د. رضا عبد الرحيم يكتب: معالجة آفة تآكل الهوية والروح فى مسرح صفاء البيلى
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
ـ
د. رضا عبدالرحيم
رسخ الكاتب اللبنانى خليل الخورى فى روايته(وى.إذن لست بإفرنجى) لما عرف بـ”الوجود الأهلى”ويقصد به إلى هوية كل امة وضرورة الحفاظ عليها.
وقد كانت أفكار خليل الخورى بالغة الأهمية فى هذا السياق،خصوصا فى نهاية العقد السادس من القرن التاسع عشر(1859م)،ومن مسيحى عربى أبى الدفاع عن هويته العربية التى دعا إلى احترام خصوصيتها ،قبل سنوات عديدة من كتابة “محمد المويلحى” لـ “حديث عيسى بن هشام”،وقبل ما كتبه عبدالله النديم فى لوحاته القلمية الساخرة من التفرنج والمتفرنجين،وقبل نحو قرن من دعوة التنوع الثقافى الخلاق التى نحن قريبو العهد به.
الحيلة الفنية التى لجأت إليها الكاتبة ذات جانبين .فهى لا تكتفى بإبراز دور الهوية فى الحفاظ على الوطن-حيث فقد الهوية بداية فقد الوطن- بل تعمد أيضا إلى تأكيد النتائج المترتبة على ضياع الوطن بعد فقد الهوية داخل إطار”أسطورى” فى العمل الأول(مسرحية الغرباء لا يتعلقون بالحبال) ،وإطار”مأساوى” فى العمل الثانى(بيوت الزجاج).
وتقتضى الدقة أن نقول أن الحيلة الفنية فى العمل الأول أقرب إلى الحيل السينمائية (الخيال العلمى) من الحيل المسرحية ،فالحبكة الدرامية قائمة على فكرة عودة شبيهة “رغد” ابنة الجبل الغائبة بعد أن نجحت فى تغيير شكلها بعملية Face-off،حتى يتسنى لها تغيير نمط حياة أهل الجبل(الهوية)،عن طريق تغيير الزى الخاص بالسكان –
وهو ما نبه له خليل الخورى من قبل ضد التقليد الأعمى الذى اندفع فيه الكثيرون من الذين انبهروا بتقدم الحضارة الغربية،بالقياس إلى التخلف الذى عاشوا فيه،فقرروا تقليد الغرب المتقدم فى كل شىء،عملا بالقاعدة التى أكدها أبن خلدون من أن المغلوب مولع بتقليد الغالب – وهى قاعدة تصدى لها ضمنا،أمثال رفاعة الطهطاوى الذى نشر نشر بعض ترجماته فى حديقة الأخبار ،ومضى فى الطريق نفسه كتاب من أمثال على مبارك فى علم الدين والمويلحى الكبير والصغير فى أحاديثهما،وغيرهم كثر .
ومن وسائل تحقيق الهدف المرجو من تغيير الهوية الثقافية والخصوصوية الحضارية بناء جسر(يكون سببا فى انقسام أهل الجبل بين مؤيد ومعارض له) بين الجبل(الوطن) وبين جيرانهم الغرباء الطامعين فى ثروات الوطن المتمثله فى ماء النبع،والثروات الطبيعية .
وبعيدا عن دقة رسم وتشريح الشخصيات الرئيسية مثل الجد الحكيم الضرير ، وفاتل الحبال (أظنه هنا يقوم بدور المعلم الذى يحافظ على التقاليد والعادات الخاصة بأهل الجبل) ،ودقة استخدام أسماء الشخصيات ودلالاتها فى العمل مثل: وضاح( الذى يتضح له حجم المؤامرة)، رشد(التى لا تنخدع فى شخصية شبيهة رغد ولا ترتاح لها) ،عابد(الذى يقدس أرض وطنه وعاداته وتقاليده)،وسلسبيل(النبع الصافى الذى يشبه نبع الماء مطمع الغرباء) أو حتى التعبير عن الطبيعة البكر لهذا المجتمع بالدمى والعرائس ،ومحاولات الغرباء المتكررة لغزو هذا المجتمع طمعا فى ثرواته ،
كما نجد شخصية “رغد” وهى إمرأة تفتدى وطنها وتضرب مثلا نادرا فى المجتمعات العربية فى الدفاع والزود عن وطنها –كان شأن المرأة فى الأزمنة القديمة يرتفع وينخف تبعا للنزعة السائدة فى الأمة أو القبيلة ونوع المعيشة التى تعيشها،فالمرأة ينحط شأنها عند القبائل الدوية والأمم الحربية-،وتكون ما قدمته قيمة متجسدة فى حبل التضحية والفداء نبراسا للأجيال القادمة(صفحة 81) ..
كما نجحت الكاتبة فى توضيح دور الهوية فى فشل محاولات الغرباء دائما ضد هذا المجتمع ففى (صفحة 75) وبعد أن يكتشف أفراد المجتمغ خدعة الشبيهه العائدة (رغد) عن طريق ملاحظة اختها الصغرى سلسبيل عدم وجود “الشامة” (غالبا ما تحدث لأسباب وراثية)، التى كانت بين كتفى رغد الحقيقية نقرأ:
سلسبيل(غاضبة) أين أختى أيتها المجرمة؟لو كنت أمامى لمزقتك بأسنانى الآن
رغد الشبيهه :رغد..عرفت عنها كل شىء حتى الأحلام التى فى نومها..ولكن معذرة ..(بأسف)معذرة عملت حساب كل شىء إلا الشامة التى بين كتفيها يا سلسبيل.
الجد:(بعصبية) أين حفيدتى أيتها الذئبة؟
وفى العمل الثانى (بيوت الزجاج) تضع الكاتبة أبطالها فى بيئة شبيهه بالبيئة الأولى لمسرحية (الغرباء لا يتعلقون بالحبال) الصحراء البكر والليل المخيف ..وتسلب منهم الوطن والهوية معا بفعل مرض الجذام اللعين( فتتساقط أطرافهم)،وغربة حياة داخل مستعمرة للأمراض المعدية ،أو كعالقون فى صحراء على الحدود .
ويتحول هؤلاء إلى كائنات ممسوخة مشوهة يمسخ إنسانية الإنسان..وبعد أن تستعرض حياتهم التى لم ينسوها ويمارسونها بفعل الاعتياد والتعود: فالاعلامى(حسان) المريض يمارس فعل الأعلام،والراقصة(سهر) تمارس فعل الرقص،والفيلسوف(خضر) يمارس فعل الفلسفة ، والفلاحة (زبيدة) تمارس طيبتها وفطرتها،وموظفة هيئة الإغاثة(كارولين) تمارس دورها السلطوى والمُستغل .. تتفاعل الشخصيات معا فى ثنائيات تعبر عن تآكل الروح ، تحت أعين الغرباء أيضا من هيئة الإغاثة ..
ونجد التناص بين شخصية “يعقوب “حارس المستعمرة وبين الفيلسوف اليونانى “ديوجين” الذى يحمل فانوسه فى النهار بحثا عن الحقيقة ..ففى صفحة 99 تصف الكاتبة عم يعقوب بأنه هو الذى يمسك كلوبه حتى فى عز النهار..يحاول التعرف على طبيعة المكان الجديد.وفى صفحة 173 يقول يعقوب عن نفسه: كل يوم..مثل كل يوم!مل الليل ولم أمل حتى الآن.الآن اتركونى لأواجهه لأباغته بطعنة فى الظهر ..ثم أحمل هذا المصباح الطيب بين يدى ، وأصعد معه هناك..هناك للأعلى..كنت أضىء سماوات الظلمة..كنت مثل عمود النور أضىء الظلمة للناس ..لنجوم الليل.. وبداخل جسدى يتفشى قبر مظلم !
وتتجلى اللغة الفلسفية فى حوار ممتع بين ثنائية متفردة داخل العمل ،وهى ثنائية الفيلسوف والراقصة،بشكل المساجله النثرية والتى تحمل طابع المساجله الشعرية من حيث الرد التالى بأخر حرف قبله ،هنا بأخر كلمه قبله(صفحات 139-143) أكتفى هنا بعرض جزء بسيط منها:
سهر(الراقصة): لا تمنعونى عن الرقص..ماذا بكم؟..إنه الشىء الوحيد الذى يمنحنى السعادة ..الشىء الوحيد الذى ظل وفيا لجسدى المتآكل .
خضر(الفيلسوف):وجسدى صار عبئا على عقلى..ماذا لو تحررت منه فى محاولة جديدة للمغامرة؟
سهر:لم يغامر الرقص بمغادرتى حتى بعد أن تهشمت روحى..فلا أحد أحبنى منذ صباى مثلما أحبنى الرقص..
خضر:الرقص على خواصر العقول أصعب..ألف مرة من خواصر الراقصات إنه أول مراتب السقوط.
سهر: كنت أخشى السقوط فى عالم أجهله..كنت مراهقة وجميلة..(تحرك الصاجات بين الحين والآخر بين كلامها بعضه البعض) أذكر أن الرقص هو أول عاشق لجسدى..عاشق احتوى خصرى الملفوف وسحب قلبى إلى الخفقان كلما اهتز على دقات الطبول والدفوف والفرقة الموسيقية التى تجنن جسدى معها،……..
وتبدع الكاتبة فى شرح فكرتها فالانسان بلا وطن او هوية ثقافية يصبح فى نظر الغرباء (سواء فى العمل الأول او الثانى) مجرد كائن يتم استغلال موارد أرضه بل يستباح استغلاله هو نفسه بكل الوسائل من قبل الغرباء،ففى (صفحة 176) يتحدث اعضاء منظمة الاغاثة عن استغلال المرضى من العالقين :
صاحب الياقة 1:(هامسا) ما رآيكم؟..نحن نحتاج بعضا من ذوى العاهات لنجعل منهم حقل تجارب..فعلماؤنا تحتاج إليهم.
صاحب الياقة 2:أو نبيعهم لمحترفى الحروب..كجنود مرتزقة.
صاحب الياقة 3:حسنا..لن نعدم أن نجد لهم فائدة..لن نعدم!
وعالجت آفة تآكل الهوية بالتحذير من أهمال أو عدم التمسك بحبال العادات والتقاليد ومجموع القيم الخاصة بالمجتمع وعلى رأسها قيمة التضحية والفداء من أجل الوطن..كما عالجت آفة تآكل الروح من وجهة نظرها بالحب( ثنائيات الحب بين شخصيات منتهى وصلاح /يعقوب وزبيدة/خضر وسهر) فجعلته العلاج الناجع لكل الأمراض والنفسية والاجتماعية لأبطال عملها .