ننشر القسم الثاني من مسرحية “الطريق إلى السدرة” للكاتب السوري الكبير “عبد الفتاح رواس قلعه جي”

المسرح نيوز ـ القاهرة| نصوص

ــ

القسم الثاني من مسرحيتي الطريق إلى السدرة

عبد الفتاح رواس قلعه جي

    (ملخص القسم الأول: يتابع الرسول محمد ص رحلة الإسراء والمعراج مع جبريل عبر السموات السبع)

 

    المنيرة
     
    (تتوقف المركبة أمام أسوار عالية مطلية بالذهب الأحمر)
جبريل : (يطرق الباب ويخاطب محمداً) نحن في المنيرة السماء الخامسة.
محمد : وفيها النار؟
جبريل : أجل.
الحارس : (يفتح الباب) من جبريل؟
جبريل : أجل، ومعي محمد.
الحارس : (ينحني محيياً ومفسحاً الطريق) مرحباً بك وبمن معك.
    (تلال ووديان بألوان ذهبية، منازل وقصور وحدائق تتوزع في مجال الرؤية، يمر عابرون من الملائكة والأشخاص يشير بعضهم بالتحية لجبريل ومحمد، مَلَك على مرتفع مشرف يناجي ربه)
الملك : سيدي ومولاي، ما عرف قدرك من عصاك، سبحانك ما أحلمك.
    (شيخ على كرسي لحيته الكثة نصفها بيضاء ونصفها الآخر سوداء هو هارون، وأمامه جلوس يقص عليهم)
هارون : من هذا يا جبريل.
جبريل : هذا هارون اقترب منه لتسمع و سلم عليه. (محمد يقترب)
هارون : وأخذ أخي بلحيتي وجذبني وقال: يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلّوا ألاّ تتبعني، أفعصيت أمري، فقلت له: يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي، إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي.
محمد   السلام عليكم.
هارون : مرحباً بالأخ الصالح والنبي الناصح، أبشر يا محمد فالخير كله فيك وفي أمتك إلى يوم القيامة.
محمد : وإسرائيل التي تعتبر نفسها الشعب المختار؟
هارون : إسرائيل طغت وعصتني وعبدت العجل. أكلت الربا، واغتصبت الأرض، واعتَدَت على الأمم..إسرائيل يلاحقُها غضب الله.
    (ينصرفان ويلاحظ عن بعد ملاكاً ضخماً أسود كالغراب، وجهه طافح بالغضب)
محمد : من هذا يا جبريل؟
جبريل : هذا مالك خازن النار، خلقه الله من سخطه وغضبه، ادن منه وسلم عليه.
محمد : السلام عليك يا مالك، أنا محمد.
مالك   وعليك السلام.
محمد : افتح لي الباب حتى أرى النار.
مالك : ليس ذلك في يدي يا محمد.
محمد : يا جبريل..
جبريل : ليس ذلك في يدي، ولم يُفتح لي بابُها من قبل.
    (زلزلة وصوت كهزيم الرعد مع الصدى يهز أركان المسرح، وعلى شاشة العرض يتوضع سطران: الأول عبارة عن كسر حروف متداخلة ومضيئة بألوان متعددة، كأنها لوحة حروفية تشكيلية. والثاني حروف واضحة مقروءة كأنها ترجمة للسطر الأول:
الصوت : يا مالك افتح باب النار لحبيبي محمد يجول فيها مع الأمين جبريل.
مالك : سمعاً وطاعة، ها قد جاء الأمر من صاحب الأمر (يفتح الباب) تفضلا بالدخول.
     
    في حضرة النار
     
    (ينار المسرح بألوان متعددة تتوالى أو تتداخل: حمراء بلون النار، صفراء شاحبة، زرقاء غامقة، سوداء شاحبة. كل لون يعطي مناخ المشهد.

على شاشة السيكلودراما واستكمالاً وامتداداً للمناظر التي تجري على الخشبة تتوالى مشاهد مناسبة موازية:

 بركان متفجر ينداح منه المهل.

 أراض شققها الجفاف وأشجار عارية.

خرائب وأنقاض يستند إلى جدرانها المتداعية وفي الساحات القذرة المهملة أناس بؤساء متباعدون.

 أجواء صقيعية وعواصف ثلجية وأشجار اقتلعتها الرياح العاتية وكائنات معذبة أشبه بالجن يتكومون بحثاً عن الدفء.

يتركز المنظر على شجرة هائلة تغيب جذورها أسفل الشاشة تخترق فروعها فضاءها وسماءها، ثمارها المتدلية ذات أشكال تشبه رؤوس الشياطين.

محمد : ما هذه الشجرة الراعبة يا جبريل، ثمارها كأنها رؤوس الشياطين؟
جبريل : هذه شجرة الزقوم، جذورها ضاربة في قاع الجحيم، وفروعها تجتاز طبقات جهنم.
محمد : ومن يأكل من ثمارها؟
جبريل : يطعم من ثمارها المشركون والملوك الظالمون الذين ألَّهوا أنفسهم، وكل معتد أثيم، فإذا امتلأت منها بطونهم سقوا ماء الحميم.

(تعتم الشاشة)

    *   *   *
      على المسرح الملَك المجنَّح ذو القرنين و على رأسه خوذة بجناحين يفردهما،  يجلس وأمامه طاولة وحاسب يسجل فيه الوافدين ويدلهم على مكانهم في الجحيم.

محمد وجبريل في زاوية المشهد يقفان ويراقبان.

تتعاقب الوفود أمام الملَك ذي القرنين وهي تعلق في أعناقها بطاقات سوداء عليها أرقامها. يدخل ثلاثة: الأول ملتح، والثاني رجل بنظارات ولحية صغيرة رفيعة عليه هيئة العلماء يحمل ملفاً فيه أوراق، والثالث امرأة بملابس غير محتشمة، الملَك يفرد قرنيه للاستماع)

ذو القرنين : أنتم ما سلككم في سقر؟
الملتحي : يا سيدي ذا القرنين، أنا تاجر أبيع وأشتري بحرِّ مالي، أخاف الله وقد أرخيت لحيتي على ذلك علامة، وحججت ثلاث مرات، لا أدري ما الذي جاء بي إلى هنا، لعل في الأمر تشابه أسماء.اسمي الثلاثي هو ..
ذو القرنين : دعني من اسمك الثلاثي، هنا لا أسماء، أنتم مجرد أرقام، ينظر إلى الرقم في صدره ويضعه على محرك البحث في الحاسب، أنت الرقم 5،7،1، عشرة أصفار، 9. أنت تاجر مواد غذائية، كنت مع جماعة من التجار مثلك تحتكرون البضائع، الزيت والسمن والأرز والعدس وغيرها، وعندما بدأت الحرب رفعتم الأسعار بشكل فاحش، وحدثت المجاعة ومات كثير من الناس. اتجِه نحو الباب رقم خمسة، (ساخراً) أتمنى لك إقامة تليق بمقامك.
    (يتقدم الثاني وهو العالم ذو النظارات واللحية الصغيرة الرفيعة )
العالم : أنا عالم أحمل معي أبحاثي وهي في خدمة البشرية.
ذو القرنين : أنت الرقم 5،7،2، عشرة أصفار، ستة، صفر صفر، 3700 عالم في مختبر للحرب الجرثومية.
العالم : هذا صحيح، كنت أظن أن للعلماء كرامةً ومعاملة خاصة يوم القيامة.
ذو القرنين : (يبحث في الحاسب) أنت لعبت في مورثات أحد الفيروسات وأنتجت منه جيلاً جديداً يتنفسه الناس مع الهواء، ويصل إليهم باللمس والعطس حتى تباعد الناس عن بعضهم بعضاً، وكنت تحاول نقل الفيروس عن طريق وسائل الاتصال الإلكترونية أيضاً وبخاصة شبكات الهاتف المحمول، لقد قتلت الملايين في حرب اقتصاديةٍ جرثوميةٍ تقتلُ البشر ولا تبقي على غير الحجر.
العالم : لم يكن هذا قصدي.
ذو القرنين : وما كان قصدك؟
العالم : العلم من أجل العلم، مثلما يقولون دائماً: الفن من أجل الفن، وكانت تجربة هامة جداً وكنت في سباق بين العلماء.
ذو القرنين : (ساخراً) تستطيع أن تكمل تجربتك هنا .. الباب رقم 6
    (العالم يخرج)
ذو القرنين : (للمرأة) تقدمي حتى أرى رقمك.
المرأة : تريد أن ترى رقمي أم صدري؟
ذو القرنين : نحن الملائكة لا تغوينا امرأة.
المرأة : هه..هاروت وماروت أغوتهما امرأة.
ذو القرنين : هاروت وماروت كانا ساحرين.
المرأة : لكم سحركم ولنا سحرنا.
ذو القرنين : (يكتب على الحاسب) 6453 عشرين صفراً 112
المرأة : لن تجد شيئاً، فأنا امرأة مثقفة مستنيرة حرة، كنت أعمل وأساعد زوجي في مصروف البيت. كنت مدوِّنة وأست جمعية لحقوق المرأة. ولا علاقة لي بالسياسة، لا موالاة ولا معارضة، هذا يتعارض مع الحرية.
ذو القرنين : (يقرأ) أقمتِ علاقة مع رب العمل، وأدخلت على زوجك طفلاً ليس من صلبه، أجهضتِ ثلاث مرات في الشهرين الثاني والثالث فقتلت أنفساً خلقها الله. أغويت جارات لك بالزنى باسم حرية المرأة. أسست رابطة ليليث الحرة تدعو إلى التحلل من قيود الزوجية، وحتى الحب هو محرم في هذه الرابطة لأنه كما ترين يحد من حرية المرأة في جسدها وفكرها.

إلى الباب رقم 7 أيتها المدوِّنة الشريرة وتمتعي هناك بجسدك يا ذات الرقم..

المرأة : (بنزق) شكراً أعرف رقمي (تخرج)
    (الملَك ذو القرنين يعمل على الحاسب، يتوقف، يشعر بالحر، يتناول من جانبه مروحة يدوية من طراز قديم من القش ويحرك بها الهواء أمام وجهه، يدخل رجل وهو يغني)
الرجل : كنت بزماني**سلطان زماني

عدّى عليّا** الهوى ورماني*

ذو القرنين : هيه.. أنت ذاهب إلى النار وتغنّي!
الرجل : وهل تريدني أبكي؟ أنت تروِّح عن نفسك بهذه الكشاشة وأنا أروِّح عن نفسي بالغناء.
ذو القرنين : (يبحث في الحاسب ثم يقرأ) الرقم 177، عشرين صفراً، خمسة، صفر، 8452
الرجل : وماذا تقول صفحتي؟ أنا رجل عشت حياتي وكنت أظن أننا لن نبعث بعدها. تمتعت وخلت أنها حياة واحدة نعيشها. لديَّ بعض الذنوب الصغيرة التي لا تستحق المحاسبة على ما أظن، كانت علاقتي بتلك المرأة بمثابة غسيل أموال لذنوبي القليلة.
ذو القرنين : هلاّ تسكت قليلاً؟
الرجل : حسن سكت.
ذو القرنين : أقمت علاقة مع امرأة متزوجة تعمل عندك سكرتيرة، اقترفت كل المحرمات (ساخراً) الصغيرة: الكذب، الزنى، الغش، الرشوة، القمار، سرقة أموال وأتعاب الناس،اشتريت منصب وزير وصرت تبيع الوظائف في وزارتك بيعاً، نهبت الأموال العامة.
الرجل : يا عظيم القدر بعيد النظر ذا القرنين، كنت مضطراً لذلك، كل ما فعلته كان بسبب تلك المرأة فقد كان مصروفها كبيراً ومتطلباتها لا تنتهي، وأنا ليست لي قدرة على الصوم، حتى في رمضان؛ فقد كان جسدها شهياً مشتعلاً كالنار، كلما أفطرت عليه ازددت جوعاً.
ذو القرنين : الباب رقم 7 ستجد وراءه إفطارات تشبعك.
الرجل : (يناوله بطاقة من جيبه) انظر أيها الملَك اللطيف، هل صاحبة هذا الرقم معي وراء الباب رقم 7؟
ذو القرنين : لقد سبقتك إليه منذ لحظات.
الرجل : الآن عذُب العذاب، وطاب المقام (يغني)

كنت بزماني**سلطان زماني

عدّى عليّا** الهوى ورماني

(يخرج)

    *   *   *
    (يسمع صوت تلاسن بين اثنين من الخارج)
صوت الأول : عقائدكم بالية فاسدة، اغتصبتم الخلافة اغتصاباً وجعلتموها وراثية.
صوت الثاني : أنتم زنادقة، قرمطيون، مزدكيون،  باطنيون فجرة، أحدثتم في الدين ما ليس منه، عليكم اللعنة.
    (يدخلان)
الأول : لو كان سيفي معي لقطعت رأسك ورميته للكلاب الشاردة.
الثاني : ولو كانت معي بندقيتي لأطلقت النار عليك ورميت جثتك النتنة في المجارير.
ذو القرنين : هيه.. أنتما في خصومة دائمة منذ مئات السنين، يا لكما من جهولين أحمقين.. اقتربا.
الأول : (يتقدم) يا سيدي أنا أبو طاهر الجنابي.
الثاني : (يتقدم) وأنا أبو بكر البغدادي.
ذو القرنين : لا أسماء هنا، أنتما مجرد رقمين مهملين من أرقام لا حصر لها.
الأول : هل هذا معقول! أنا الذي حكمت البحرين وعمان، وغزوت البصرة والشام والكوفة، وانتصرت على عساكر السلطان، وأجبرت خليفة بغداد على دفع الجزية… أنا مجرد رقم مهمل!؟
الثاني : وأنا الذي أسست دولة الخلافة، وحكمت ما بين الموصل والرقة، وأعدْتُ الدين إلى أصوله، أنا مجرد رقم مهمل!؟
ذو القرنين : (يطالع ويكتب في الحاسب ويخاطب الأول) 13 ثلاث عشرة ، 645 ثلاثة عشر صفرا. أنت يا قرمطي استحللت مع عساكرك المحرمات، جعلت الناس شركاء في النساء بحجة استئصال أسباب المباغضة فلا يجوز لأحد أن يحجب امرأته عن صاحبه، جعلت الثروة مشاعاً مثل النساء، أبطلت القول بالمعاد والعقاب وقلت إن الجنة هي النعيم في الدنيا، أنشأت ديناً جديداً، أعملت السيف في رقاب الناس ممن لا يؤيدون معتقداتك. قطعت الطرق، قتلت الآلاف، أغَرت على الحجيج وفتكت بهم ورميت جثثهم في ماء زمزم حتى امتلأت وامتلأ المسجد بالجثث، ثم سرقت الحجر الأسود.

(يخاطب الثاني) أما أنت يا داعشي فقد دعوت إلى الخلافة في عصر الثقافة، ونصبت نفسك خليفة، وأرهبت الناس حتى يتبعوك، وصار ذبح  الناس كما يذبح الخراف شعاراً لك. شوهت الدين باسم الدين، وأبحت الزنى باسم الجهاد، وحاصرت المدن ومنعت عنها الماء والطعام والدواء وفيها الشيوخ والنساء والأطفال والمرضى، وتغلغل رجالك في القرى والحارات حتى اضطر الناس إلى النزوح أو الرضوخ، وباسم معتقدك أعدت نظام السبايا وسوق النخاسة ووزعت الفتيات السبيات على أصحابك فانتهكت الأموال والأعراض والبلاد والعباد.

الأول والثاني : نحن يا مولانا..
ذو القرنين : أنتما مولاكما الشيطان. كلاكما إلى الباب رقم 4 وأكملا هناك الخصام والحوار.
    (يظلم المسرح وإضاءة مركزة على جبريل ومحمد)
محمد : لقد أحدثوا في الدين ما ليس منه. يحزنني ما يجري.
جبريل : إنها الحياة ومتناقضاتها، حتى بعد أن غسِلت الأرض بالطوفان عاد الناس إلى الفساد والعصيان.
محمد : وما وراء هذه الأبواب يا جبريل؟
جبريل : سترى ظلالهم من وراء ستارة.
    *   *   *
    (ينار جدار الزمن، مشهد لثري بني إسرائيل قارون أمام قصره الفخم، ووراءه حامل مفاتح خزائنه وهو ينوء بحمل مئات المفاتيح، يبتسم فرحاً بغناه، الرجل حامل المفاتيح يسقط على الأرض من ثقلها).
قارون : انهض يا حمار، كن حريصاً، هذه مفاتيح خزائني، لو جمَّلتها على حمار لكان أفضل منك.
    (ينهض حامل المفاتيح، يمر شيخ يسير على عكاز، ويحمل مصباحاً في وضح النهار)
قارون : (ساخراً) أنت، أيها الشيخ، تحمل مصباحاً والشمس طالعة؟
الشيخ : أحمله لأمثالك ممن لم تنور قلوبهم الشمس.(يتابع السير في طريقه)
    (قارون يرفع رأسه وصدره كبراً، يجر ذيل ثوبه المزركش  الطويل، يسير خطوات وراء الشيخ وينادي)
قارن : أنت لم تعرفني إذن يا حامل المصباح، أنا قارون، لا أحد يقاويني، لأجعلنَّ العالم يحكمه المال، وبالمال عندي، سأسيطر على السياسات والحكومات حتى يسجد الجميع في محرابي.
    (يخرج الشيخ غير آبه، وفجأة تزلزل الأرض وتميد ويهوي القصر، وتخسف الأرض وتنشق، وتبتلع القصر وصاحبه ومفاتيح كنوزه.

–       يتلوه مشهد انهيار مبنى التجارة العالمي (الوول ستريت)

–       يتلوه مشهد لفيروس الطاعون أو الكورينا اللامرئي يطير في الهواء كطبق طائر فوق الجبال والبحار مجتازاً حدود الدول، مخترقاً حاملات الطائرات والبوارج وترسانات الأسلحة، وهي تطلق عليه النار بلا جدوى.

–       يعقبه مباشرة مشهد رجال ملثمين يرفعون من زوايا الطرقات  جثثاً قتلها الوباء إلى عربات تسير لترمى في مقابر جماعية)

(يظلم جدار الزمن)

    (تسدل ستارة شفافة بعض الشيء من يمين المسرح إلى يساره لتعرض الظلال خلفها كمشهد مواز في الجحيم.

من وراء الستارة ظلال نيران مشتعلة هنا وهناك، وثمة قدر كبير توقد تحته النار، وملَك أسود مخيف يغذي النار بالحطب، ويلقي في القدر الحلي والنقود ومفاتيح خزائن قارون ويذوبها.

قارون يجلس عارياً في طست كبير يغطي وجهه بكفيه، والملَك يحممه ويصب مذاب المعادن بطاسة كبيرة فوق بدنه، وملاك آخر أشد قبحاً يقوم بتنظيف جسم قارون بفرشاة كبيرة كالمكنسة.

تظهر كتابة رقمية ضوئية على الشاشة بكِسَر حروف غير مقروءة ، وتأتي ترجمتها في الأسفل متزامنة مع صوت قراءتها تسجيلياً)

الصوت : “والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم* يوم يحمى عليها في نار جهنم فتُكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون”*
    *   *   *
    (إضاءة المسرح وعودة إلى المشهد قبل السابق.

الملَك ذو القرنين وأمامه الحاسب ينتظر ورود فوج آخر.

يدخل شاب يعلق في عنقه بطاقة خضراء وهو يجر وراءه شخصاً مكمم الفم، موثق اليدين، في رجليه سلسلة تقيد حركته، ويعلق في عنقه بطاقة سوداء)

الشاب : لقد عثرت عليه أخيراً في ساحة الحشر وجئتك به يا سيدي.
ذو القرنين : ما هذا؟ ما الذي جاء بك إلى هنا؟ بطاقتك خضراء ورقمك غير موجود عندي.
الشاب : أعرف، لكن هذا البصاص واحد من زبانية الطاغية، وجلاّد السلطان ولي ثأر عنده، بحثت عنه في ساحة الحشر حتى وجدته.
ذو القرنين : وماذا تريد؟
الشاب : أريد أن تسأل لي ربي عن هذا البصاص الجلاّد وعن سلطانه، لماذا أخذني من مقاعد الدراسة واعتقلني وألقاني في السجن عشر سنوات وعذَّبني، ثم قتلني. أبي ابيضت عيناه من الحزن، وأمي ماتت وهي تضع قميصي تحت وسادتها.
ذو القرنين : ما دمت مظلوماً فسل ربك بنفسك؛ فليس بين المظلوم وربه حجاب.
الشاب : يا رب.. يا رب.. قد سمعت قولي.. إني مظلوم فانتصر.
    (تتوالى على الشاشة الكتابة الرقمية المضيئة بكِسر الحروف، وترجمتها في الأسفل، مع الصوت التسجيلي)
الصوت : “وعزتي وجلالي، لا يجاوزني ظلم ظالم، لأعذِّبن كل من عذّب روحاً بغير حق. أنا الملِك الديّان، لا أظلم اليوم أحداً، أنا اليوم أقتص من الظالم للمظلوم”
ذو القرنين : الرقم 7243 صفر،صفر 4،6، 8 عشرة أصفار (يقرأ) كنت بصاصاً حقيراً، وجلاّداً مجرماً، تقاريرك الكاذبة ترفعها إلى الطاغية عدو الله والناس. أيتمت الأطفال، وأرملت النساء، وفجعت الآباء بأبنائهم، وانتهكت الأعراض، وأكلت المال الحرام.

(للشاب) سقه إلى الباب رقم 5 وعد من حيث أتيت.

(يخرجان)

    (تدخل مجموعتان والأغلال في أعناقهم، الأولى هم السادة المستكبرون والثانية هم الأتباع المستضعفون)
مقدَّم الثانية : يا أيها الملَك العادل، جئنا وسادتنا لتحكم بيننا. هؤلاء سادتنا، اتبعناهم فأضلونا السبيل.
مقدَّم الأولى : بل اتبعتم أهواءكم.
مقدم الثانية : أنتم أجبرتمونا على طاعتكم وعبادتكم. “لولا أنتم لكنا مؤمنين”.
مقدم الأولى : “أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم، بل كنتم قوماً مجرمين”
مقدم الثانية : “بل مكر الليل والنهار، إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً”.
ذو القرنين : (يبتسم) “إن ذلك لحقٌّ تخاصم أهل النار”*، ألم يأتكم نذير؟
مقدم الأولى : “بلى، قد جاءنا نذير، فكذبنا وقلنا: ما نزَّل الله من شيء”

“لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا من أصحاب السعير”

مقدم الثانية : “ربنا، إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل، ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً”.
ذو القرنين : “لكلٍّ ضعف، ولكن لا تعلمون”
مقدم الثانية : “إنا كنا لكم تبعاً .. فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار؟”
مقدم الأولى : إنّا كل فيها ، إن الله قد حكم بين العباد”.
مقدم الثانية : “لو أن لنا كرةً فنتبرّأ منهم كما تبرّؤوا منا”.
مقدم الأولى : “ربنا أخرنا إلى أجل قريب، نجب دعوتك، ونتبع الرسل”.
مقدم الثانية : أجل “ربنا أخرنا إلى أجل قريب، نجب دعوتك، ونتبع الرسل”.
ذو القرنين   أولم تكونوا أقسمتم من قبل، مالكم من زوال، وضرب الله لكم الأمثال فأنكرتم؟ لقد حق القول عليكم، هيا.. الجميع إلى الباب رقم 1، تابعوا خصوماتكم وراءه.

(يخرجون ناكسي الرؤوس)

(إظلام)

     
    الخالصة
     
    (مركبة المعراج ترتفع ثم تتوقف أما الباب والأسوار العالية الياقوتية للسماء السادسة)
جبريل : نحن الآن في الخالصة، السماء السادسة. (يطرق الباب)
صوت الحارس : من الطارق؟
جبريل : جبريل، افتح يا حارس الخالصة.
الحارس : (يفتح الباب) ومن معك؟
جبريل : محمد حبيب الله.
الحارس : مرحباً بك وبحبيب رب العالمين. (يفسح لهما الطريق محيياً)
    (يغلب اللون الياقوتي الأخضر على الخالصة. على الشاشة  مشهد بانورامي لملائكة وأنبياء وأناس من شعوب وأجناس مختلفة: بيض وسود وسمر وصفر يتوزعون في الدروب وهم في حركة طبيعية، يسيرون أو يصلون ويتأملون أو يتحادثون. هناك كهل بيده عصا لها رأس وذنب أفعى.

تطفأ الشاشة وتتركز بقعة ضوء على الكهل وهو موسى النبي، يلتفت فيرى محمداً وجبريل)

موسى : أوه.. هذا جبريل ومعه محمد، به قد بشَّرَت التوراة، لقد بُعث، وتزعم إسرائيل أني أكرم الخلق على الله وأنهم شعب الله المختار، وهذا محمد النبي العربي أكرم مني، وأمته خير أمة أخرجت للناس.
    (بقعة ضوء على جبريل ومحمد)
محمد : من هذا يا جبريل؟
جبريل : هذا موسى بن عمران، جعله الله كليماً، ادن منه وسلم عليه.
محمد : (يدنو) السلام عليك يا ابن عمران.
موسى : وعليكم السلام، مرحباً بالأخ الصالح والنبي الناصح. أبشر يا حمدوت، يا مشتهى كل الأمم؛ فالخير كله فيك وفي أمتك من بعدي إلى يوم القيامة ما استقامَت وعدلَت ورفعَت الظلم، كنت أعلم أنك ستبعث.
محمد : وكيف؟
موسى : صدقت التوراة ورب الجنود حين قال: فأزلزل السموات والأرض، والبحر واليابسة، وأزلزل الأمم، ويأتي مشتهى كل الأمم فأملأ هذا البيت مجداً*.
جبريل : هيا يا محمد ولنتابع جولتنا في الخالصة.
    (إضاءة خفيفة، يسيران معاً، بقعة ضوء مركزة على ملَك نصفه الأعلى ثلج ونصفه الأسفل نار توقَّد، وله رؤوس وأوجه وأعين وألسن عدة، وهو غارق في الترانيم والتسابيح).
محمد : من هذا يا جبريل؟
جبريل : هذا ملَك نصفه ثلج ونصفه نار، هنا يا محمد لا برودة ولا سخونة، هنا تتفاغم المتضادات، وتنتهي الإثنينيات في الواحد، ويتآخى الثلج والنار بالحب المطلق.
محمد : سبحان من ألف بين الثلج والنار، أللهم ألّف بين قلوب عبادك، ومتِّعهم بالحب الكبير الذي تنعدم فيه الحدود والأجناس.
    (يسيران وبقعة ضوء على ملك عجب، جميل الخلقة، مشرق الوجه، ضاحك الثغر، في يده سلة ينثر منها الورد والزهور على المارة).
محمد : من هذا يا جبريل؟
جبريل : هذا ملَك عجب، ينثر الزهور، وزهوره أفكار وعبارات غير مقروءة، فمن أصابته زهرة اعتمر قلبه بالحب والرضى، هذا أنصح الملائكة لبني آدم.
    (يسيران وبقعة ضوء على ملَك نصفه الأعلى أبيض ونصفه الأسفل أسود، وجوانب جسمه وأطرافه تتلاشى في الفراغ)
محمد : وهذا من يكون يا جبريل؟
جبريل : هذا ملك مكتوب على جبينه بالنور والأحرف الربانية التي لا ترى بالعين:

” هنا ينعدم الزمان والمكان، ويتلاشى الليل والنهار، ويفوز السالك العاشق بالقرب الأرحب”.

محمد : آه.. كم أنا مشوق للقاء ربي وأفوز بالقرب الأرحب.
جبريل : إذن.. هيا إلى العجيبة السماء السابعة يا محمد.
    (إظلام)
     
    العجيبة
     
    (جبريل ومحمد في المركبة وهي صاعدة إلى السماء السابعة)
صوت محمد : إلى أين الآن يا جبريل؟
صوت جبريل : إلى العجيبة، السماء السابعة، حيث يوجد البيت المعمور.
    (تتوقف المركبة، يهبطان منها ويقفان أمام الأسوار الدرِّية العالية، جبريل يطرق الباب)
صوت الحارس : من هناك؟
جبريل : جبريل.
صوت الحارس : ومن معك؟
جبريل : محمد.
الحارس : (يفتح الباب) مرحبا بك وبمن معك.

(يدخلان ويسيران. ثمة أراض وتلال مغمورة بالأنوار، وملائكة فوق التلال تردد في تبادل وتناغم : “سبحان خالق النور”) 

حبريل : هؤلاء هم الملائكة الروحانيون. هم مجرد أرواح ولا يتشكلون في أجساد كغيرهم من الملائكة، يسبحون فإذا انتهوا من تسابيحهم وتراتيلهم تلاشوا في الفضاء كأن لم يكونوا.
    (عالم شبيه بالعالم الأرضي في كل شيء إلا أن إشراقه وبهاءه عجيبان لا يوصفان، حتى ليبدو العالم الأرضي عالمَ ظلال بالنسبة لهذا العالم السماوي. ووسط هذا العلم يقوم البيت المعمور وهو الكعبة التي في الأرض، وعلى بعد منها يجري نهر الحياة.

رجل صبيح الوجه، يجلس على  سرير من زبرجد أخضر مسنداً ظهره إلى البيت المعمور، وعن يمينه باب كُتِب في أعلاه “جنة المأوى”، وبين يديه صحف يقلبها ويقرأ فيها، ثم يضعها جانبا ويتناول كرة زجاجية على حامل، يديرها وينظر ما يظهر فيها)

محمد : من هذا يا جبريل؟
جبريل : هذا أبوك إبراهيم الخليل يقرأ قي الصحف، ادن منه وسلم عليه.
محمد : (يدنو) السلام على من أنزلت عليه الصحف.
إبراهيم : وعليك السلام يا محمد، مرحباً بالولد الصالح والنبي الناصح. أبشر فالخير فيك وفي أمتك إلى يوم القيامة، وإن جبريل رافعك إلى ربك ليحابيك ويكرمك.
محمد : وما قعودك هنا؟
إبراهيم : أقرأ في الصحف وأنظر إلى أعمال أولاد آدم في هذه المرآة.
محمد : وما هذه الزجاجة بين يديك؟
إبراهيم : كرة تعكس لي أعمال أولاد آدم.
محمد : وما قصة النمرود؟
إبراهيم : في كل عصر نمرود وشهيد. “وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون”
محمد : دعني أنظر في هذه الزجاجة، أخاف على أمتي وعلى بقية الأمم.
إبراهيم : انظر يا ولدي، ولكن لا تجزع فقد تبدو المناظر مؤلمة.
    (ينار جدار الزمن فتبدو الأرض مصغرة ثم يتسع المشهد فنرى حركة الناس فيها، ومشاهد لبائسين ثم مظاهرات ترفع لافتات تطالب بالخبز والحرية والعدالة، ثم مشاهد تعذيب في السجون. وتتابع المشاهد لحرب دائرة وقصف وتدمير وتنتهي بقصف ذري، ويظلم الجدار)
محمد : وما سر النار التي كانت برداً وسلاماً ؟
إبراهيم : ذرة عشق في القلب تطفئ نيرانهم. اذهب يا ولدي ولا تتأخر عن محبوبك.
    (جبريل ومحمد باتجاه البيت المعمور. الملائكة الروحانيون يطوفون حوله)
محمد : (جبريل يذهب نحو نهر الحياة ومحمد ينفرد بأحد الملائكة الذين يطوفون حول البيت المعمور ويسأله)

كم لكم تزورون هذا البيت؟

الملك : من قبل أن يخلق الله آدم بألفي عام.
محمد : شكلكم غريب لطيف كأنكم نور وهواء، فكيف تُخلقون؟
الملك : ألم يخبرك سيدنا جبريل؟
محمد : كلا.
الملك : إذن انظر هناك: إلى نهر الحياة.
    (تنار الشاشة ويظهر نهر الحياة وجبريل يغطس الماء ثم يخرج مبللاً، ينفض جناحيه فتتساقط منها قطرات ماء الحياة، القطرات تتفجر كما الذرة، تنبعث منها هالات من الأنوار، تتشكل لتصبح ملائكة روحانيين)
الملك : هكذا يا محمد نحن نتشكل من قطرات ماء الحياة المتناثرة من جناحي جبريل.
    (يعود محمد فيلتقي جبريل في الموضع الذي تركه فيه)
محمد : سمعت عجباً عن تشكل الملائكة الروحانيين يا جبريل.
جبريل : ولم العجب، إنه نهر الحياة .. وماء الحياة، والخالق هو الله وحده، ألم يصنع السامري عجلاً ذهبياً من أثري وعَبَده بنو إسرائيل؟

والآن هيا بنا إلى سدرة المنتهى.

    *   *   *
    (ترتفع مركبة المعراج حتى تلوح سدرة المنتهى من بعيد والأنوار تتشعشع من أغصانها وأوراقها، يهبطان ويتجهان نحو السدرة)
محمد : أهذه سدرة المنتهى؟
جبريل : نعم، هنا تنتهي الرحلة، أما معراجك فمستمر.
محمد : ما أعظمها من شجرة!؟
جبريل : انظر، من أصلها تنبع جداول وأنهار، مياهها مختلفة الطعوم منها ما هو بطعم العسل، ومنها ما هو بطعم الخمرة أو اللبن، أو غير ذلك، وفي مياهها تسبح أسماك الزينة المقدسة بألوانها البديعة.
محمد : ولم كانت السدرة هنا وكأنها تظلل جميع السماوات؟
جبريل : لآنها رمز الحياة والانبعاث والتجدد.
    (تهب نسائم فتتمايل أغصان الشجرة وتتساقط منها ثمار متنوعة، ويصدر مع تمايل الأغصان موسيقا كونية تتفاغم مع تغاريد الطيور التي تعشش فيها وتتقافز بين أغصانها، ثم تنطلق أسراب منها لتقوم باستعراضات باهرة في الفضاء.

تحت الشجرة يتفيأ ملائكة وأناس من مختلف الأجناس، فهي تبدو كمظلة ومستراح لجميع المخلوقات، وتمتد.. وتمتد ما وراء حدود النظر).

محمد : أرى طيوراً خضراً على الشجرة، بعضها يشدو بصوت محزون وبعضها الآخر بصوت مسرور.
جبريل : هذه أرواح الأطفال، المحزون من فارق أهله عن قريب، والمسرور من فارق أهله عن بعيد. ها مقر الأرواح، وإليها تنتهي أعمال الإنسان.
محمد : أرى عن بعد هناك جناناً ورياضاً وأرواحاً وأشخاصاً يتفيؤون  في ظلال السدرة ما تزال أجسادهم تنزف دماً.
جبريل : هذه جنة المأوى ، وأولئك هم الشهداء وصلوا حديثاً وأجسادهم ما تزال تنزف دماً زكياً.
    (يعلو صوت من الأعالي مرتفع كأزيز طائرة)
محمد : ماهذا الصوت الغريب؟
جبريل :  هذا صوت الرفرف يحمله ملك قوي، لتركبه فيحملك إلى ربك. أبشر فقد حان اللقاء يا محمد.

(إظلام)

     
    في الطريق إلى هووو
     
    (يهبط الملَك الطائر من الأعالي بالرفرف الأخضر (بساط طائر)، يبسطه أمام محمد، وضوؤه يغلب ضوء الشمس)
جبريل : اِرْقَ يا محمد.
محمد : (يصعد) وأنت؟ اصحبني يا جبريل.
جبريل : لا أستطيع.
محمد : أ في هذا المكان يفارق الصاحب صاحبه، والأخ أخاه؟ لم تتركني وتتخلف عني؟
جبريل : يعز عليَّ أن أتخلف عنك، والله لو خطوت خطوة واحدة لاحترقت بالنور، ما منّا إلا وله مقام معلوم، أنت ضيف الرحمن فقط، وقد عرج بك ربك ليحابيك ويواسيك ويكرمك ويريك آياته.
    (تنار الشاشة ويكتب عليها بكسر الحروف وبالترجمة، وصوت مجلجل يقول:)
الصوت : زجوا حبيبي محمداً في النور.
    (جبريل يضم محمداً إلى صدره ويودعه، وينطلق الرفرف مرتفعاً، يعبر الرفرف فوق بحر من نور أبيض ينشق عن ملَك هائل المنكبين، ثم فوق بحار عدة من أنوار: أخضر وأصفر…أنوارٍ متعددة، وعلى كل بحر ملَكه الخاص. محمد يشعر بالوحشة والوحدة فيسجد داعياً) 
محمد : يا غياث المستضعفين، ويا إله العالمين،   ويا رب العرش العظيم، يا نور الأنوار، آنس وحدتي في هذه الساعة بعبد من عبيدك يكلمني ويؤانسني.
    (يسمع صوت نداء من ساحل البحر)
صوت النداء : يا محمد مُرِ الرفرف يهبط وأقبل عليّ.
محمد : اهبط..اهبط إلى الساحل ولبِّ النداء.
    (على الساحل ملك عظيم الخلقة يكيل الماء بمكيال ويزنه بميزان، يقترب من محمد)
محمد : السلام عليكم.
ميكائيل : وعليك السلام يا محمد.
محمد : لا شك أنك ميكائيل.
ميكائيل : أجل.
محمد : أخبرني عن اسمك وأسماء بعض أخوتك من الملائكة.
ميكائيل : إنما سميت ميكائيل لأن الله أوكلني بالمطر والنبات، وها أنا أكيل الماء للناس بمكيال وأزنه بميزان، ثم أرسله إلى السحاب يذهب به حيث شاء الله.
محمد : وما الرعد والبرق؟
ميكائيل : إذا حملت السحاب الماء أرسل الله ملك الريح يسوقه حيث شاء ليقع فيه زمجرة وقعقعة واصطدام ويخرج منه نور هو البرق وصوت هو الرعد، ثم ينهمر المطر.
محمد : وجبريل؟
ميكائيل : ألم تكن معه، لماذا لم تسأله.
محمد : استحييت.
ميكائيل : سمي جبريل لأن الله أعطاه الجبروت، فهو صاحب الخسف والمسخ والقذف والزلازل والصواعق. وبه أهلك الله الأمم الخالية.
محمد : وعزرائيل؟
ميكائيل : سمي عزرائيل لأنه موكل بقبض الأرواح وكلنا نخافه*
محمد : وإسرافيل
ميكائيل : سمي بهذا لأنه ليس في الملائكة أشد منه أجنحة وريشاً، وهو صاحب الصُّور.
محمد : وما للناس اختلفوا فيكم وعبدوكم؟
ميكائيل : نحن نلبي حاجات الناس بأمر الله، والإنسان ذو حاجة، فهو يلجأ إلى من يعتقد أنه يلبي حاجته فيعبده، واختلفوا في جنسنا لأنهم رأوا الكائنات الحية تقوم على زوجين،  وبهما تستمر الحياة، ولم يدركوا أن الذي خلق الزوجين قادر على أن يخلق جنساً لا تدركه الزوجية.
محمد : أدَعُكَ في عملك يا ميكائيل فأنا ذاهب لمقابلة الحبيب.
    *   *   *
    (يحلق الرفرف مخترقاً صفوفاً من الملائكة حتى ينتهي إلى إسرافيل وهو ملَك هائل ينشر أجنحته فيسد بها الأفق، له ما لا يعد من الرؤوس والوجوه والأفواه والألسن، يسبح الله بآلاف اللغات المتباينة، قدماه في التخوم السفلى للسماء السابعة ورأسه في الأعالي حيث يحمل العرش على كاهله، يضع الصور في فمه متهيئاً للنفخ فيه، وللصور ثقوب بعدد الخلائق والشعوب، وأمام عينيه علِّق اللوحُ المحفوظ ، وترتسم الصورة على  الشاشة)
محمد : السلام عليك أخي إسرافيل.
إسرافيل : وعليك السلام يا حبيب الله والناس.
محمد : أراك هنا؟
إسرافيل : هذا مقامي منذ خلقني الله إلى قيام الساعة، أسمع كلام الله.
محمد : وكيف تسمع كلام الله؟
إسرافيل : أسمعه أشد من الريح القاصف.
محمد : إني مقبل على ربي، وأنا بشر، فكيف أتحمل قصف الكلمات الربانية.
إسرافيل : لكل امرئ مقامه، أنت حبيبه ونجيه، سيكون كلامه إليك كالنسمات العذاب في ليلة صيفية.
محمد : وما يقوله سبحانه؟
إسرافيل : يقول: كن .. فيكون. كل المصائر معلقة بين الكاف والنون.
محمد : جئت وحدي ولم يعد معي جبريل أَسألُه، تركني عند السدرة، ففي أي مكان أنا الآن؟
إسرافيل : ارفع رأسك.
    (يرفع محمد رأسه فيرى العرش محاطاً بالأنوار، هو أعظم من كل ما رآه في السموات والأرض، ويرى رجلاً مغيَّباً في نور العرش)
محمد : من هذا المغيَّب في نور العرش؟
إسرافيل : هذا رجل كان في الدنيا لسانه رطب بذكر الله، وقلبه معلق بالعبادة وفِعل الخير لكل الناس، يدعو للعدل والسلام واحترام الإنسان حين تضطرم الفتن، وتسود الحروب، مطيع لوالديه، بار بأقربائه.
محمد : أرى حيّة هائلة تلتف حول العرش، رأسها لؤلؤة بيضاء، وعيناها ياقوتة صفراء،وأسنانها زمردة خضراء، رؤوسها وألسنتها السبعون تلهج بالتسبيح في كل اللغات، لم خلق الله هذه الحية المحيطة بالعرش والتي لا يُعرف مبتداها من منتهاها؟
إسارافيل : خلقها لينسى الإنسان عظمته فلا يتجبر أو يطغى وهو يرى الأكبر الذي لا يَعْظُمه أحد.
محمد : ومن هؤلاء حول العرش، وأرى بعضهم بصور مختلفة؟
إسرافيل : هؤلاء الملائكة الروحانيون، والكروبيون حملة العرش، وهم يبتهلون إلى الله ليسبغ رحمته على الكائنات.. استمع إلى ابتهالاتهم.
حامل1 : (على صورة إنسان) اللهم ارحم بني آدم ولا تعذبهم، وارزقهم عيشاً طيباً، وادفع عنهم برد الشتاء وحر الصيف.
حامل2 : (على صورة طير) اللهم ارحم الطيور، وآتهم رزقهم، واجعلهم بهجة وزينة لبني آدم.
حامل3 : (على هيئة سبع) اللهم ارحم السباع، وآتهم رزقهم، واجعل قبائلهم قوة لبني آدم.
حامل4 : (على هيئة ثور) اللهم ارحم البهائم والأنعام، آتهم رزقهم، واجعلهم ثروة لبني آدم.
    (ملك على صورة ديك، زغبه أصفر، وريشه أبيض، صدره كالذهب الأحمر، ورأسه درة وعرفه عقيقة حمراء، وجناحاه أخضران)
الملَك الديك) : (يصيح معلنا انتهاء ثلث الليل) سبحان الملك القدوس
    (على جدار الزمن تتجاوب بالصياح ديكة الأرض وتخفق بأجنحتها وتميل بأعناقها)
الملَك الديك) : (يصيح معلنا انتهاء منتصف الليل) سبحان الله العظيم.
    (على جدار الزمن تتجاوب بالصياح ديكة الأرض وتخفق بأجنحتها وتميل بأعناقها)
الملَك الديك) :  (يصيح معلنا موعد الفجر).
    (على جدار الزمن تتجاوب بالصياح ديكة الأرض وتخفق بأجنحتها وتميل بأعناقها، وتتجاوب في المآذن على مشهد الأرض أصوات مؤذني الفجر)
أصوات المؤذنين : الله أكبر، ألله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أنَّ محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الصلاة..
     
    شاهد الشهود
     
    (محمد يرفع رأسه فيشاهد ملكاً أبيض عظيماً كالثلج ومعه مجموعة من الملائكة)
الملك الأبيض : السلام عليك يا محمد.
محمد : وعليك السلام.
الملك الأبيض : سر معي يا حبيب الله.
محمد : إلى أين؟
الملك الأبيض   أنا موكلٌ بحملك على الرفرف لاختراق الحجب الدرِّيَّة.
    (تضاء الشاشة ويظهر الرفرف في الأعالي مخترقاً الحجب الدرية، الشخصيات لا تظهر على الشاشة سوى ظلها النوراني ولكن يصل صوتها، وتتوالى على الشاشة الظلمة والنور والألوان والأشكال حسب طبيعة أسماء ومعاني الحجب، وعندما ينتهي عرض أحدها يطوى كصفحة كتاب لتظهر صفحة أخرى وعليها اسم الحجاب الجديد)
صوت الملك : هذا حجاب الجبروت.. وهذا حجاب الدخان.. وهذا حجاب الظلمة.. وهذا حجاب النور .. وهذا حجاب الملْك، وهذا حجاب الوحدانية.. وهذا حجاب الصمدانية..
صوت محمد : كم هي هذه الحجب؟
صوت الملك : سبعون ألف حجاب، وأخرى لا يعلمها إلا الله
صوت محمد : أسمع صريف أقلام وأرى ألواحاً يكتب عليها.. ما هذا؟
صوت الملك : وصلنا حجاب الحضرة الدرّية، هذه هي الألواح يَكتبُ عليها الحَفَظة مصائرَ الناس وكلامَهم وأعمالَهم وما يجري عليهم في حياتهم.
    (ينار جدار الزمن ونرى حركة الناس اليومية ومشاهد أخرى فردية تعطي صورة لسلوكهم وطباعهم)
صوت الملك : وها نحن الآن أمام حجاب الحضرة الفردانية.
    (تنار الشاشة وتكتب العبارة التالية بكسر الحروف والترجمة مع الصوت): “ارفعوا جميع الحجب التي بيني وبين حبيبي المصطفى محمد”.
الصوت : (تسجيلي) ارفعوا جميع الحجب التي بيني وبين حبيبي المصطفى محمد.
    (يتشكل أمام محمد باب كمحراب ذي مقرنصات، في أعلاه مشكاة فيها مصباح، المصباح موقد في زجاجة يشع ضوءاً جليلاً مؤنساً.

ينفتح الباب فيتدفق نور عظيم يغمر فضاء المسرح، إنه ليس كالأنوار، إنه نور الأنوار، يتوالى ظهور الكلمات على الشاشة كِسَراً وترجمة مع الصوت التسجيلي)

الصوت : يا أحمد.. أمامك.. أمامك.. ادن مني (يقترب محمد من النور) يا أحمد لا تخف ولا تحزن.
محمد : يا إلهي.. أي أمر عظيم أرى..سبحانك.. يا للفرح الأكبر!
الصوت : اقترب حتى أضع يدي على صدرك.
محمد : (يقترب) سبحانك.. أحس بَرْد يدِك على كبدي..آه.. لقد ذهب عني كل ما رأيته وعانيته.. أشعر أني أورثت علوم الأولين والآخرين..قلبي مفعم بالحب والفرح والسرور.. إلهي أنت السلام ومنك السلام.
الصوت : وعليك السلام.
    (يجيء صوت كصوت أبي بكر)
صوت أبي بكر : يا هَنَاكَ يا محمد..آلمني ما فعله بك أهل الطائف، لا تبتئس..إن الله محابيك ومواسيك وناصرك لا محالة. وسينصر الله من ينصره.
محمد : إلهي وسيدي ومولاي، أمعنا أبو بكر؟
الصوت : لا يا محمد، أنت في مكان لا يصله أبو بكر ولا غيره، ولكن علمت أنه ليس في الناس أحد أحب إليك من أبي بكر فأسمعتك مثل صوته كي لا تخافَ، ويطمئنَ قلبك.
محمد : التحيات لله والصلوات الطيبات.
الصوت : والسلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته.
محمد : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
صوت الملائكة : (يرددون) نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
الصوت : وأنا أشهد أن محمداً عبدي ورسولي، من أحبك يا محمد فقد أحببته، ومن كذبك فقد باء بغضبي..

صفني يا محمد.

محمد : إلهي، وسيدي، ومولاي..سبحانك.

لا يصفك الواصفون، ولا يحدُّك العارفون، ولا تحويك الظنون، وأنت الحيُّ القيّوم.

الصوت : يا أحمد، عظِّم شاني، وعزز سلطاني، لا إله غيري، أنا ملك الملوك، وقاضي الحاجات، من دعاني أجبته، ومن قصدني أعطيته، ومن توكّل عليّ كَفَيتُه..

ارفع رأسك وانظر يا محمد أين أنت الآن.

محمد : (يرفع رأسه، يبهره منبع الأنوار) يا رب.. يا نور الأنوار.. أين أنا؟
الصوت : أنت على بساط الأنس معي، وأنت السيد المفضل لديّ، يا محمد لا تحزن، وسل تعط، وعزتي وجلالي لقد آليت على نفسي من قبل أن أخلق آدم أن لا تسألني شيئاً إلا أعطيتك إياه.
محمد : أنا لا أسأل شيئاً لنفسي، إنما أسأل لجميع من خلقتَ بيدك.

إلهي وسيدي ومولاي

خلقت آدم بيدك، ونفخت فيه من روحك، وأسجدت له ملائكتك. واتخذت إبراهيم خليلاً، وكلمت موسى تكليماً، ورفعت إدريس مكاناً عليّاً، وأعطيت داود زبوراً، وألَنت له الحديد، وسخَّرت له الجبال، وغفرت له ذنباً عظيماً، وعلَّمت عيسى التوراة والإنجيل، وجعلته يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذنك، فماذا أبقيت لي ولأمتي؟

الصوت : يا أحمد، إن كنت قد خلقت آدم من طين فقد خلقتك من نور وجهي، وكلمت  موسى من وراء حجاب وكلمتك أنت على بساط القرب بغير حجاب، ورفعت إدريس إلى السماء الرابعة ورفعتك إلى مكان لم يصله أحد غيرك، وأعطيتُ داود زبوراً وأعطيتك القرآن الكريم، وخلقت عيسى بكلمتي وشققت لك اسماً من أسمائي، وقرنت اسمك باسمي، فلا يقول عبد لا إله إلا الله إلا ويقول محمد رسول الله، وأرسلتك للناس جميعاً بشيراً ونذيراً، وجعلت أمتك خير أمة أخرجت للناس، وأعطيتك الكوثر والحوض والشفاعة والدرجة الرفيعة.ً
محمد : يا رب، هذا لي فماذا أعطيت لأمتي؟
الصوت : غفرت لأمتك ممن وجبت لهم النار، فإن تاب العاصي قبل موته بسنة أو شهر أو يوم أو ساعة تبنا عليه.
محمد : يا رب، الساعة كثير.
الصوت : إذا تاب قبل الغرغرة جدنا عليه وقبلنا توبته (ثلاث دفقات من النور تصل محمداً) يا محمد خذ..خذ..خذ
محمد : يارب، ما هذه، وما تفسيرها؟
الصوت : عفوي، وحلمي، ورحمتي.
محمد : يا رب، هذا لي ولأمتي فما للأمم الأخرى؟
الصوت : من قال لا إله إلا الله، مؤمناً  صادقاً وجبت له الجنة. إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك.
محمد : لك الشكر يا رب ولك الحمد والإكرام والعظمة والإحسان.
    (محمد يهم بالعودة وركوب الرفرف)
الصوت : على رسلك يا محمد، إني مفترض عليك وعلى أمتك خمسين صلاة في اليوم، من وفّى بها دخل الجنة، ومن قصَّر عنها فإن شئت غفرتُ أو عذّبت.
محمد : يا رب أسألك التخفيف، فأمتي ضعفاء لا يقدرون على ذلك، فهي تسعى أيضاً من أجل الحياة ولقمة العيش.
الصوت : من سعى للعيش والخير والعلم فسعيه صلاة، لقد رفعت عنك وعن أمتك الخمسين وكلفتهم بخمس صلوات في اليوم، فهل أنت راض؟
محمد : (ينحني شاكراً) أجل يا مولاي، سمعنا يا رب وأطعنا.
الصوت : هذه خمس صلوات في العمل كل يوم وليلة، وخمسون في الميزان، كل صلاة بعشر، لا يُبدَّلُ القول لدي، والحسنة بعشر أمثالها، ومن فعل سيئة كتبت عليه سيئة مثلها. طوبى لمن حافظ على الخمس.
    (يرفع رأسه فيرى سيفاً يقطر دماً معلقاً بساق العرش)
الصوت : إلهي وسيدي ومولاي، ارفع السيف عن أمتي.
الصوت : يا محمد، سبق حكمي وعلمي وقضائي، لا يفنى أكثر أمتك إلا بالسيف ونوازع الجهل والسلطة والفتن.

(محمد يتراجع خطوات نحو الرفرف. ينغلق الباب الذي يتدفق من النور)

     

 

* أغنية سورية مشهورة يعنيها شادي جميل.

* التوبة 34-35

* ما بين قوسين حاصرين آيات قرآنية يمكن الرجوع إليها بالمعجم المفهرس، والغاية من المشهد إبراز الحواريات الجاهزة في عملية التأصيل.

* التوراة، سفر حجي، الإصحاح الثاني/ وفي حاشية الأصل العبري: مشتهى كل الأمم : حمدوت أي الذي تحمده كل الأمم.

* عَزَره: تحمل معنيين فيهما وظيفتان للموت هما اللوم والتأديب، والإعانة والنصرة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock