮.. ‬ويسعدني‮ ‬أنني‮ ‬لا أدري‮ ‬كثيرا من الأشياء،‮ ‬خصوصا‮ ‬تلك التي‮ ‬لا ترضيني‮ ‬ولا تسعدني‮..‬
‮(‬يأخذ من المشجب زيا مسرحيا ويتأمله‮) ‬صاحب هذا الزي‮ ‬هو بطلي‮ ‬في‮ ‬هذه الحكاية،‮ ‬وبطلي‮ ‬له مضاعفه الذي‮ ‬هو امتداده،‮ ‬وهو وجهه الآخر،‮ ‬وهو زيه وأقنعته،‮ ‬ولقد أتيت بهذه البطل من أدغال خيالي،‮ ‬ولقد روضته حتي‮ ‬أصبح مثل نسيم الصباح،‮ ‬نعم،‮ ‬هو نسيم عليل‮ ‬يأتي‮ ‬بعد أن كان من قبل عاصفة أو كان زوبعة،‮ ‬ولهذا فقد أعطيته الاسم الذي‮ ‬يليق به،‮ ‬وأسميته‮ .. ‬فعلا،‮ ‬أسميته نسيم الوسيم‮ .. (‬موسيقي‮ ‬ترحيبية‮) ‬
‮(‬وقع خطوات أنثوية تقترب‮) ‬هس‮.. ‬هذا هو‮.. ‬الرجل الآخر‮ .. ‬نعم هذا هو‮.. ‬وهذه هي‮ ‬خطواته الشاردة والحائرة في‮ ‬حارات هذه المدينة الواسعة وفي‮ ‬دروبها الضيقة‮.. (‬صمت‮) ‬
آه‮ .. ‬تعرفون بلا شك،‮ ‬نحن في‮ ‬حر هذه المدن الخانقة نحتاج دائما إلي‮ ‬نسمة‮.. ‬نسمة هواء بحجم امرأة حالمة أو بحجم ولد حالم‮.. ‬أليس كذلك؟
هو الآن هناك،‮ ‬إنني‮ ‬أراه ولا‮ ‬يراني،‮ ‬أراه ضائعا وتائها في‮ ‬ساحة من ساحات هذه المدينة‮.. ‬لقد قادته إليها قدماه وهو لا‮ ‬يدري‮.. ‬وهذه الساحة هي‮ ‬غير كل تلك الساحات الأخري‮ ‬التي‮ ‬تعرفون‮.. (‬صمت‮) ‬
تسألون أية ساحة؟‮ ‬
ساحة‮ ‬الحرية مثلا‮.. ‬
أو ساحة التحرير‮. ‬
أو ساحة التغيير العجيبة‮.. ‬
أو الساحة الحمراء‮.. ‬
أو تلك الساحة التي‮ ‬كانت في‮ ‬يوم من الأيام خضراء‮ ‬
أو ساحة جامع الفنا في‮ ‬المدينة الحمراء‮ ..(‬صمت‮) ‬
تسألونني‮ ‬عن اسم هذه الساحة؟‮ ‬
اسمها‮ ‬يا سادة‮ ‬يا كرام ساحة الفرح‮ .. ‬وربما لأجل هذا الاسم الجميل جاءها الولد نسيم‮ .. ‬جاءها‮ ‬يبحث عن لحظة فرح‮ .. (‬موسيقي‮ ‬السيرك‮.. ‬تصفيق وتهليل وفرح طفولي‮) ‬
تخيلوا معي‮.. ‬في‮ ‬وسط هذه الساحة نصبت خيمة‮.. ‬خيمة كبيرة جدا‮.. ‬أكبر مما تتصورون وتتخيلون‮.. ‬وهذه الخيمة الملونة والمضاءة،‮ ‬هي‮ ‬خيمة سيرك‮ .. ‬سيرك الفرح‮.. (‬موسيقي‮ ‬السيرك‮) ‬
نعم‮.. ‬هذا هو اسمه‮.. ‬سيرك الفرح في‮ ‬ساحة الفرح‮.. ‬في‮ ‬مدينة الفرح،‮ ‬في‮ ‬قارة الفرح،‮ ‬في‮ ‬عالم الفرح‮.. ‬في‮ ‬دنيا الفرح‮ .. ‬
‮(‬يضحك‮) ‬آه‮.. ‬ليتني‮ ‬أكون صادقا‮ ‬يا إخوتي،‮ ‬وتكون بعض العناوين صادقة،‮ ‬وتكون كل الأسماء صادقة أيضا‮.. (‬صمت‮) ‬مصيبة هذا العالم أنه لا‮ ‬يمكن أن‮ ‬يكون جميلا،‮ ‬بشكل كلي‮ ‬وحقيقي،‮ ‬إلا في‮ ‬الأحلام والأوهام،‮ ‬وفي‮ ‬الإعانات الإشهارية أيضا،‮ ‬وصناعة الإعلان والإعلام ليست صناعتي‮.. ‬
‮(‬وهو‮ ‬يتأمل الخيمة الوهمية بإعجاب واندهاش‮) ‬
يمكنكم أن تسألوني‮ ‬ماذا بداخل هذه الخيمة‮.. ‬فهذا من حقكم‮.. ‬
اسمعوا‮ .. ‬بداخل هذه الخيمة‮ ‬يا إخوتي‮ ‬أرواح وأجساد ونفوس حية‮.. ‬وتحت أضوائها الكاشفة فنانون وبهلوانيون،‮ ‬وفي‮ ‬حلباتها الدائرية مهرجون بأزياء‮ ‬غريبة وعجيبة‮.. (‬صمت‮) ‬
تسألون عن صناعتهم؟‮ ‬
صناعتهم الفرح‮.. ‬نعم‮.. ‬الفرح الصادق‮.. ‬ويؤسفني‮ ‬أن أقول لكم،‮ ‬بأن هذه الصناعة اليوم هي‮ ‬من أندر الصناعات ومن أتعسها،‮ ‬وهي‮ ‬معرضة للانقراض‮.. ‬ويحزنني‮ ‬أن‮ ‬يكون صناع الفرح أيضا معرضين للانقراض‮..‬
‮(‬يتعالي‮ ‬صوت ضحك الأطفال،‮ ‬ويتعالي‮ ‬صخبهم الطفولي‮) ‬هل سمعتم؟ إنهم‮ ‬يضحكون‮.. ‬يضحكون بصدق‮.. ‬لأنهم أطفال،‮ ‬وليت كل الناس كانوا‮ ‬
مثلهم أطفالا،‮ ‬ولم‮ ‬يضيعوا زمنهم الحقيقي‮ ‬في‮ ‬زحمة هذه المدن الضائعة‮.. (‬صمت‮)‬
آه‮ .. ‬ما أجمل أن تكون سخيا،‮ ‬مثل سخاء أمنا الحياة،‮ ‬ومثل سخاء أختنا الأرض،‮ ‬وأن تتقن فن العطاء،‮ ‬وأن تجود بأعز ما‮ ‬يمكن أن‮ ‬يعطي‮.. (‬صمت‮) ‬
بعض نجوم الفن‮ ‬يسألونني‮: ‬ماذا‮ ‬يمكن أن نعطي‮ ‬ونحن لا نملك إلا أرواحنا؟‮ ‬
وأقول لهم‮.. ‬أرواحنا‮ ‬يا أحبتي‮ ‬هي‮ ‬أعز ما‮ ‬يمكن أن‮ ‬يعطي،‮ ‬نعم،‮ ‬وهي‮ ‬أغلي‮ ‬ما‮ ‬يمكن أن‮ ‬يهدي‮.. (‬يصبح وقع الخطوات واضحا أكثر مما‮ ‬يدل علي‮ ‬أن صاحبها‮ ‬يقترب أكثر،‮ ‬ينظر باتجاه الكواليس في‮ ‬فرح،‮ ‬موسيقي‮ ‬بإيقاعات راقصة وأضواء بكل الألوان‮)‬
3 ــ مولد شخصية مسرحية اسمها‮..‬
‮(‬يدخل نسيم وهو رجل في‮ ‬جسد طفل،‮ ‬يخطو بخجل شديد‮)‬
نـســيــــم‮:‬‮ ‬يا الله‮ .. ‬أهذا هو أنت؟‮ ‬
الحكواتي‮:‬‮ ‬أتعرفني‮ ‬يا ولدي؟
نـســيــــم‮:‬‮ ‬ولا أعرف أحدا كما أعرفك أنت‮..‬
الحكواتي‮:‬‮ ‬آه‮.. ‬مازال الخير في‮ ‬الدنيا إذن‮.. ‬وأنا التي‮ ‬ظننت أن كل أحبابي‮ ‬نسوني‮..‬
نـســيــــم‮:‬‮ ‬أنت‮ ‬الحكواتي‮:‬‮ ‬الذي‮..‬
الحكواتي‮:‬‮ ‬نعم،‮ ‬أنا‮ ‬الحكواتي‮:‬‮ ‬الذي‮..‬
نـســيــــم‮:‬‮ ‬أنت التي‮ ‬أخرجتني‮ ‬من عالمي،‮ ‬وأدخلتني‮ ‬إلي‮ ‬عالم الناس‮..‬
الحكواتي‮:‬‮ ‬كلنا أخرجتنا الصدفة الحكيمة‮ ‬يا ولدي‮..‬
نـســيــــم‮:‬‮ ‬وأنت التي‮ ‬سميتني‮ ‬باسمي،‮ ‬وقلت لي‮ ‬كن نسيم‮..‬
الحكواتي‮:‬‮ ‬نعم،‮ ‬وها أنت الآن ـ ما شاء الله ـ نسمة رقيقة بين كل رفاقك وجيرانك وأخواتك النسمات‮..‬
نـســيــــم‮:‬‮ ‬وماذا تصنع نسمة صغيرة وعليلة في‮ ‬عالم العواصف والزوابع‮ ‬يا سيدتي‮ ‬الحكواتي؟
الحكواتي‮:‬‮ ‬تصنع الشيء الكثير،‮ ‬صدقني،‮ ‬فكل العواصف والزوابع عابرة وراحلة‮ ‬يا ولدي،‮ ‬وغدا سيتغير كل شيء،‮ ‬ولن‮ ‬يبقي‮ ‬علي‮ ‬هذه الأرض إلا أنت‮.. ‬أنت وحدك ولا أحد سواك‮..‬
نـســيــــم‮:‬‮ ‬ما أنا إلا حلم من أحلامك‮ ‬يا سيدي،‮ ‬أنت صنعته،‮ ‬وأنت اقترحته علي‮ ‬الناس،‮ ‬لقد أخرجتني‮ ‬من الظلمة إلي‮ ‬النور،‮ ‬هكذا قلت لي،‮ ‬أتذكر هذا أم نسيته؟
الحكواتي‮:‬‮ ‬نعم أذكره‮ ‬يا ولدي،‮ ‬ومن كان حكواتيا مثلي‮ ‬لا‮ ‬يمكن أن‮ ‬ينسي‮ ..‬
نـســيــــم‮:‬‮ ‬ولقد بحثت عن هذا النور‮ ‬يا سيدي،‮ ‬بحثت عنه في‮ ‬كل مكان وزمان،‮ ‬وما وجدته إلا في‮ ‬قلبي‮ ‬وروحي‮.. ‬
الحكواتي‮:‬‮ ‬لا أظنك تجهل أنني‮ ‬أنا من أوجدتك‮.. ‬
نسـيـــــم وليتك ما وجدتني‮ ‬يا سيدي‮ ‬ومولاي
الحكواتي‮:‬‮ ‬لقد أوجدتك من فراغ‮ ‬ومن عدم،‮ ‬وهذا ـ لو تعلم ـ ليس بالأمر الهين‮..‬
نـســيــــم‮:‬‮ ‬آه‮.. ‬الوجود الحافي‮ ‬وحده لا‮ ‬يكفي‮..‬
الحكواتي‮:‬‮ ‬وماذا تطلب أكثر‮ ‬يا نسيم؟
نـســيــــم‮:‬‮ ‬ماذا أطلب؟ أطلب حريتي‮ ‬يا سيدي،‮ ‬فبهذه الحرية أكون،‮ ‬وبدونها لا‮ ‬يمكن أن أكون‮..‬
الحكواتي‮:‬‮ ‬هذا حقك في‮ ‬الوجود‮ ‬يا ولدي،‮ ‬وإنني‮ ‬أبارك طلبك هذا وأقول لك‮: ‬كن من شئت،‮ ‬وافعل بحياتك ما تريد،‮ ‬وسر في‮ ‬الطريق الذي‮ ‬تختار،‮ ‬فأنت اليوم حر‮ ‬يا نسيم‮.. ‬نعم،‮ ‬أنت حر مثل نسمة الصباح‮..‬
نـســيــــم‮:‬‮ ‬وأول شيء أريده هو أن أكون مثلك‮..‬
الحكواتي‮:‬‮ ‬تكون مثلي؟
نـســيــــم‮:‬‮ ‬نعم،‮ ‬وأن أتفوق عليك أيضا‮..‬
الحكواتي‮:‬‮ ‬الله‮ ‬يكثر خيرك‮..‬
نـســيــــم‮:‬‮ ‬وبغير هذا فإنه لا‮ ‬يمكن أن‮ ‬يكون لحريتي‮ ‬أي‮ ‬معني،‮ ‬وسأكون مجرد نسخة منك‮..‬
الحكواتي‮:‬‮ ‬ثق‮ ‬يا ولدي‮ ‬بأنه لا شيء‮ ‬يشغلني‮ ‬اليوم سوي‮ ‬أن‮ ‬يكون لوجودك معني،‮ ‬وأن‮ ‬يكون لحريتك معني‮..‬
نـســيــــم‮:‬‮ ‬أريد أن أكون حكواتيا‮ ‬يا سيدي،‮ ‬وأن أصنع لي‮ ‬شهرة تفوق شهرة جدتك شهرزاد‮..‬
الحكواتي‮:‬‮ ‬هذا طموح مشروع‮ ‬يا ولدي،‮ ‬وبالنسبة إلي،‮ ‬فإنه لا اعتراض لي‮ ‬عليه‮..‬
نـســيــــم‮:‬‮ ‬أريد أن أتعلم فن الحكي‮ ‬يا سيدي‮..‬
الحكواتي‮:‬‮ ‬تعلم‮..‬
نـســيــــم‮:‬‮ ‬وأن أتقن صناعة المحاكاة‮..‬
الحكواتي‮:‬‮ ‬وفقك الله‮..‬
نـســيــــم‮:‬‮ ‬وإنني‮ ‬واثق بأنني‮ ‬سأحدث ثورة كبيرة وخطيرة في‮ ‬عالم الحكي‮ ‬والمحاكاة،‮ ‬أليس هذا هو رأيك أنت أيضا؟
الحكواتي‮:‬‮ (‬بلهجة ساخرة‮) ‬أنا؟ هو نفس رأيي‮ ‬بلا شك‮..‬
نـســيــــم‮:‬‮ ‬وقبل كل هذا،‮ ‬فإنني‮ ‬أريد أن أتعلم الفن الأخطر‮ ‬يا سيدي‮..‬
الحكواتي‮:‬‮ ‬وما هو هذا الفن الأخطر؟
نـســيــــم‮:‬‮ ‬هو فن العيش الحق‮ ‬يا سيدي‮ ‬ومولاي‮..‬
الحكواتي‮:‬‮ ‬الآن فقط،‮ ‬قلت كلاما حكيما ومعقولا‮ ‬يا نسيم‮.. ‬
نـســيــــم‮:‬‮ ‬ينبغي‮ ‬أن أعيش حياتي‮ ‬كاملة‮ ‬غير منقوصة،‮ ‬من ألفها إلي‮ ‬يائها‮..‬
الحكواتي‮:‬‮ ‬ليس بعد الياء شيء،‮ ‬والياء آخر الحروف‮..‬
نـســيــــم‮:‬‮ ‬يا سبحان الله،‮ ‬كل شيء له نهاية‮ ‬ينتهي‮ ‬عندها‮.. ‬حتي‮ ‬الحروف،‮ ‬وما رأيك لو أضيف أنا للحروف المعروفة حرفا جديدا؟
الحكواتي‮:‬‮ ‬أحيانا،‮ ‬الزيادة في‮ ‬الشيء نقصان‮ ‬يا ولدي،‮ ‬ولكل شيء حدود تحده،‮ ‬وكل ما‮ ‬يبتدئ اليوم،‮ ‬لابد أن‮ ‬ينتهي‮ ‬غدا‮.. ‬
نـســيــــم‮:‬‮ ‬سبحان الله،‮ ‬أخبرني‮ ‬أيها‮ ‬الحكواتي‮:‬‮ ‬الحكيم،‮ ‬في‮ ‬أية مدرسة‮ ‬يمكن أن أتعلم فن العيش؟
الحكواتي‮:‬‮ ‬في‮ ‬أية مدرسة؟ في‮ ‬مدرسة الحياة الابتدائية‮ ..‬
نـســيــــم‮:‬‮ ‬أنا من طموحي‮ ‬يا سيدي‮ ‬أن أرتقي‮ ‬سلم الحياة والإبداع،‮ ‬وأن أصبح مهرجا‮ ..‬
الحكواتي‮:‬‮ ‬حكواتي‮ ‬ومهرج أيضا؟ نعم الطموح‮ ‬يا ولدي‮..‬
نـســيــــم‮:‬‮ ‬مهرج كبير في‮ ‬سيرك كبير جدا‮..‬
الحكواتي‮:‬‮ ‬أنت؟
نـســيــــم‮:‬‮ ‬نعم أنا‮.. ‬ومالي‮ ‬أنا؟ ألا أستحق أن أكون مهرجا محترما في‮ ‬عالم محترم؟
الحكواتي‮:‬‮ ‬فعلا أنت تستحق،‮ ‬ولكن هذا العالم،‮ ‬هو الذي‮ ‬لا‮ ‬يستحق اليوم أن‮ ‬يكون محترما‮..‬
نـســيــــم‮:‬‮ ‬وفي‮ ‬هذا السيرك،‮ ‬أريد أن أضحك بعض الناس علي‮ ‬حماقات كل الناس في‮ ‬عالم الناس‮.. ‬
الحكواتي‮:‬‮ ‬فعلا الإضحاك لم‮ ‬يعد اليوم سهلا،‮ ‬وأصبحت تجارة إبكاء الناس هي‮ ‬وحدها الرائجة‮..‬
نـســيــــم‮:‬‮ ‬أعرف‮.. ‬هو فعل صعب في‮ ‬عالم كل ما فيه صعب،‮ ‬وحتي‮ ‬أنا ولد صعب،‮ ‬ولا شيء‮ ‬يستهويني‮ ‬إلا ركوب الصعاب‮.. ‬إني‮ ‬أحب الحياة‮ ‬يا سيدي،‮ ‬وأكره كل أمراض الحياة،‮ ‬وأري‮ ‬أن الفرح في‮ ‬الحياة،‮ ‬هو وحده روح هذه الحياة،‮ ‬وإنني‮ ‬مقتنع بأن الضحك مثل الهواء،حق مشروع لكل الأحياء‮.. ‬أعرف أن‮ ‬الحكواتي‮:‬‮ ‬الحقيقي‮ ‬هو أنت،‮ ‬وأنه بإمكانك أن تفعل بي‮ ‬ما تشاء‮..‬
الحكواتي‮:‬‮ ‬تأكد بأنني‮ ‬لن أفعل بك إلا ما‮ ‬يرضي‮ ‬الله،‮ ‬ويرضي‮ ‬الحق،‮ ‬ويرضي‮ ‬الجمال والكمال،‮ ‬ويرضي‮ ‬الأدب والفن،‮ ‬ويرضي‮ ‬العلم والفكر وصناعة العيد والاجتفال‮..‬
نـســيــــم‮:‬‮ ‬يا سيدي‮ ‬الحكواتي‮:‬،‮ ‬افعل بي‮ ‬كل ما تريد،‮ ‬فأنت صاحب الأمر والنهي‮ ‬في‮ ‬هذه الاحتفالية المسرحية،‮ ‬وكلمتك فيها هي‮ ‬العليا،‮ ‬ولك أن تنسبني‮ ‬إلي‮ ‬كل أرض،‮ ‬وأن تلحقني‮ ‬بأية مدينة تريد،‮ ‬وأعدك بأنني‮ ‬لن أعترض،‮ ‬وحق الله لن أعترض‮.. ‬انسبني‮ ‬إلي‮ ‬كل مدن العالم،‮ ‬نعم كلها،‮ ‬باستثناء مدينة واحدة منها‮.. ‬مدينة وحدة فقط‮..‬
الحكواتي‮:‬‮ ‬وما هي‮ ‬هذه المدينة الواحدة‮ ‬يا نسيم؟
نـســيــــم‮:‬‮ ‬ما هي‮ ‬هذه المدينة‮ ‬يا نسيم؟ من حقك ن تسألني‮.. ‬هذه المدينة هي‮.. ‬هي‮.. ‬لساني‮ ‬لا‮ ‬يطاوعني‮ ‬يا سيدي‮.. ‬هي‮ .. ‬مدينة حضرموت‮.. ‬أطال الله عمري‮ ‬وعمرك وعمر القارئين والسامعين وعمر كل من قال آمين‮..‬
الحكواتي‮:‬‮ ‬آمين‮.. (‬يضحك‮) ‬اللعنة عليك أيها المجنون الجبان‮..‬
نـســيــــم‮:‬‮ ‬نعم أنا مجنون،‮ ‬مجنون مفتون بالحياة‮ ‬يا سيدي‮ ‬ومولاي،‮ ‬تماما كما أنت عبقري‮ ‬مجنون،‮ ‬فأنا فنان،‮ ‬وأنت فنان،‮ ‬وأعرف أن الجنون فن من الفنون،‮ ‬أو هو أبو كل الفنون‮..‬
الحكواتي‮:‬‮ ‬لقد قلت حضرموت با نسيم‮.. ‬ولكن هل تعرف هذه المدينة؟‮ ‬
نـســيــــم‮:‬‮ ‬أنا أعرفها؟ أعوذ بالله،‮ ‬هي‮ ‬الموت وأنا طالب حياة وكيف‮ ‬يمكن أن نلتقي‮ ‬يا سيدي؟‮ ‬
الحكواتي‮:‬‮ ‬ولكن،‮ ‬هي‮ ‬بالتأكيد تعرفك،‮ ‬تماما كما تعرفني‮ ‬أنا،‮ ‬وتعرف كل واحد منا،‮ ‬وتعرف كل الناس الأحياء في‮ ‬كل زمان ومكان‮..‬
نـســيــــم‮:‬‮ ‬وهذا ما‮ ‬يقلقني‮ ‬ويزعجني‮.. ‬
الحكواتي‮:‬‮ ‬ثق بأنني‮ ‬لن أنسبك إلي‮ ‬هذه المدينة‮ ‬يا نسيم،‮ ‬هل ارتحت الآن؟
نـســيــــم‮:‬‮ ‬نعم ارتحت،‮ ‬ولكن ليس كثيرا،‮ ‬وسأكون سعيدا لو تبحر بي‮ ‬في‮ ‬كل بحور الدنيا‮ ‬يا سيدي‮ ‬الحكواتي‮:‬،‮ ‬في‮ ‬البحر الأبيض،‮ ‬وفي‮ ‬البحر الأسود،‮ ‬وفي‮ ‬البحر الأحمر،‮ ‬وفي‮ ‬البحر الأزرق،‮ ‬وحتي‮ ‬في‮ ‬بحر الظلمات إذا شئت،‮ ‬ولكن فقط ارحمني‮ ‬من الإبحار في‮ ‬ذلك البحر الذي‮ ‬والذي‮..‬
الحكواتي‮:‬‮ ‬أي‮ ‬بحر‮ ‬يا نسيم؟
نـســيــــم‮:‬‮ ‬أي‮ ‬بحر؟ البحر الميت‮.. ‬أطال الله عمري‮ ‬وعمرك وعمر القارئين والسامعين والمتفرجين وكل من قال آمين‮..‬
الحكواتي‮:‬‮ ‬آمين‮.. ‬يا سبحان الله،‮ ‬ما أنت إلا شخصية مسرحية،‮ ‬ومع ذلك فإنك تخاف من الموت‮..‬
نـســيــــم‮:‬‮ ‬الموت‮ ‬يسري‮ ‬علي‮ ‬كل شيء،‮ ‬حتي‮ ‬علي‮ ‬الشجر والحجر،‮ ‬ثم إننا كلنا في‮ ‬هذا المسرح الكبير مجرد شخصيات مسرحية‮.. ‬حتي‮ ‬أنت‮ ‬يا سيدي‮ ‬الحكواتي‮.. ‬
الحكواتي‮:‬‮ ‬حتي‮ ‬أنا؟
نـســيــــم‮:‬‮ ‬نعم،‮ ‬حتي‮ ‬أنت،‮ ‬وحتي‮ ‬هذا الكاتب الذي‮ ‬يكتبنا والذي‮ ‬يسمي‮.. ‬يسمي‮ .. ‬يسمي‮.. ‬نسيت اسمه‮.. ‬ذكرني‮ ‬باسمه رجاء‮..‬
الحكواتي‮:‬‮ ‬اسمه عبد الكريم برشيد‮..‬
نـســيــــم‮:‬‮ ‬نعم،‮ ‬وغدا سيحاسبه الله حسابا عسيرا علي‮ ‬كل ما فعله بنا،‮ ‬وحتي‮ ‬أنت لك نصيب في‮ ‬بعض ذنوبه وجرائمه‮.. ‬
الحكواتي‮:‬‮ ‬ما أنا شخصية مسرحية مثلك‮ ‬يا ولدي‮..‬
نـســيــــم‮:‬‮ ‬اخبريني‮ ‬يا سيدي‮ ‬الحكواتي‮..‬،‮ ‬هل سمعت عن وجود سيرك كبير في‮ ‬ساحة المدينة الكبري؟
الحكواتي‮:‬‮ ‬نعم سمعت‮..‬
نـســيــــم‮:‬‮ ‬يقولون بأن به مهرج عبقري‮ ‬وحكيم،‮ ‬فهل تعرفه‮ ‬يا سيدي‮ ‬الحكواتي؟
الحكواتي‮:‬‮ ‬إنني‮ ‬لا أعرفه معرفة شخصية،‮ ‬ولكني‮ ‬سمعت عنه فقط‮..‬
نـســيــــم‮:‬‮ ‬ما أسعده‮.. ‬هو اليوم موجود في‮ ‬هذه المدينة،‮ ‬ومن بعد،‮ ‬يعلم الله أين سيكون‮..‬
الحكواتي‮:‬‮ ‬ولا أحد‮ ‬يعلم‮ ‬غدا أين سيكون‮..‬
نـســيــــم‮:‬‮ ‬أقلت لا أحد؟ حتي‮ ‬أنت‮ ‬يا سيدي‮ ‬الحكواتي‮:‬؟
الحكواتي‮:‬‮ ‬حتي‮ ‬أنا‮..‬
نسـيــــــم‮: ‬وحتي‮ ‬هذا المؤلف الذي‮ ‬اسمه؟‮ ‬
الحكواتي‮:‬‮ ‬نعم،‮ ‬حتي‮ ‬هذا المؤلف،‮ ‬وحتي‮ ‬كل المؤلفين في‮ ‬كل زمان ومكان‮.. ‬
نـســيــــم‮:‬‮ ‬يا سيدي‮ ‬الحكواتي‮.. ‬إنني‮ ‬أريد أن أري‮ ‬هذا المهرج العبقري‮.. ‬
الحكواتي‮:‬‮ ‬لم تطلب المستحيل‮ ‬يا نسيم‮..‬
نـســيــــم‮:‬‮ ‬ليتني‮ ‬كنت ستطيع أن أطلب المستحيل‮ ‬يا سيدي،‮ ‬يقولون بأنه‮ ‬يضحك العبوس،‮ ‬وبأنه‮ ‬يشفي‮ ‬النفوس،‮ ‬وأريد أن أزوره في‮ ‬مقصورته في‮ ‬السيرك،‮ ‬حتي‮ ‬أتعلم منه،‮ ‬فما رأيك أنت؟
الحكواتي‮:‬‮ ‬أنا؟ ولماذا أنا؟ الرأي‮ ‬رأيك أنت‮ ‬يا صاحبي‮.. ‬هل نسيت بأنك حر كالريح والهواء؟
نـســيــــم‮:‬‮ ‬آه‮.. ‬وكيف أنسي؟
الحكواتي‮:‬‮ ‬إذن ماذا تنتظر؟ الطريق إلي‮ ‬السيرك من هنا‮..‬
نـســيــــم‮:‬‮ ‬قلت من هنا؟ إذن فسأهب أنا من هناك‮.. ‬من الطريق الآخر،‮ ‬فهل لديك مانع؟
الحكواتي‮:‬‮ ‬أنا؟ أبدا لا‮..‬
نـســيــــم‮:‬‮ ‬الرأي‮ ‬رأيي‮ ‬أنا‮.. ‬أنت الذي‮ ‬قلت هذا‮.. ‬ولا تنس بأنني‮ ‬حر كالريح والهواء‮..‬
الحكواتي‮:‬‮ ‬إنني‮ ‬أعطيك ساعة‮ .. ‬ساعة واحدة وليس أكثر،‮ ‬فاذهب وعد إلي‮ ‬قبل أن تنقضي‮ ‬هذه الساعة‮.. ‬هل سمعت؟
نـســيــــم‮:‬‮ ‬ساعة؟ وهل تكفي‮ ‬ساعة واحدة؟
الحكواتي‮:‬‮ ‬وهل هذا العمر كله إلا ساعة واحدة‮ ‬يا نسيم؟ اسمع‮.. ‬عندما أقرع هذا الجرس الصغير،‮ ‬فمعني‮ ‬هذا أنني‮ ‬أدعوك إلي‮ ‬العودة حالا‮.. (‬صوت جرس صغير‮) ‬هل فهمت؟
نـســيــــم‮:‬‮ ‬نعم فهمت‮.. ‬نلتقي‮ ‬بعد ساعة‮ ‬يا سيدي‮..‬
الحكواتي‮:‬‮ ‬ساعة واحدة وليس أكثر‮.. (‬يخرج نسيم فيظلم المسرح كله‮) ‬
4 ــ انتهي‮ ‬الحفل‮.. ‬بدأ الحفل‮.. ‬
‮(‬تعود الإضاءة علي‮ ‬خيمة السيرك من الخارج‮ ‬ينطلق صوت خروج الأطفال من خيمة السيرك مما‮ ‬يدل علي‮ ‬أن الحفل انتهي‮.. ‬يدخل نسيم،‮ ‬يبدو منبهرا بسحر ما‮ ‬يري‮ ‬يتحرك وكأن هناك من‮ ‬يدفعه من الأطفال‮.. ‬يضحك سعيدا بما‮ ‬يسمع وما‮ ‬يري‮) ‬
نـســـيـم‮:‬‮ (‬بخيبة‮) ‬لقد انتهي‮ ‬الحفل‮.. ‬كان أن آتي‮ ‬قبل الآن‮.. ‬ها هم الأطفال‮ ‬يخرجون‮.. ‬إنكم تسمعون فرحهم بلا شك‮.. ‬نعم‮.. ‬للفرح صوت‮ ‬يا أصحابي‮.. ‬صوت قد لا تسمعه بعض الآذان الصماء،‮ ‬ولكن‮ ‬يمكن أن تسمعه كل الأرواح الجميلة والنبيلة‮.. (‬يغمض عينيه‮) ‬
أغمضوا أعينكم مثلي،‮ ‬وحاولوا أن تسمعوا هذه الأصوات الملائكية بأرواحكم،‮ ‬حقا‮ .. ‬هؤلاء الأطفال هم أحباب الله‮..‬
‮(‬يفتح عينيه،‮ ‬ويبدو منتشيا بسحر ما‮ ‬يراه‮) ‬
يا الله‮.. ‬لهذا الفرح لون أيضا،‮ ‬وهذا اللون النوراني‮ ‬قد لا تراه بعض العيون التي‮ ‬في‮ ‬الوجوه،‮ ‬ولكن‮ ‬يمكن أن تراه كل العيون التي‮ ‬في‮ ‬الصدور وفي‮ ‬النفوس‮.. (‬يتعالي‮ ‬صوت ضحك الأطفال‮)‬
لقد كانوا في‮ ‬الحفل‮ ‬يضحكون،‮ ‬وانتهي‮ ‬الحفل ومازالوا‮ ‬يضحكون،‮ ‬وسيذهبون إلي‮ ‬بيوتهم وهم‮ ‬يضحكون،‮ ‬وفي‮ ‬أحلامهم هذه الليلة سيضحكون،‮ ‬وفي‮ ‬أحلامهم في‮ ‬كل ليلة سيظلون‮ ‬يضحكون ويضحكون‮.. ‬آه‮ ‬ما أسعدهم‮.. (‬صمت‮)‬
هذا الذي‮ ‬يخاطبكم هو صاحبكم نسيم‮.. ‬هو أنا،‮ ‬وهذا الإحساس هو إحساسه،‮ ‬وكل هذا الكلام الذي‮ ‬سوف تسمعون هو كلامه‮..‬
انظروا إليه‮.. (‬مشيرا إلي‮ ‬نفسه‮) ‬بعين الخيال طبعا،‮ ‬هو‮ ‬يشبهني‮ ‬وأنا أشبهه،‮ ‬حتي‮ ‬لكأننا توءم خرج من رحم واحد‮ .. ‬إنني‮ ‬أراه واقفا مثل نخلة،‮ ‬وهو عادة لا‮ ‬يكون إلا واقفا،‮ ‬وهو‮ ‬يخاف أن‮ ‬ينام،‮ ‬فيسلمه النوم إلي‮ .. ‬الموت‮.. ‬أعوذ بالله‮.. ‬أنا أقول الموت؟‮ ‬
إنني‮ ‬أحدثكم عنه،‮ ‬مع أنني‮ ‬أنا هو وهو أنا‮.. ‬إنني‮ ‬أتدرب علي‮ ‬أن أصبح حكواتيا مثل صاحبي‮.. ‬
أنظروا‮.. ‬هو الآن‮ ‬يتأمل هؤلاء الأطفال‮.. ‬نعم،‮ ‬هو الآن مثلي‮.. ‬يقول لنفسه نفس ما أقوله لنفسي،‮ ‬ونفس ما أقول لكم من كلام‮.. (‬صمت‮).. ‬استمعوا إليه‮.. ‬إنه‮ ‬يفكر بصوت مرتفع‮..‬
يا الله‮.. ‬أين أنا؟‮ ‬
ومن مع من أنا؟‮ ‬
مع من أنا؟
لقد قادتني‮ ‬قدماي‮ ‬إلي‮ ‬هذه الساحة المدهشة،‮ ‬لأكتشف الفرح في‮ ‬ساحة الفرح،‮ ‬ولأجده مرسوما في‮ ‬هذه الوجوه الصغيرة‮.. ‬لقد أدهشني‮ ‬صدق هذا الفرح،‮ ‬وأدهشني‮ ‬صدق هذا الضحك البريء‮.. (‬يتعالي‮ ‬صخب الأطفال‮) ‬هو لا‮ ‬يشبه ذلك الضحك الآخر،‮ ‬ولا هذه المخلوقات الصغيرة تشبه تلك الكائنات الكبيرة والعالية والمتعالية‮.. ‬
‮(‬يتعالي‮ ‬صوت الضحك من جديد‮) ‬يا الله‮.. ‬هذا ضحك بلا لون‮.. ‬فلا هو ضحك أبيض،‮ ‬مثل ضحك المتفائلين،‮ ‬ولا هو ضحك أسود،‮ ‬مثل ضحك المتشائمين،‮ ‬ولا هو ضحك أصفر،‮ ‬مثل ضحك المنافقين،‮ ‬ولا هو ضحك رمادي،‮ ‬مثل ضحك المتملقين والمجاملين‮.. (‬يتعالي‮ ‬صخب الأطفال‮) ‬
ماذا أقول لكم أيها الأطفال؟‮ ‬
ليتني‮ ‬كنت معكم أنتم ولم أكن مع الآخرين،‮ ‬وليت عمري‮ ‬كان في‮ ‬مثل أعماركم،‮ ‬وليتني‮ ‬كنت أعرف كيف أضحككم،‮ ‬وكيف أضحك معكم،‮ ‬وكيف أستعيد ما ضاع مني،‮ ‬وأن أكون واحدا منكم‮.. ‬
لقد عاد الأطفال الصغار إلي‮ ‬بيوتهم‮.. ‬اصطحبوا أولياءهم وعادوا من‮ ‬
حيث أتوا‮.. (‬صمت‮) ‬
آه‮.. ‬لقد أصبحت ساحة الفرح خاوية وصامتة وحزينة‮ .. ‬هي‮ ‬في‮ ‬صمتها الآن تقول كلاما كثيرا،‮ ‬فحالوا أن تسمعوه‮.. ‬وإذا سمعتموه،‮ ‬حاولوا أن تفهموه،‮ ‬وإذا فهمتموه،‮ ‬حاولوا أن تنقلوه للغائبين ولكل الذين لم‮ ‬يسمعوه‮.. (‬صمت‮) ‬
نسيم الوسيم مازال واقفا في‮ ‬مكانه‮.. ‬
إنه تفكر بصوت مرتفع‮.. ‬
بإمكانكم أن تسمعوا ما‮ ‬يقول‮.. ‬
يكفيكم شيء من الانتباه‮..‬
نــســـــيــــم‮ ‬يا الله‮ .. ‬من عساه‮ ‬يكون هذا الذي‮ ‬أضحك كل هؤلاء الأطفال؟‮ (‬يأتي‮ ‬صوت الحكواتي‮ ‬من بعيد جدا،‮ ‬وكأنه آت من أعماق نفسه‮)‬
الحكواتـــــي‮: ‬‮ ‬أنت أيضا أضحكت بعض الناس‮.. ‬ألا تذكر؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ (‬وهو‮ ‬يكلم الفراغ‮) ‬هذا صوت سيدي‮ ‬الحكواتي‮.. ‬نعم‮.. ‬لقد أضحكتهم،‮ ‬ولكن هذا الضحك‮ ‬يا صاحبي‮ ‬مختلف‮.. ‬مختلف روحا وشكلا‮.. ‬بودي‮ ‬لو أعرف من‮ ‬يكون هذا الذي‮ ‬بيده مفاتيح الفرح الصادق‮.. ‬أتعرفنه أنت أيها الحكواتي؟
الحكواتــــــي‮:‬‮ ‬نعم‮.. ‬أعرفه‮.. ‬ويمكن أن تعرفه أنت أيضا‮.. ‬إنه موجود علي‮ ‬بعد‮ ‬
خطوات‮.. ‬ادخل هذه الخيمة العجيبة،‮ ‬وستجدنه في‮ ‬مقصورته‮.. ‬ادخل‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬نعم‮.. ‬سأدخل‮.. ‬ولكن‮.. ‬من أين أدخل؟
الحكواتـــــي‮: ‬من أين؟ من الباب طبعا‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬وأين هو الباب؟ هذه الخيمة‮ ‬يا صاحبي‮ ‬ليس لها باب،‮ ‬وليس عليها بواب‮..‬
الحكواتــــي‮:‬‮ ‬وهذا من حسن حظك‮.. ‬ادخل‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬وإذا دخلت‮.. ‬هل سأعرف السر؟
الحكواتـــــي‮: ‬‮ ‬أي‮ ‬سر؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬سر صناعة الفرح،‮ ‬وسر من‮ ‬يصنعه،‮ ‬وكيف‮ ‬يصنعه‮..‬
الحكواتـــــي‮: ‬‮ ‬يا ولدي‮..‬صناعة الفرح لا تحتاج إلي‮ ‬سر‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬هذا الزمن صعب وابن كلب،‮ ‬وصناعة الفرح فيه قد تحتاج إلي‮ ‬معجزة حقيقية‮.. ‬معجزة ربانية خارقة‮.. ‬
‮(‬وقع خطوات،‮ ‬يسر بشكل ميمي‮ ‬في‮ ‬مكانه‮) ‬انظر‮ ‬يا صاحبي‮ ‬الحكواتي،‮ ‬إنني‮ ‬أسير الآن في‮ ‬ممر طويل‮.. ‬طويل جدا‮.. ‬أتسمع هذه الأصوات؟‮ (‬أصوات بعض الحيوانات‮) ‬
الحكواتــــي‮:‬‮ ‬نعم‮.. ‬أسمعها‮.. ‬هي‮ ‬أصوات حيوانات السيرك‮.. ‬سر ولا تخف‮ ‬يا نسيم،‮ ‬سر ترعاك بركة جدتي‮ ‬شهرزاد الأولي،‮ ‬واعلم‮ ‬يا صاحبي‮ ‬أن هذه الحيوانات لا تؤذي‮ ‬أحدا‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬إنني‮ ‬أتبين في‮ ‬هذه الأصوات صوت الأسد وصوت النمر وصوت القرد وصوت الفيل وصوت الدب و‮.. ‬صوت الكلب أيضا‮..‬
الحكواتـــــي‮: ‬‮(‬صوت خارجي‮ ‬يأتي‮ ‬من بعيد مصحوب بالصدي‮) ‬وكيف وجدت الخيمة‮ ‬يا نسيم؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬ماذا أقول لك؟ وجدتها هادئة ودافئة وآمنة‮..‬
الحكواتـــــي‮: ‬‮ ‬يا سبحان‮.. ‬أتقول آمنة،‮ ‬وفيها كل هذه الحيوانات المتوحشة؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬هنا‮ ‬يكمن بعض السر‮ ‬يا صاحبي‮ ‬الحكواتي‮.. ‬أن تعيشي‮ ‬مع الناس،‮ ‬ولا تجد الأنس،‮ ‬ولا تجد الأمان،‮ ‬وأن تدخل بيت الحيوانات،‮ ‬وأن تحس بشيء من الرضا وبشيء من الاطمئنان‮.. ‬في‮ ‬هذه المدينة خطأ ما‮ ‬يا صاحبي‮.. ‬وسأعلنها بأعلي‮ ‬صوتي‮.. (‬بصوت مرتفع‮) ‬في‮ ‬هذه المدينة خطأ ما‮..‬
الحكواتــــي‮:‬‮ ‬أيكون معني‮ ‬هذا أن الخارج أكثر وحشية‮ ‬يا نسمة؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬لست أدري‮.. ‬قد‮ ‬يكون أقل إنسانية ونحن لا ندري‮.. ‬أخبرني‮ ‬يا سيدي‮ ‬الحكواتي،‮ ‬ألا‮ ‬يكون وجودي‮ ‬هو الخطأ؟
الحكواتــــي‮:‬‮ ‬قد‮ ‬يكون‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬أكيد أنك قد جئت بي‮ ‬في‮ ‬الزمن الخطأ‮..‬
الحكواتــــي‮:‬‮ ‬ممكن جدا‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬نعم،‮ ‬هو خطأ النسيم أن‮ ‬يكون نسيما في‮ ‬زمن العواصف والزوابع،‮ ‬وأن‮ ‬يكون حلما جميلا في‮ ‬زمن الكوابيس المخيفة والمرعبة‮.. ‬يا الله،‮ ‬ما أقسي‮ ‬أن تعيش الوجود الخطأ،‮ ‬وأن تجد نفسك في‮ ‬المسرحية الخطأ،‮ ‬وأن‮ ‬يدركك زمن الخطأ‮.. ‬
الحكواتــــي‮:‬‮ ‬افعل شيئا‮ ‬يا نسيم وكفاك تفلسفا،‮ ‬أين أنت الآن؟
إنني‮ ‬أقف أمام مقصورة مهرج السيرك‮ ‬يا صاحبي‮ ‬الحكواتي‮..‬
الحكواتــــي‮:‬‮ ‬جميل‮ .. ‬جميل جدا‮.. ‬لقد وصلت إذن‮.. ‬حمدا لله علي‮ ‬سلامتك‮.. ‬اطرق الباب إذن‮.. ‬ماذا تنتظر؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬كيف أطرق الباب‮ ‬يا صاحبي؟ لقد قلت لك بأن هذه المقصورة العجيبة ليس لها باب‮..‬
الحكواتـــــي‮: ‬‮ ‬ليس لها باب؟ لم أفهم‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬ليس أمامي‮ ‬غير حجاب‮ ‬يا صاحبي‮.. ‬حجاب من ثوب ملون بكل الألوان‮..‬
الحكواتـــــي‮: ‬حجاب؟ ارفعه وادخل‮ .. ‬وقبل هذا،‮ ‬صفق بيديك لتعلن عن وجودك‮.. (‬تصفيق‮) ‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬ألا تسمع ما أسمع أنا‮ ‬يا صاحبي‮ ‬الحكواتي؟
الحكواتــــي‮:‬‮ ‬وماذا تسمع أنت؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬كأنني‮ ‬أسمع صوت بكاء‮ ..‬
الحكواتـــــي‮: ‬‮ ‬بكاء؟ بكاء‮ ‬طفل رضيع؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬لا‮ .. ‬بل هو بكاء رجل‮ ‬يا صاحبي‮..‬
الحكواتـــــي‮: ‬‮ ‬ومتي‮ ‬كان الرجال‮ ‬يبكون‮ ‬يا نسيم؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬متي؟ لست أدري‮.. (‬صوت أنين مكتوم‮) ‬
الحكواتــــي‮:‬‮ ‬هل دخلت‮ ‬يا نسيم؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬ليس بعد‮..‬
الحكواتــــي‮:‬‮ ‬ماذا تنتظر؟ ارفع الحجاب وادخل‮.. ‬ادخلي‮.. ‬وسوف تندهش لا محالة،‮ ‬فما نعرفه من الخارج ليس هو نفس ما‮ ‬يمكن أن نعرفه من الداخل‮..‬
‮(‬صوت أقدام تتقدم ببطء وتردد،‮ ‬ونسيم‮ ‬يتحرك في‮ ‬مكانه بحركات ميمية‮. ‬صوت الأنين‮ ‬يصبح واضحا أكثر‮.. ‬يقترب نسيم من مصدر الصوت‮)‬
5ــ مع المضحك الذي‮ ‬يبكي‮..‬
‮(‬يجد نسيم نفسه بقرب مهرج‮ ‬يجلس أمام مرآة مضاءة من كل الجهات،‮ ‬يقترب منه بخطوات بطيئة المهرج منشغل بمسح الماكياج الذي‮ ‬علي‮ ‬وجه‮) ‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ (‬لنفسه‮) ‬يا الله‮.. ‬أيكون هذا الجسد الضئيل والعليل هو جسده؟
المهــــــــرج‮:‬‮ (‬يلتفت حوله ليري‮ ‬صاحب الصوت‮) ‬قلت جسده؟ جسد من؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬جسد صانع الفرح‮.. ‬أكاد لا أراه‮ ‬يا سيد الحكمة‮ .. ‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬ومتي‮ ‬كانت الروح تري‮ ‬يا ولدي؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ (‬وكأنه‮ ‬يكلم نفسه‮) ‬إنه جسد طفل صغير بملامح رجل عجوز‮ .. ‬هو جسد ضئيل ونحيل جدا‮.. ‬إنني‮ ‬أراه الآن‮ ‬غارقا في‮ ‬حضن كرسي‮ ‬كبير‮ .. (‬صوت حشرجة بكاء‮) .. ‬يا الله‮.. ‬كأنني‮ ‬سمعته‮ ‬يبكي،‮ ‬فعلا،‮ ‬إنه‮ ‬يبكي‮.. ‬مضحك الأطفال‮ ‬يبكي‮..‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬أقلت إنه‮ ‬يبكي‮ ‬يا ولدي؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬نعم‮.. ‬من شدة الألم‮ ‬يبكي‮ ‬بلا شك‮ .. ‬بجانبك علب أدوية كثيرة‮.. ‬بأحجام وألوان كثيرة‮.. ‬يا سبحان الله‮.. ‬لقد قالوا بأنك تصنع الفرح‮ ‬يا سيدي‮.. ‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬لا أحد‮ ‬يصنع الفرح إلا واهب الفرح‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬وقالوا بأنك تضحك القلوب البريئة،‮ ‬مع أنك لا تملك إلا جسدا مدمرا ومخربا‮.. (‬صمت‮) ‬
المهــــــــرج‮:‬‮ (‬يضحك بصعوبة شديدة‮) ‬يضع سره في‮ ‬أضعف مخلوقاته‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ (‬يكلم نفسه‮) ‬هو الآن جالس أمام مرآته‮.. ‬بيده مناديل ورقية بيضاء‮.. ‬يمسح بها عرقه المختلط بأصباغ‮ ‬وجهه‮.. ‬لقد اقتحمت عليك وحدتك،‮ ‬وكسرت سكون هذا المكان،‮ ‬وأخرجتك بوجودي‮ ‬من عزلتك‮.. ‬
يا سيدي‮.. ‬يا سيدي‮.. ‬إنني‮ ‬لا أكاد أصدق نفسي‮..‬أتكون أنت هو الذي‮..‬؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬نعم‮.. ‬أنا هو ذلك القزم الذي‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬ما هكذا تصورتك‮ ‬يا سيدي‮..‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬قل بأن كل شيء ممكن‮ ‬يا صاحبي‮ ‬ولا تتعب نفسك‮..‬
‮ ‬صعب جدا أن أصدق عيني‮..‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬صدقيهما‮ ‬يا ولدي‮.. ‬صدقهما ولن تخسر شيئا‮..‬
نسمـــــــــــة‮ ‬لا‮ .. ‬لا‮ .. ‬غير ممكن‮.. ‬إنني‮ ‬أراك تبكي‮ ‬يا سيدي‮..‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬نعم‮.. ‬إنني‮ ‬في‮ ‬عيونك الآن أبكي‮..‬
نسمـــــــــــة والله ما هكذا تصورتك‮ ‬يا سيدي‮.. ‬المهرج الضاحك‮ ‬يبكي؟ من أسعد كل أطفال هذه المدن الحزينة‮ ‬يبكي‮..‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬إنني‮ ‬أبكي‮ ‬يا ولدي‮.. ‬فرحا أبكي،‮ ‬ودموع الفرح أصدق كل الدموع،‮ ‬وأنبل كل الدموع‮.. ‬
نسمـــــــــــة وما الذي‮ ‬أبكاك‮ ‬يا سيدي؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬ماذا أقول؟ السقم أبكاني،‮ ‬والداء أوجعني،‮ ‬والظلم أتعبني،‮ ‬وهذا الزمن ما أنصفني‮.. ‬فهل أنصفك أنت‮ ‬يا ولدي؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬أنا؟ لست أدري‮.. (‬صمت‮) ‬ومع ذلك تضحك الأطفال الصغار‮ ‬يا سيدي‮…‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬وأضحك الأطفال الكبار أيضا،‮ ‬فهل أنت منهم؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬ليتني‮ ‬أكون منهم‮.. (‬صمت‮) ‬إنني‮ ‬أراك مريضا ومتعبا‮..‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬جسدي‮ ‬وحده المريض‮ ‬يا ولدي‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬جسدك فقط؟ ولكن جسدك هو أنت‮..‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬لا‮ ‬يا ولدي‮ ‬لا‮.. ‬إنه ليس أنا،‮ ‬فأنا أنا وهو هو،‮ ‬وبيننا صحبة وعداوة‮..‬إنني‮ ‬أحمل هذا الجسد رغما عني،‮ ‬ولو كنت أقدر لخلعته عني‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬تخلعه؟ كيف ذلك‮ ‬يا سيدي؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬أخلعه هكذا‮.. (‬وهو‮ ‬ينزع قطعة من لباسه‮) ‬تماما كما أخلع ملابسي،‮ ‬أو كما أخلع ضرسي،‮ ‬وأمسحه من هذا الوجود مسحا،‮ ‬تماما كما أمسح الآن هذه الأصباغ‮ ‬عن وجهي،‮ ‬وأفصله عني،‮ ‬وأنفصل عنه،‮ ‬تماما كما أفعل مع أقنعتي‮ ‬التي‮ ‬ليست مني‮.. ‬هو جسد صغير كما تري،‮ ‬ولكن روحي‮ ‬أكبر منه،‮ ‬وهو جسد مريض ومعطوب،‮ ‬ولكن روحي‮ ‬بألف عافية،‮ ‬وهو جسد هزيل و محدود،‮ ‬ولكن خيالي‮ ‬لا تحده الحدود‮.. ‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬وماذا تقول لي‮ ‬عن حزنك‮ ‬يا سيدي؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬لا‮ ‬يشغلك حزني‮ ‬يا ولدي‮.. ‬فهو‮ ‬حزن عابر‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬حزن عابر؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬نعم،‮ ‬وكل شيء عابر لا‮ ‬يعول عليه‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬ما أعرفه‮ ‬يا سيدي،‮ ‬هو أن كل شيء في‮ ‬هذا الوجود عابر أيضا‮..‬
المهـــــــرج‮:: ‬ليس كل شيء‮.. ‬الكلمة الطيبة تبقي‮ ‬يا ولدي،‮ ‬والحق‮ ‬يبقي،‮ ‬والحب‮ ‬يبقي،‮ ‬والحقيقة تبقي،‮ ‬والجمال‮ ‬يبقي،‮ ‬والخير‮ ‬يبقي‮.. ‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬هنيئا لك أيها المهرج الحكيم‮.. ‬لقد أضحكت الأطفال،‮ ‬وأدخلت البهجة إلي‮ ‬نفوسهم،‮ ‬والأطفال عيال الله‮.. ‬أما أنا‮.. ‬فماذا أقول لك عني؟‮ ‬أنا أيضا اشتغلت بصناعة الإضحاك،‮ ‬وكانت المصيبة أنني‮ ‬أضحكت بعض أشباه الناس،‮ ‬وأضحكت بعض أشباه الرجال‮ .. ‬اللعنة علي‮.. ‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬أنت زميل في‮ ‬الحرفة إذن؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬آه‮ .. ‬تقريبا‮ .. ‬أنا ابن حكواتي،‮ ‬ولست حكواتيا،‮ ‬وولد كاتب،‮ ‬ولكنني‮ ‬لا أكتب،‮ ‬ولا أعرف سر الكتابة،‮ ‬وولد مخرج مسرحي‮ ‬أيضا،‮ ‬وولد ممثلة،‮ ‬وولد منظر،‮ ‬وولد مدير مسرح‮ ..‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬أنت ابن مدير مسرح؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬تقريبا‮.. ‬مسرح ليس له وجود إلا في‮ ‬الخيال المشتعل نارا ونورا،‮ ‬وليس له مكان في‮ ‬عالم الأمكنة‮.. ‬أما اسمي‮ ‬فهو نسيم‮ .. ‬نسيم بن الريح والعاصفة‮ .. (‬تضحك‮) ‬أبي‮ ‬هو الريح وأمي‮ ‬هي‮ ‬العاصفة‮..‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬تشرفنا‮ ‬يا نسيم‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬وأنت‮.. ‬لم تقل لي‮ ‬ما اسمك؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬أنا‮.. ‬أنا لدي‮ ‬أسماء كثيرة‮ .. ‬المرحومة أمي‮ ‬سمتني‮ ‬نسيم‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬يا الله‮.. ‬اسمك مثل اسمي،‮ ‬ومثل اسم أخي‮ ‬التوءم نسيم‮.. ‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬ربما كانت أمنا واحدة ونحن لا ندري‮.. ‬أما اسم أبي‮ ‬فهو محيي‮ ‬الدين‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬يا للصدف الماكرة؟ اسم أبيك مثل اسم أبي‮..‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬واسم جدي‮ ‬هو شرف الدين‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬لا‮ .. ‬أقلت شرف الدين‮ ‬يا سيدي؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬نعم‮.. ‬شرف الدين بن معز الدين‮.. ‬هذا هو اسمي‮ ‬بالكامل‮.. ‬أما أولاد الدرب من أترابي‮ ‬فقد سموني‮ ‬أحديدان‮.. ‬أحديدان لحرامي‮.. (‬يضحك بصعوبة‮)‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬عاشت الأسماء الجميلة‮..‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬أما أصحاب السيرك فقد سموني‮ ‬نونو‮ .. ‬نونو المهرج‮ ..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬آه‮ .. ‬نونو المهرج‮.. ‬عرفتك طفلا،‮ ‬وسمعت عنك كثيرا،‮ ‬وكل الأطفال في‮ ‬بلادي‮ ‬يعرفون نونو المهرج‮ ..‬
المهـــــــرج‮:‬‮ ‬نونو المهرج هو أنا‮.. ‬الكائن الخرافي‮ ‬العجيب‮.. ‬صديق الأطفال في‮ ‬كل مكان‮.. ‬وبأي‮ ‬الأسماء تناديني‮ ‬يا ولدي‮ ‬فإنني‮ ‬سأرد عليك،‮ ‬وأقول لك‮ (‬شبيك لبيك خادمك المطيع بين‮ ‬يديك‮).. (‬صمت‮) ‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬إنني‮ ‬أراك تمضغ‮ ‬شيئا‮.. ‬أهو الدواء‮ ‬يا صاحبي؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬إنني‮ ‬أمضغ‮ ‬فراغا،‮ ‬وأسمي‮ ‬هذا الفراغ‮ ‬بأسماء كثيرة‮.. ‬أسميه خبزا،‮ ‬وأسميه دواء،‮ ‬وأسميه فاكهة محرمة‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬وفي‮ ‬تنقلاتك اليومية،‮ ‬وفي‮ ‬أسفارك أيضا،‮ ‬ماذا تركب؟ دراجة هوائية أم دراجة بخارية؟ عربة تركب أم قطارا؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬ماذا أركب؟ أركب عاصفة مجنونة‮.. ‬وأسمي‮ ‬هذه العاصفة كل أسماء النساء‮.. ‬أسميها مرجانة وجمانة وريحانة وفلانة‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬وماذا تتنفس‮ ‬يا سيدي؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬أتنفس في‮ ‬هذه الأيام المسمومة‮ ‬غازات سامة وأسميها‮.. ‬أسميها هواء،‮ ‬وهل هي‮ ‬فعلا هواء؟ لست أدري‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬وماذا تفترش عند نومك‮ ‬يا سيدي؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬ماذا أفترش؟ أفترش شوكا،‮ ‬وأتوسد شوكا،‮ ‬والتحف بشوك،‮ ‬وأسمي‮ ‬هذا الشوك بأسماء الورد وبأسماء الزهور والرياحين‮.. ‬أليس هذا من حقي‮ ‬يا ولدي؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬من حقك طبعا‮.. ‬ومن حقي‮ ‬أنا أيضا،‮ ‬فأنا مثلك لا أتوقف عن الحلم أبدا‮.. ‬فما أنا إلا حلم من الأحلام،‮ ‬وما حياتي‮ ‬إلا حلم داخل حلم داخل حلم داخل حلم إلي‮ ‬ما شاء الله‮.. ‬بالأحلام أعيش‮ ‬يا سيدي،‮ ‬وبها أسعد وأشقي،‮ ‬وبها أموت وأحيا،‮ ‬وبها أبعث حيا‮.. ‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬أنا لا شيء‮ ‬يسعدني‮ ‬إلا سعادة الأطفال‮.. ‬الأطفال الصغار والأطفال الكبار‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬بودي‮ ‬لو أعرف‮ ‬يا سيدي‮.. ‬بماذا كنت تحلم‮..‬
المهـــــــرج‮:‬‮ ‬كنت أحلم،‮ ‬ومازلت أحلم،‮ ‬وسوف أبقي‮ ‬أحلم بالذي‮ ‬لم‮ ‬يكن،‮ ‬وأقول لنفسي‮.. ‬ليتني‮ ‬لم أكن‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬وأين تقيم الآن؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬أين أقيم؟ أقيم في‮ ‬قبر‮ ‬يا ولدي‮ ..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬تقيم في‮ ‬قبر؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬نعم‮.. ‬ولكنني‮ ‬لا أسمي‮ ‬هذا القبر قبرا‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬وماذا تسميه؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬أسميه بيتا‮.. ‬وهو عربة متحركة‮ (‬صمت‮) ‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬يا الله،‮ ‬ما هذا الذي‮ ‬أري؟ لقد مسحت الأصباغ‮ ‬عن وجهك،‮ ‬فتغيرت ملامحك،‮ ‬لقد ظهر لك الآن وجه آخر‮..‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬من حقي‮ ‬أن أعود إلي‮ ‬نفسي‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬يا الله‮.. ‬أهذا هو وجهك الحقيقي‮ ‬يا سيدي؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬نعم‮.. ‬هذا هو وجهي‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬قسماته‮ ‬غير ضاحكة،‮ ‬وألوانه‮ ‬غير سعيدة‮ ..‬
المهـــــــرج‮:‬‮ ‬نعم،‮ ‬ولو كانت ضاحكة حقا،‮ ‬ما وضعت عليها كل هذه الأقنعة الضاحكة الكاذبة‮.. ‬إنني‮ ‬أشرك الأطفال في‮ ‬فرح روحي،‮ ‬أما آلام هذا الجسد،‮ ‬فإنني‮ ‬أحتفظ بها لنفسي‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬ما أغربك أيها المهرج الحكيم‮ ..‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬من حقي‮ ‬أن تكون لي‮ ‬حياتي‮ ‬الأخري،‮ ‬وأن أحتفظ بوجهي‮ ‬ضاحكا حتي‮ ‬تضحك لنا الدنيا‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ (‬هامسة لنفسه‮) ‬تضحك لنا الدنيا،‮ ‬أو‮ ‬يضحك علينا بعض أهل الدنيا؟
المهــــــــرج‮:‬‮ (‬يضحك بصعوبة‮) ‬ألا تعرف ذلك المثل الذي‮ ‬يقول‮: ‬اضحك تضحك معك الدنيا،‮ ‬وابك تبك وحدك؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬نعم أعرفه،‮ ‬وأعرف مثلا آخر‮ ‬يقول‮: ‬اضحك للدنيا تضحك عليك الآخرة‮ .. (‬يضحك وحده‮)‬
لست أدري‮ ‬يا سيدي‮.. ‬كيف تكون متألما ومهموما ومريضا،‮ ‬وأن تكون قادرا علي‮ ‬صناعة الفرح‮..‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬كل لما خلق له‮ ‬يا ولدي‮.. ‬إن شجرة التفاح التي‮ ‬تعطي‮ ‬التفاح لا تسأل نفسها لماذا وكيف ولمن‮ .. ‬للناس صناعات كثيرة،‮ ‬وأنا صناعتي‮ ‬الفرح،‮ ‬وإنني‮ ‬أقوم بها،‮ ‬ولا أسأل نفسي‮ ‬أسئلة بلا معني‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬أما أنا فقد ضيعتني‮ ‬أسئلتي‮.. ‬إنني‮ ‬أعيش حالاتي‮ ‬وأفكاري‮.. ‬لقد أصبحت أشك في‮ ‬كثير من الأشياء،‮ ‬ولم أعد متيقنا إلا من شيء واحد‮..‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬وما هذا الشيء؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬أنني‮ ‬في‮ ‬حاجة إلي‮ ‬عونك ومساعدتك‮..‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬مساعدتي؟ أنا‮.. (‬يضحك بصعوبة‮) ‬ولكنني‮ ‬لا أفهم شيئا في‮ ‬صناعة الأفكار‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬أنت صاحب تجربة‮.. ‬وتجربتك صادقة وحية،‮ ‬ونحن في‮ ‬حاجة إلي‮ ‬بعضنا‮..‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬في‮ ‬حاجة إلي‮ ‬بعضنا؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬نعم‮.. ‬نحن نتكامل بلا شك‮.. ‬أنت المعاناة الصادقة،‮ ‬وأنا الأفكار الحارقة،‮ ‬وهذا العالم في‮ ‬حاجة إلينا،‮ ‬وإنني‮ ‬أدعوك لأن ننضم إلي‮ ‬مشروع كبير‮ ‬يغير وجه الدنيا،‮ ‬فما قولك‮ ‬يا سيدي‮ ‬الحكيم؟‮ ‬
المهـــــــرج‮:‬‮ ‬ما قولي؟ هذه دعوة إلي‮ ‬المخاطرة،‮ ‬وشرف المقصد‮ ‬يستحق الخاطرة دائما،‮ ‬ولكن عمري‮ ‬لا‮ ‬يطاوعني،‮ ‬ورقة حالي‮ ‬لا تساعدني،‮ ‬وصحتي‮ ‬المعطوبة لا تسعفني‮ ‬يا ولدي‮.. ‬وما أنا إلا قزم بين العمالقة‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬صاحبي‮ ‬الحكواتي‮ ‬لديه المال‮ ‬يا سيدي‮..‬
المهـــــــرج‮:‬‮ ‬أسعده الله بماله‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬لقد أصبحنا أصدقاء،‮ ‬ويمكن لصاحبي‮ ‬الحكواتي‮ ‬أن‮ ‬يساعدك ببعض هذا المال‮ ‬للعلاج‮..‬
المهـــــــرج‮:‬‮ ‬آه‮.. ‬أقلت لديه المال؟‮ ‬يا سبحان الله‮.. ‬حسبته صاحبة رؤية ورأي‮ ‬يا‮ ‬ولدي‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬هو صاحب رؤية ورأي،‮ ‬وصاحب مال وأعمال أيضا،‮ ‬فما المانع في‮ ‬هذا‮ ‬يا سيدي؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬وحق الله‮ ‬يا ولدي،‮ ‬لست أنا من‮ ‬يمنع الجمع بينهما‮..‬
‮(‬فجأة‮ ‬يرن الجرس،‮ ‬فيلتفت نسيم حوله،‮ ‬ويصاب بشيء من الارتباك،‮ ‬ويتحرك في‮ ‬كل الاتجاهات بقلق ظاهر‮) ‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬يا ويلي‮.. ‬هل انقضت الساعة بهذه السرعة؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬من تكلم‮ ‬يا نسيم؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬أكلم نفسي‮..‬
المهـــــــرج‮:‬‮ ‬وماذا تقول لنفسك؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬لا أقول لها شيئا،‮ ‬لأنه لم‮ ‬يعد لدي‮ ‬ما أقول‮.. ‬لقد ذكرني‮ ‬هذا الجرس بأن علي‮ ‬أن أعود الآن‮.. ‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬تعود؟ تعود إلي‮ ‬أين؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬إلي‮ ‬مولاي‮ ‬الحكواتي‮ .. ‬فما أنا إلا شخصية من شخصيته،‮ ‬لقد أعطاني‮ ‬ساعة‮.. ‬ساعة واحدة فقط‮ ‬يا سيدي،‮ ‬ويظهر أنها قد انتهت‮ ..‬سأذهب إليه الآن،‮ ‬وسأستعطفه من أجل أن‮ ‬يمنحني‮ ‬ساعة أخري‮.. ‬رجاء ابق هنا ولا تذهب،‮ ‬فمازال لدي‮ ‬ما أقول لك‮.. (‬يخرج نسيم وهو‮ ‬يجري‮.. ‬تخفت الإضاءة شيئا فشيئا حتي‮ ‬تختفي‮ ‬كليا‮) ‬
6 ــ وجه المهرج ووجه العالم
‮(‬تعود الإضاءة،‮ ‬المهرج نانو وحده أمام المشجب‮.. ‬يغير ملابسه علي‮ ‬إيقاع موسيقي‮ ‬السيرك‮.. ‬يرتدي‮ ‬معطفا كبيرا‮.. ‬يدخل‮ ‬يده في‮ ‬جيبه فيخرج منه حمامة بيضاء،‮ ‬يقبلها ثم‮ ‬يلقي‮ ‬بها في‮ ‬الهواء‮.. ‬يتعالي‮ ‬ضحك الأطفال وتصفيقهم‮.. ‬ينحي‮ ‬أمام جمهور الأطفال الوهمي‮.. ‬ينزع عن رأسه الطرطور الكبير فتطير منه حمامة أخري‮.. ‬يزداد ضحك الأطفال،‮ ‬ويزداد التصفيق حدة وقوة‮ ‬ينفض معطفه فتسقط منه أشياء‮ ‬غريبة‮.. ‬تخفت الأصوات شيئا فشيئا،‮ ‬وتضيق حوله الإضاءة حتي‮ ‬تصبح في‮ ‬حجم بقعة صغيرة جدا،‮ ‬ويعم الصمت المكان‮)‬
المهـــــــرج‮:‬‮ ‬لقد انتهت اللعبة‮.. ‬انتهت بألف ألف ضحكة،‮ ‬وسبحان الذي‮ ‬أضحك وأبكي‮.. ‬غدا سيكون‮ ‬يوم عطلة،‮ ‬وسيكون من حقي‮ ‬أن أرتدي‮ ‬زيا آخر،‮ ‬وأن أضع علي‮ ‬وجهي‮ ‬وجها آخر،‮ ‬وأن أعيش مع نفسي‮ ‬عيشا آخر،‮ ‬ولكن‮.. (‬ينظر حوله‮) ‬أين‮ ‬يمكن أن أمضي؟ وهل وراء عالم هذه الخيمة عالم آخر؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ (‬يأتي‮ ‬من بعيد صوت نسيم مصحوبا بالصدي‮) ‬يا سيدي‮ ‬المهرج‮..‬يا أيها الحكيم‮..‬
المهـــــــرج‮:‬‮ ‬أهذا أنت‮ ‬يا نسيم؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬نعم،‮ ‬هذه أنا،‮ ‬وقد عدت إليك‮.. ‬لقد منحني‮ ‬مولاي‮ ‬الحكواتي‮ ‬ساعة أخري‮..‬
المهـــــــرج‮:‬‮ ‬إذن ادخل‮.. ‬ماذا تنتظر؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬أمامي‮ ‬مسارات كثيرة جدا‮ ‬يا سيدي،‮ ‬فأيها أختار؟‮ ‬
المهـــــــرج‮:‬‮ ‬اختر ما تشاء،‮ ‬فكل المسالك الحقيقية تؤدي‮ ‬إلي‮ ‬الحقيقة‮ .. ‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬إنني‮ ‬أخاف أن أخطئ الطريق إليك،‮ ‬فأجد نفسي‮ ‬مع الأسود أو مع القرود أو مع الدببة‮.. ‬
المهـــــــرج‮:‬‮ ‬لا تخف‮ ‬يا نسيم‮.. ‬الأسود عندنا لا تؤذي‮ ‬أحدا‮..‬
‮(‬تنتابه نوبة سعال قوية تمنعه من أن‮ ‬يكمل كلامه‮.. ‬يرفع بصره ليجد نسيم أمامه‮).. ‬أخيرا،‮ ‬ها أنت وصلت‮.. ‬أما أنا،‮ ‬فمازلت في‮ ‬وسط الطريق،‮ ‬فلا أنا من الناجين ولا أنا من الهالكين‮.. ‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬متي‮ ‬يموت المرض‮ ‬يا سيدي؟
المهـــــــرج‮:‬‮ ‬لست أدري،‮ ‬ربما بعد أن‮ ‬يموت الموت نفسه‮.. (‬يضحك بصعوبة‮) ‬
أنا مريض‮ ‬يا ولدي،‮ ‬وقدر المريض أن‮ ‬يكون متفائلا رغما عنه،‮ ‬وأن‮ ‬يؤمن بالمعجزات،‮ ‬وأن‮ ‬يصدق كثيرا من الخرافات،‮ ‬وأن‮ ‬ينتظر الذي‮ ‬سوف‮ ‬يأتي‮ ‬أولا‮ ‬يأتي،‮ ‬وأن‮ ‬ينظر إلي‮ ‬السماء،‮ ‬وأن‮ ‬يكثر من الدعاء،‮ ‬ولكي‮ ‬يري‮ ‬هذه السماء،‮ ‬ويري‮ ‬ما فيها من‮ ‬غيم وغيب،‮ ‬ومن أقمار ونجوم،‮ ‬فإن عليه أن‮ ‬يكون ممددا علي‮ ‬ظهره هكذا‮ .. (‬يتمدد علي‮ ‬ظهره‮) ‬
يا الله‮.. ‬إنه لا أحد‮ ‬يري‮ ‬هذه السماء أحسن مما‮ ‬يراها أحبابنا المرضي،‮ ‬ولا أحد‮ ‬يري‮ ‬النجوم والأقمار التي‮ ‬في‮ ‬هذه السماء أحسن مما‮ ‬يراها إخواننا المؤرقون والمحتضرون‮ ..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬ولكن‮.. ‬ما هو مرضك؟
المهـــــــرج‮:‬‮ ‬مرضي‮ ‬لا أعرفه،‮ ‬ولكن هو‮ ‬يعرفني،‮ ‬وإنني‮ ‬لا أستطيع أن أراه،‮ ‬ولكنني‮ ‬أحس أعراضه،‮ ‬وتؤلمني‮ ‬أوجاعه،‮ ‬وأخوف ما أخافه أن‮ ‬يكون من مهام السادة الحكماء أن‮ ‬يعالجوا هذه الأعراض وحدها،‮ ‬وألا‮ ‬يعالجوا جوهر الأمراض‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬لقد سمعت بأن الحكماء الجدد قد اكتشفوا أشياء خطيرة جدا‮..‬
المهـــــــرج‮:‬‮ ‬نعم،‮ ‬وأنا أيضا سمعت هذا،‮ ‬ولعل أهم ما اكتشفوه‮ ‬يا ولدي‮ ‬هو هذه الأمراض الجديدة‮.. ‬إنني‮ ‬طبيب نفسي‮ ‬يا ولدي،‮ ‬ولقد تعودت أن أعالج نفسي‮ ‬بنفسي‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬تعالج نفسك؟ وبأي‮ ‬دواء؟
المهـــــــرج‮:‬‮ ‬بدواء الضحك السحري،‮ ‬وعندما أري‮ ‬الأطفال من حولي‮ ‬يضحكون،‮ ‬فإنني‮ ‬أنسي‮ ‬أمراضي،‮ ‬وأنسي‮ ‬أوجاعي‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬ما أغربك أيها الفنان الغريب‮..‬
المهـــــــرج‮:‬‮ ‬سبحانك ربي،‮ ‬أنت ما خلقت هذا الضحك باطلا‮.. ‬كل مرضي‮ ‬في‮ ‬رأسي‮.. ‬هنا،‮ ‬وكل أوجاعي‮ ‬تأتيني‮ ‬من رأسي،‮ ‬وقد جاءني‮ ‬كل هذا الوجع من إصراري‮ ‬علي‮ ‬أن أضيء‮.. ‬إن الشمعة التي‮ ‬تضيء‮ ‬يا ولدي‮ ‬تحترق من رأسها،‮ ‬فهل رأيت شمعة تحرق من جذعها؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬ماذا أٌقول لك؟ أستسسمحك سيدي‮..‬
المهـــــــرج‮:‬‮ ‬علي‮ ‬أي‮ ‬شيء؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬علي‮ ‬أنني‮ ‬ذكرتك بأوجاعك،‮ ‬ولقد كان في‮ ‬نيتي‮ ‬أن أسألك عن شيء آخر‮.. ‬
المهـــــــرج‮:‬‮ ‬شيء آخر؟ وما هذا الشيء الآخر؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬أريد أ أعرف،‮ ‬ما هي‮ ‬أكثر الأشياء جمالا في‮ ‬نظرك‮ ‬يا سيدي؟
المهـــــــرج‮:‬‮ ‬أكثر الأشياء جمالا عندي،‮ ‬هي‮ ‬أقلها قبحا‮.. ‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬فقط؟
المهـــــــرج‮:‬‮ ‬نعم،‮ ‬هكذا أراها،‮ ‬وهكذا هي‮ ‬فلسفة حياتي‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬لقد رأيت أنك تبخس نفسك حقها‮ ‬يا سيدي‮..‬
المهـــــــرج‮:‬‮ ‬أنا؟ ممكن،‮ ‬وهذا هو الذي‮ ‬رأيت‮ ‬يا ولدي،‮ ‬ولكنني‮ ‬لست متواضعا‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬لست متواضعا؟
المـهــــــرج‮:‬‮ ‬نعم،‮ ‬وهل تعرف لماذا؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬لماذا؟
المـهــــــرج‮:‬‮ ‬لأن التواضع المزيف أسوأ عندي‮ ‬من الغرور الصادق‮.. ‬إنني‮ ‬أعرف نفسي،‮ ‬ولكن نفسي‮ ‬لا تعرف هذا العالم،‮ ‬وهذا العالم لا‮ ‬يعترف بهذا المخلوق الذي‮ ‬يسكنني،‮ ‬وتلك هي‮ ‬مأساتي‮ ‬في‮ ‬حياتي‮.. ‬إن العين لا تري‮ ‬نفسها،‮ ‬وهي‮ ‬تحتاج إلي‮ ‬عين أخري‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬وأنا الآن هي‮ ‬عينك الأخري‮..‬
المـهــــــرج‮:‬‮ ‬أنت؟ ومن أنت؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬أنا؟ أنا كلمة صغيرة في‮ ‬عالم كبير جدا‮..‬
المـهــــــرج‮:‬‮ ‬سبحان الله،‮ ‬وأنا أيضا مثلك‮ ‬يا ولدي،‮ ‬أو أنت مثلي‮.. ‬لست أدري‮.. ‬أنا المضحك الذي‮ ‬لا‮ ‬يضحك،‮ ‬والذي‮ ‬ليس من حقه أن‮ ‬يضحك،‮ ‬ومهمتي‮ ‬في‮ ‬عالم الناس أن‮ ‬يضحك كل الناس،‮ ‬وأن‮ ‬يفرح كل الناس،‮ ‬وأن‮ ‬يكون ضحكهم صادقا وبريئا،‮ ‬مثل ضحك الملائكة التي‮ ‬في‮ ‬السماء،‮ ‬وأن تكون فرحتهم شفافة كالماء والهواء‮.. ‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬لقد قلت أنا‮.. ‬وأنا لا أعرف ماذا تعني‮ ‬أنا‮.. ‬حقا،‮ ‬ما أصغر هذه الكلمة‮ ‬يا سيدي،‮ ‬ولكن،‮ ‬ماذا بداخلها؟ بودي‮ ‬لو أعرف‮..‬
المـهــــــرج‮:‬‮ ‬آه‮.. ‬بداخلها مغارة كبيرة جدا،‮ ‬مغارة تشبه مغارة علي‮ ‬بابا‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬وهذا العالم‮ ‬يا سيدي‮ ‬كيف تراه؟
المـهــــــرج‮:‬‮ ‬كيف أراه؟ هو عالم عاقل عند العقلاء،‮ ‬وهو عالم مجنون عند المجانين،‮ ‬وهو فوضي‮ ‬شاملة عند أصدقائنا الفوضويين،‮ ‬وهو ظلام في‮ ‬ظلام عند جيراننا الظلاميين،‮ ‬وهو باطل الأباطيل عن السادة العبثيين والعدميين،‮ ‬وهو عيد متجدد عند السادة الاحتفاليين‮.. ‬هي‮ ‬عوالم كثيرة‮ ‬يا ولدي‮ ‬وليس عالما واحدا،‮ ‬فإن أنت اخترت عالمك ـ بين كل هذه العوالم ـ وعشته كما هو،‮ ‬فأنت محافظ‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬وإذا أردت أن أغيره‮ ‬يا سيدي؟
المـهــــــرج‮:‬‮ ‬آه،‮ ‬في‮ ‬ذلك الوقت ستكون قد اخترقت كل الحدود الوهمية،‮ ‬وستصبح متمردا علي‮ ‬الأعراف وعلي‮ ‬التقاليد وعلي‮ ‬القانون وعلي‮ ‬النظام الأرضي‮ ‬والسماوي‮.. (‬يمد‮ ‬يده إلي‮ ‬مزهرية لم تكن من قبل ظاهرة،‮ ‬وبلمسة ساحر‮ ‬يأخذ منها وردة ويقدمها لنسيم‮) ‬خذ‮ .. ‬هذه هديتي‮ ‬إليك أيها المحارب‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬ما هذه‮ ‬يا سيدي؟
المـهــــــرج‮:‬‮ ‬هي‮ ‬وردة حمراء كما تري،‮ ‬ويمكن أن تكون وساما إذا شئت‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ (‬يشم الوردة ثم‮ ‬يضعها علي‮ ‬صدره وكـأنها وسام‮) ‬يا الله‮.. ‬إنها تفوح عطرا‮ ‬يا سيدي،‮ ‬فماذا‮ ‬يعني‮ ‬هذا؟
المـهــــــرج‮:‬‮ ‬ماذا‮ ‬يعني؟‮ ‬يعني‮ ‬أن هذه الوردة تفكر،‮ ‬وإذا فكرت الوردة‮ ‬يا ولدي،‮ ‬فمعني‮ ‬هذا أنها موجودة‮.. ‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬وهل للتفكير رائحة‮ ‬يا سيدي؟
المـهــــــرج‮:‬‮ ‬نعم،‮ ‬له رائحة‮ ‬يا ولدي،‮ ‬وله ظل أيضا‮.. ‬ظل لا‮ ‬ينحني‮ ‬إلا لصاحب الظل‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬يا الله‮.. ‬ماذا أقول فيك أيها المضحك الذي‮ ‬لا‮ ‬يضحك؟ حقا،‮ ‬أنت حكيم من الحكماء‮..‬
المـهــــــرج‮:‬‮ ‬وأين أنا من الحكمة‮ ‬يا ولدي؟ ثق بأنه‮ ‬يكفيني‮ ‬في‮ ‬حياتي‮ ‬ألا أكون جاهلا من الجهلاء‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬لا‮.. ‬أنت فعلا حكيم‮ ‬يا سيدي،‮ ‬وإن كان لك خطأ من الأخطاء،‮ ‬فهو أنك متقدم علي‮ ‬عصرك‮..‬
المـهــــــرج‮:‬‮ ‬لو قلت بأن هذا العصر هو المتأخر علي‮ ‬زمنه،‮ ‬لكان ذلك أحسن‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬سواء أكان هذا أو ذاك،‮ ‬فإن المعني‮ ‬واحد‮ ‬يا سيدي‮..‬
المـهــــــرج‮:‬‮ ‬وماذا‮ ‬يقول هذا المعني؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬يقول بأن الأمور في‮ ‬عالم الناس ليس علي‮ ‬ما‮ ‬يرام‮ ‬يا سيدي‮..‬
المهــــــــرج‮:‬‮ (‬صمت‮) ‬اخبرني‮.. ‬هل أنت رجل شريف؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ (‬يضحك‮) ‬ماذا أقول لك؟ لقد فاجأتني‮ ‬بهذا السؤال‮ ‬يا سيدي‮..‬
المهــــــــرج‮:‬‮ (‬يضحك هو أيضا‮) ‬أعرف أنه سؤال مجنون‮ ‬يا نسيم‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ (‬وكأنه‮ ‬يكلم نفسه‮) ‬أخيرا ضحك السيد المهرج الشريف‮..‬
المهـــــــرج‮:‬‮ ‬هذا ليس سؤالي‮ ‬أنا‮ ‬يا نسيم‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬وسؤال من هو؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬هو سؤال نفسه‮.. ‬وحق الله هو سؤال نفسه‮.. ‬مرة أخري‮ ‬أقول لك‮.. ‬هل أنت شريف‮ ‬يا ولدي؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬يا سيدي‮.. ‬إن كان الشرف بالرمم البالية،‮ ‬فأنا لست شريفا‮..‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬هذه فهمتها،‮ ‬فماذا عن‮ ‬غيرها؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬أما إذا كان بالهامات العالية،‮ ‬فقد كانت هامتي‮ ‬دائما عالية‮..‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬قلت كانت‮ ‬يا ولدي؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬نعم كانت،‮ ‬ولكنها باقية إلي‮ ‬الآن،‮ ‬وبعون الله سوف تبقي‮..‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬سوف تبقي‮.. ‬إلي‮ ‬متي؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬إلي‮ ‬ما شاء الله‮ ‬يا سيدي‮..‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬إن كان الأمر هكذا،‮ ‬فحتما ستتعب‮.. ‬ستتعب كثيرا‮ ‬يا ولدي‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬أعرف،‮ ‬وهذا نفس ما قالت لي‮ ‬العرافة‮..‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬ماذا قالت لك العرافة؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬قالت‮.. ‬ستتعب كثيرا‮ ‬يا ولدي‮..‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬هذه الدنيا بنت كلب،‮ ‬وهي‮ ‬لا تحب الشرفاء،‮ ‬ولا تحب العلماء،‮ ‬ولا تحب الحكماء،‮ ‬ولا تحب الشعراء‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬لقد أخبرني‮ ‬صاحبي‮ ‬الحكواتي‮ ‬أنه قد حان الوقت‮.. ‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬حان الوقت؟ وقت أي‮ ‬شيء‮ ‬يا ولدي؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬وقت تغيير وجه هذا العالم‮ ‬يا سيدي‮..‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬وجه هذا العالم مثل وجهي‮.. ‬وجه عمك المهرج هذا‮.. ‬أصباغه ظاهرة وحقيقته خفية‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬لقد أردت أن‮ ‬يكون لي‮ ‬موقع في‮ ‬عالم الأرقام‮ ‬يا سيدي‮..‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬ليس كل ما نريده ندركه،‮ ‬وعالم الأرقام ليس عالمنا‮ ‬يا ولدي‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬وعالم الكلمات والعبارات‮.. ‬ماذا تقول لي‮ ‬عنه؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬عالم الكلمات الصادقة ممنوع عنا‮ ‬يا ولدي،‮ ‬ولم‮ ‬يبق أمامنا سوي‮ ‬أن نهرج‮.. ‬وفي‮ ‬بعض التهريج كثير من الحكمة‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬إنني‮ ‬أخاف أن نبحث عن عالم الأرواح،‮ ‬وأن نجد أنفسنا في‮ ‬عالم الأشباح‮..‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬وما هذا العالم المزيف إلا عالم أشباح‮ ‬يا ولدي‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬ألا تؤمن بالإصلاح‮ ‬يا سيدي؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬بلي‮.. ‬أومن به‮.. ‬ولكن دولة الباطل كبيرة وقاهرة‮ .. ‬صدقني‮.. ‬الشيوخ أمثالي‮ ‬لا أمل فيهم‮ ‬يا ولدي،‮ ‬وكل الأمل في‮ ‬الأطفال‮.. ‬ومن أجل هؤلاء الأطفال أصبحت مهرجا،‮ ‬واخترت أن أكون مع الصفاء والنقاء،‮ ‬ومع البراءة‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬هل تتوقع أن هذا العالم‮ ‬يمكن أن‮ ‬يتغير؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬نعم‮ .. ‬يمكن‮.. ‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬ومتي‮ ‬يحدث هذا؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬متي؟ لست أدري‮.. ‬ربما‮.. ‬عندما‮ ‬يصبح الحكام حكماء‮.. (‬صمت‮) ‬أما إذا أصبح الحكماء والعلماء والفقهاء حاكمين،‮ ‬فتأكد بأن النتيجة ستكون أسوأ وألعن‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬أسوأ وألعن؟ كيف ذلك‮ ‬يا سيدي؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬السلطة ملعونة ومجنونة‮ ‬يا ولدي،‮ ‬وما اقترب منها كائن من بني‮ ‬الناس إلا أفرغته من إنسانيته،‮ ‬وما اقترب منها عاقل إلا جردته من عقله،‮ ‬ونزعت عنه علمه وفهمه،‮ ‬وقد تمسخ ذاكرته وتاريخه،‮ ‬وتعيد إنشاءه من جديد‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬أعوذ بالله‮.. ‬تعيده إنشاءه من جديد؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬نعم،‮ ‬ولكن بشكل سيئ ورديء جدا‮.. ‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬أنت لست مهرجا،‮ ‬وحق الله لست مهرجا،‮ ‬فاخبرني‮ ‬من تكون؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬أنا؟ أنا المهرج في‮ ‬هذا السيرك الكبير‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬لا أصدق‮.. ‬ألا تكون مصلحا من المصلحين؟‮ ‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬أنا؟ والله لست أدري‮.. ‬وكل ما أعرفه اليوم عني‮.. ‬هو أنني‮ ‬لست مفسدا من المفسدين‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬ألا تكون حكيما من الحكماء‮ ‬يا سيدي؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬أنا؟ مرة أخري‮ ‬أقول لك،‮ ‬لست أدري‮.. ‬وكل ما أعرفه اليوم عني،‮ ‬أنني‮ ‬لست حاكما من الحكام‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬إذن فأنت عالم من العلماء‮.. ‬عالم متنكر في‮ ‬زي‮ ‬مهرج؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬يسعدني‮ ‬لو أكون عالما من العلماء،‮ ‬ويحزنني‮ ‬لو أكون جاهلا من الجهلاء‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬ما أسعدك‮.. ‬إنك تجيد فن الكلام‮ ‬يا سيدي‮..‬
المهــــــــرج‮:‬‮ (‬يسعل سعالا حادا‮) ‬لقد عاودتني‮ ‬النوبة‮.. ‬تقول‮.. ‬ما أسعدني
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬عافاك‮ ‬الله‮ ‬يا سيدي‮.. ‬إنني‮ ‬أسألك‮.. ‬ما خير الكلام؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬خير الكلام ما كان كلاما صادقا‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬وما خير التفكير؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬ما كان تفكيرا من أجل الحق والحقيقة،‮ ‬وما كان بحثا عن الكرامة والفضيلة‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬وما خير المعرفة؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬المعرفة النوعية‮ ‬يا ولدي،‮ ‬فأن تعرف أحسن خير من أن تعرف أكثر،‮ ‬وأن تعرف المعرفة الحسنة والنافعة،‮ ‬خير من تعرف المعرفة السيئة،‮ ‬وأن تكون تلك المعرفة خادعة ومزيفة ومضللة‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬وما خير الأيام‮ ‬يا سيدي؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬خير الأيام أصدقها وأنبلها‮.. ‬فأن تعيش الأيام الصادقة القليلة خير من أن تعيش الأيام الكاذبة الكثيرة‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬وأنت‮.. ‬في‮ ‬هذه الحياة ماذا اخترت؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬أنا؟ أنا اخترت الحياة‮ ‬يا ولدي‮.. ‬فالحياة أحسن الاختيارات،‮ ‬والموت أسوأ الضرورات‮..‬
‮(‬يسمع صوت ضجيج وصخب بالخارج،‮ ‬ويأتي‮ ‬من بعيد صوت طرق علي‮ ‬الخشب وعلي‮ ‬الحديد‮.. ‬تتعالي‮ ‬أصوات العمال بالأهازيج الشعبية المصاحبة للعمل‮)‬
7 ــ نهاية الكلام وبداية الصمت‮.. ‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬ما هذه الأصوات‮ ‬يا سيدي؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬آه‮.. ‬نسيت أن أقول لك،‮ ‬بأن هذه الليلة هي‮ ‬آخر ليلة‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬آخر ليلة؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬نعم‮.. ‬آخر ليلة في‮ ‬عمر هذا السيرك بالمدينة،‮ ‬وليس في‮ ‬عمر البشرية‮.. ‬اطمئن‮.. ‬لن تقوم القيامة‮ ‬غدا‮.. (‬يضحك‮) ‬لقد ودعت جمهوري‮ ‬الصغير،‮ ‬ووعدت كل أطفال الدنيا،‮ ‬بأنني‮ ‬سأبقي‮ ‬صغيرا مثلهم‮.. ‬لقد أخذني‮ ‬الحديث معك،‮ ‬ونسيت أن أهيئ صناديقي‮ ‬وحقائبي‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬هل سترحلون‮ ‬يا سيدي؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬نعم‮.. ‬تماما كما ترحل الساعات بعد الساعات،‮ ‬وكما ترحل الأيام بعد الأيام‮.. ‬قدرنا الرحيل‮ ‬يا ولدي‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬بودي‮ ‬لو تبقي‮ ‬هنا‮ ‬يا سيدي‮..‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬أبقي؟ إلي‮ ‬متي‮ ‬يا ولدي؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬إلي‮ ‬أن‮ ‬يشاء الله‮..‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬وقد شاء الله أن أرحل الآن‮.. ‬الدنيا لا تدوم لأي‮ ‬أحد‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬الدنيا؟ وما دخلي‮ ‬أنا بالدنيا؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬لقد التقينا هذه الليلة‮ ‬يا ولدي‮ .. ‬علي‮ ‬المحبة التقينا،‮ ‬وبعد كل لقاء‮ ‬يأتي‮ ‬الفراق،‮ ‬وليس بعد الاتصال إلا الانفصال‮.. ‬الرحيل موت مصغر‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬موت مصغر؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬أو قد تكون مجرد تمارين فقط‮.. ‬تمارين علي‮ ‬الموت‮ ‬يا ولدي‮. (‬يضحك بصوت مرتفع جدا‮)‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬يسعدني‮ ‬أن أراك تضحك‮ ‬يا سيدي‮..‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬هكذا نحن‮ ‬يا ولدي‮.. ‬إذ اشتد بنا الوجع نبكي،‮ ‬وإذا خف الألم قليلا نضحك‮.. ‬ضحكاتي‮ ‬وابتساماتي‮ ‬أسرقها من بين أنياب المرض‮.. ‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬وإلي‮ ‬أي‮ ‬بلد ستذهبون الآن؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬لست أدري‮.. ‬وحيثما‮ ‬يذهب هذا السيرك العجيب فأنا معه‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬بودي‮ ‬لو‮ ‬يكون لك عنوان،‮ ‬حتي‮ ‬أكاتبك‮ ‬يا سيدي‮..‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬من‮ ‬يسكن عربة متحركة علي‮ ‬عجلات،‮ ‬لا‮ ‬يمكن أن‮ ‬يكون له عنوان‮.. ‬أنا اليوم هنا وغدا هناك،‮ ‬واليوم لي‮ ‬سرير وغدا لي‮ ‬نعش‮.. (‬صمت‮) ‬لماذا تنظر إلي‮ ‬هكذا؟ ألا تري‮ ‬أنني‮ ‬أشتغل،‮ ‬وبأنني‮ ‬في‮ ‬حاجة لمن‮ ‬يساعدني؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬يسعدني‮ ‬أن أساعدك‮ ‬يا سيدي،‮ ‬ولكن‮.. ‬أساعدك علي‮ ‬ماذا؟‮ ‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬علي‮ ‬أن أضع أغراضي‮ ‬في‮ ‬هذه الحقائب وفي‮ ‬هذه الصناديق الحديدية‮.. ‬خذ‮.. ‬هذه طراطيري‮ ‬المبجلة‮.. ‬طراطير عمك البهلوان‮.. ‬ضعها بعناية في‮ ‬ذلك الصندوق الملون‮.. (‬يأتي‮ ‬بصندوق من الخارج ويأخذ في‮ ‬حشوه بالأشياء الغريبة‮) ‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬هي‮ ‬طراطير كبيرة‮ .. ‬كبيرة جدا‮..‬
المهـــــــرج‮:‬‮ ‬نعم‮.. ‬وهي‮ ‬تتناسب مع صغر حجمي،‮ ‬وهكذا هو حال الدنيا‮.. ‬تجد الطراطير الكبيرة،‮ ‬وتجد العمائم الكبيرة وتجد الطرابيش الكبيرة‮.. ‬تجدها دائما علي‮ ‬الرؤوس الصغيرة،‮ ‬وفي‮ ‬أحيان كثيرة جدا‮ ‬يا ولدي،‮ ‬قد لا تجد تحت تلك الطراطير والعمائم والطرابيش رؤوسا حقيقية‮.. ‬نعم‮.. ‬لا تجد الرؤوس‮ ‬يا ولدي‮ ‬ولا حتي‮ ‬ما‮ ‬يشبه الرؤوس‮.. (‬يضحك بصعوبة‮)‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬أكاد أعتقد بأن المهرج الحقيقي‮ ‬في‮ ‬هذا العالم ليس أنت‮..‬
المهـــــــرج‮:‬‮ ‬نعم‮.. ‬ليس أنا،‮ ‬وإنما هو هذا العالم الذي‮ ‬يمشي‮ ‬علي‮ ‬رأسه‮.. ‬فهل رأيتني‮ ‬أنا أمشي‮ ‬علي‮ ‬رأسي؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬لا‮..‬أبدا‮.. ‬أنت لا تمشي‮ ‬إلا كما‮ ‬يمشي‮ ‬الحكماء‮.. ‬
‮(‬يتعالي‮ ‬الضجيج والصخب أكثر،‮ ‬ويصبح‮ ‬غناء العمال بالخارج أكثر وضوحا‮)‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬إنها تقترب منا‮ ‬يا سيدي‮.. ‬نعم‮.. ‬هي‮ ‬تقترب أكثر‮..‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬تقترب؟ من تقصد؟‮ ‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬أقصد أشغال تفكيك هذه الخيمة العملاقة‮ .. ‬ألا تري‮ ‬بأن أصوات الطرق قد أصبحت مزعجة؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬إذن ماذا تنتظر؟ أسرع‮ ‬يا ولدي‮.. ‬أسرع في‮ ‬جمع هذه الأغراض قبل أن تسقط الخيمة علي‮ ‬رؤوسنا‮.. (‬يضحك‮) ‬خذ‮.. ‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬ما هذه‮ ‬يا سيدي؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬هذه قوارير كما تري‮ ..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬قوارير عطر بلا شك‮.. ‬عطر شرقي‮ ‬أم عطر‮ ‬غربي؟
المهـــــــــرج‮ ‬لا‮ .. ‬لا هي‮ ‬هذا،‮ ‬ولا هي‮ ‬ذاك‮ ‬يا ولدي‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬وماذا بها هذه القوارير الزجاجية؟ آ‮ ..‬عرفت‮ .. ‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬ماذا عرفت؟‮ ‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬هي‮ ‬دواء بلا شك‮ .. ‬دواء لكل الأدواء‮..‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬ربما‮.. ‬ربما هي‮ ‬كذلك‮.. ‬فبها أصباغ‮ ‬لوجهي‮ ‬يا ولدي‮.. ‬لوجهي‮ ‬فقط‮.. ‬وبهذه الأصباغ‮ ‬يمكن أن أعالج نفسي‮ ‬وأعالج الدنيا،‮ ‬تأملها جيدا‮ ‬يا ولدي‮ ‬واخبرني‮ : ‬ألا تشبه هذه الأصباغ‮ ‬المصنعة أصباغ‮ ‬الدنيا؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬نعم‮.. ‬هي‮ ‬تشبهها،‮ ‬وتشبه أصباغ‮ ‬هذه المدينة أيضا،‮ ‬وتشبه أصباغ‮ ‬هذا الزمن‮..‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬ضع هذه القوارير في‮ ‬ذلك الصندوق‮.. ‬ضعها برفق،‮ ‬وإياك أن تتكسر بين‮ ‬يديك،‮ ‬فزجاجها رقيق جدا‮.. ‬خذ أيضا هذه السراويل،‮ ‬وضعها في‮ ‬تلك الحقيبة اليدوية‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬سراويل من هذه‮ ‬يا سيدي؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬هذه سراويلي‮ ‬أنا‮.. ‬سراويل عمك المهرج،‮ ‬ألا تري‮ ‬بأنها تشبهني؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬تشبهك؟ ولكنها طويلة جدا‮ ‬يا سيدي‮.. ‬إنها أطول منك‮..‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬قد تكون هي‮ ‬أطول مني،‮ ‬وقد أكون أنا أقصر منها‮.. ‬من‮ ‬يدري؟‮ (‬يضحك‮) ‬ثم ما ذنب سراويلي‮ ‬إذا كنت أنا قزما؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬لا تنس الأدوية‮ ‬يا سيدي‮..‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬وكيف أنساها؟ إن نسيتها أنا فهي‮ ‬لن تنساني،‮ ‬وبعد قليل سيذكرني‮ ‬الوجع بها‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬يا الله‮.. ‬هذه الصناديق ثقيلة جدا‮.. ‬هل ستحملها أنت وحدك؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬أنا؟ لا‮.. ‬مهمتي‮ ‬أنا في‮ ‬هذا السيرك إضحاك الأطفال‮.. ‬إضحاكهم فقط،‮ ‬أما مهمة حمل الأثقال فلها من‮ ‬يتولاها‮.. ‬هل وضعت كل شيء في‮ ‬مكانه؟
نــــســـيــــم‮:‬‮ (‬ساخرا‮) ‬لقد نفذت تعليمات سيادتكم حرفا حرفا‮.. ‬هل هناك تعليمات‮ ‬أخري؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬الله‮ ‬يرضي‮ (‬عليك‮).. ‬وأدعو الله أن‮ ‬يجازيك الجزاء الأوفي،‮ ‬وأن‮ ‬يعطيك حتي‮ ‬يغنيك‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬يعطيني؟ ماذا‮ ‬يعطيني‮ ‬يا سيدي؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬يعطيك روح الأطفال وقوة الجبال وقلب الأبطال‮.. (‬يضحك‮)‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬أدام الله عليك هذه الضحكة الصادقة‮.. ‬تعال لنخرج إذن‮.. ‬تعال‮ .. ‬إنني‮ ‬أسمع العمال وقد اقتربوا منا‮..‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬لنخرج‮.. ‬وبالخارج سنفترق،‮ ‬وسيأخذ كل واحد منا طريقه،‮ ‬ستعود أنت إلي‮ ‬بيتك‮.. ‬
‮(‬يدق الجرس،‮ ‬بشدة أكثر هذه المرة،‮ ‬فيظهر القلق في‮ ‬كلام نسيم‮) ‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬خارج هذا ليس لي‮ ‬بيت‮ ‬يا سيدي،‮ ‬وما أنا إلا شخصية عابرة في‮ ‬مسرحية عابرة‮.. ‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬كلنا عابرون‮ ‬يا ولدي‮.. ‬ستذهبين أنت إلي‮ ‬حيث‮ ‬يشاء الحكي،‮ ‬وسأركب أنا متن بيتي‮ ‬المتحرك،‮ ‬وسأمضي‮ ‬نحو المجهول‮.. ‬وفي‮ ‬لحظة الفراق‮ ‬يا ولدي‮ ‬لن أقول لك وداعا‮.. ‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬ولماذا لن تقول لي‮ ‬وداعا؟
‮(‬يدق الجرس من جديد‮)‬
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬لأننا ذات واحدة،‮ ‬فأنا أنت،‮ ‬وأنت أنا‮.. ‬أنت وجهي‮ ‬الآخر‮ ‬يا ولدي‮.. ‬وجهي‮ ‬الذي‮ ‬أتمني‮ ‬أن أراه من بعد‮.. ‬وحتما سوف أراه وألقاه‮.. ‬في‮ ‬الصحو أو في‮ ‬المنام،‮ ‬في‮ ‬الحقيقة أو في‮ ‬الأوهام‮..‬
نــــســـيــــم‮:‬‮ ‬حتما سوف تراه‮ ‬يا سيدي‮.. ‬ولكن‮ .. ‬أين ومتي؟
المهــــــــرج‮:‬‮ ‬لست أدري‮.. ‬إن لم‮ ‬يكن ممكنا أن أراك في‮ ‬اليقظة،‮ ‬فإنني‮ ‬حتما سأراك في‮ ‬المنام‮.. ‬لنخرج الآن‮ ‬يا ولدي،‮ ‬فليس بعد الدخول إلا الخروج‮.. (‬يسمع وقع أقدام تمشي،‮ ‬مختلطا بصوت الجرس‮.. ‬يتعالي‮ ‬صخب العمال وضجيج الأشغال،‮ ‬ويزداد صوت الغناء اقترابا ووضوحا‮.. ‬يقف المهرج أمام المشجب وظهره إلي‮ ‬الجمهور،‮ ‬يرتدي‮ ‬زي‮ ‬الحكواتي‮: ‬علي‮ ‬نغمات موسيقي‮ ‬السيرك،‮ ‬ثم‮ ‬يلتفت إلي‮ ‬الجمهور‮) ‬
الحكواتـــــي‮: ‬لقد عدت إليكم‮ ‬
أما المهرج ونسيم فقد خرجا‮.. ‬من هنا خرجا كما رأيتم‮..‬
لقد سلكا نفس الطريق،‮ ‬ثم افترقا في‮ ‬نهايته‮ .. ‬افترقا،‮ ‬من‮ ‬غير أن‮ ‬يقولا أية كلمة‮.. ‬
عاد هو إلي‮ ‬حكايته،‮ ‬وإلي‮ ‬الحكواتي‮ ‬التي‮ ‬تحكيها،‮ ‬والذي‮ ‬هو أنا،‮ ‬وذهب المهرج إلي‮ ‬حيث لا‮ ‬يعلم أحد‮.. (‬صمت‮) ‬
لقد كان الصمت بينهما،‮ ‬وقد قالا كلاما كثيرا،‮ ‬ويصعب علي‮ ‬أن أترجم لكم مما قال مولانا الصمت‮.. ‬ولعل أحسن ترجمة لذلك الصمت هو‮.. ‬الصمت‮.. ‬
هس‮.. ‬أرجوكم شيئا من الصمت الفصيح أيها الناس‮.. ‬
‮(‬صمت‮) ‬
‮(‬للجمهور‮) ‬أما أنتم‮.. ‬يا أصدقائي‮ ‬وأحبائي‮.. ‬فإنني‮ ‬أودعكم،‮ ‬وأقول لكم‮: ‬الحكي‮ ‬انتهي،‮ ‬ولكن الحياة لا تنتهي‮..‬
‮(‬موسيقي‮ ‬الختام‮.. ‬تضيق بقعة الضوء حوله شيئا فشيئا حتي‮ ‬تختفي‮ ‬كليا‮) ‬
عبد الكريم برشيد‮ ‬
الدار البيضاء في‮ ‬15 ـ‮ ‬يونيو‮ ‬2011

ـــــ

 جريدة مسرحنا العدد رقم :٣٨٣

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock