الكاتب السوري الكبير عبد الفتاح قلعه جي يكتب للمسرح نيوز: رموز وأساطير ومسرح!
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
ـ
رموز وأساطير ومسرح
بقلم: عبد الفتاح قلعه جي
كاتب وناقد مسرحي سوري
ـ
تشكل بعض الأساطير والحكايات الشعبية والأغاني الطفولية الفولكلورية ذات الرموز البعيدة الغامضة والمترسبة في قاع الذاكرة الجمعية منطلقاً وفضاءات لإبداعات كثيرة في الفن والأدب، ذلك أن لها جاذبيتها وألقها لكونها قادمة من عوالم سحرية وتخييلية . من ذلك أن توفيق الحكيم انطلق في بناء مسرحيته يا طالع الشجرة من التشكيل اللغوي والحكائي للأهزوجة المعروفة:
يا طالع الشجرة هات لي معك بقرة
تحلب وتسقيني بالملعقـة الصيـني
والأمر نفسه فعله يوسف العاني في مسرحيته المفتاح والتي قدمها المسرح القومي بدمشق في أحد مواسمه، فقد انطلق من التشكيلات اللغوية والحكائية للأهزوجة السائدة:
ياخشيبة نودي نودي وديني على جدودي
وجدودي بطارف عكا يعطوني ثوب وكعكة
والكعكة وين أضمها أضمها بصنيديقـي
صنيديقي يريد المفتاح والمفتاح عند الحداد
والحداد يريد فلوس والفلوس عند العروس
والعروس بالحمام والحمام يريد قنديل
والقنديل واقع بالبير والبـير يريد حبل
والحبل بقرون الثور والثور يريد حشيش
والحشيش بالبستان والبستان يريد مطر
والمطر عند اللــه لا إله إلاّ اللــه
ومنها أيضا قصة عائد إلى حيفا لغسان كنفاني والتي تتكئ على حكاية الحكم الذي أصدره سليمان الحكيم بشأن امرأتين ادعتا أمومة طفل. وهذه القصة نجدها أيضا في المرويات عن جحا، وهي أيضا أسطورة شرقية استفادها بريخت في مسرحيته الشهيرة دائرة الطباشير القوقازية، وعليها اعتمد فرحان بلبل في صياغة مسرحيته القرى تصعد إلى القمر ليطرح مقولة الأرض لمن يفلحها.
و الشعر العربي الحديث حافل بالرموز والإشارات الأسطورية ، وحتى في الشعر العربي القديم نجد بعض الإشارات الأسطورية، كقول النابغة الذبياني في أسطورة بناء تدمر من قبل الجن:
إلا سليمان إذ قال الإله لـه قم في البرية فاحددها عن الفند
وخيِّس الجن إني قد أذنت لهم يبنون تدمر بالصفاح والعمـد
وتعودنا أن يكون الأول من نيسان يوما يباح فيه الكذب واللعب، وإذا عدنا إلى وراء، إلى المعتقدات الميثيولوجية القديمة، نرى أن يوم إبدال الألواح القدرية في نهاية كل عام هو يوم فراغ وفوضى وإباحة. وفي بابل كان الملك في هذا اليوم يتخلى عن سلطانه لأحد الرعاع ثم يسترد ملكه في نهاية اليوم. وقد حدثت طرفة نادرة إذ مات الملك الحقيقي في ذلك اليوم وبقي الفلاح ملكاً.
التجليات الأدبية الشعبية والمسرحية لهذه الأسطورة ظهرت في إحدى قصص ألف ليلة وليلة التي بنى عليها مارون النقاش مسرحيته أبو الحسن المغفل ، والكاتب السوري سعد الله ونوس مسرحيته الملك هو الملك، كما استفادها الطيب الصديقي في سلطان الطلبة.
وعلى مستوى الأجواق التشخيصية الشعبية الاحتفالية في حلب نجد أسطورة يوم الفراغ هذه تنتج نوعا من مسرح الشارع . فقبل بدء الصوم عند المسيحيين كانت تتشكل فرق مساخر في حلب مؤلفة من عنتر وعبلة، وملاك بأجراس، والزير سالم. والشيطانين الأحمر والأسود، والشخصيتين محلوج ومحلوجة، ولاعب النبوت وغيره، يلبسون الأقنعة ويتجولون في الحي وهم يؤدون فصولاً كوميدية ويطرقون الأبواب ويقفزون على الشرفات ليحاوروا أصحاب البيوت ويغنون ويهرجون. وظلت هذه الفرق موجودة إلى أن منعتها الكنيسة عام 1940م.
ظلت الأسطورة الفضاء الأكثر خصبا للشعراء والمسرحيين وكتاب الملاحم. وعندما عمد كتاب المسرح اليوناني القدماء ومن جاء بعدهم وحتى نهوض المسرح الأوربي الحديث إلى استلهام الأساطير القديمة فإنهم لم يخدموا بذلك الحركة المسرحية فحسب وإنما ساهموا في الحفاظ على هذه الأساطير وفي إغنائها بإعطائها أبعاداً ودلالات وتنويعات جديدة.
كتاب المسرح العربي الذين بدؤوا بكتابة المسرحية التاريخية والاجتماعية والقومية كان لابد لهم اتباعا للحداثة من الانتقال إلى المسرحية التي تتخذ من الأسطورة مادة أساسية لها. اتجه بعضهم إلى الأساطير الغربية ، وآخرون وجدوا في غرائبية السير والحكايات التاريخية والشعبية وميثيولوجيا وادي النيل والرافدين منهلا وفضاءات لأعمال إبداعية في المسرح من حيث جماليات المكان الأسطوري والموضوعات والشخصيات والأحداث فكتب علي أحمد باكثير مسرحية ” أخناتون ونفرتيتي”. و الفرد فرج مسرحيتي” الزير سالم ” و” حلاق بغداد”. وكتب غنام غنام مسرحيتي” كأنك يا بو زيد ” و ” شهقة الطين” وكتب وليد فاضل مسرحية ” أوربة أميرة صور” و خالد محي الدين البرادعي “السلام يحاصر قرطاجنة” و ” ملوك الطوائف” وحمدي موصللي ” آخر العمالقة”.. وغيرهم
واليونان كغيرها من الأمم لها تاريخها الأسطوري الحافل، ومنه نهل أو تأثر كثير من كتابنا ومبدعينا، ولكن بعد ظهور الدراسات المقارنة ثمة أسئلة راحت تثار : هل هذه الأسطورة يونانية أصيلة أم أن لها أصلا بين الأساطير المصرية والسورية والفارسية والرافدية؟ إن الفضاءات المتشابهة للأحداث مع اختلاف الأماكن تحيلنا إلى أمرين: التأثر والتأثير بين ثقافات الشعوب، وإلى مواقع التلاقي والتشابه في التجربة الإنسانية.
أوديب أم أخناتون؟
حاول إيمانويل فليكوفسكي في كتابه ” أوديب وأخناتون” أن يتلمس جذور أسطورة أوديب في حياة فرعون مصر أخناتون. ويرى أن قصة أوديب مع أم الهول في مدينة طيبة اليونانية مقتبسة من عن قصة أخناتون . وأن مدينة طيبة هي في الأصل طيبة المصرية ، وأن أم الهول هي أبو الهول الموجود نصبه في الجيزة .
مرت حياة أخناتون بمراحل وظروف تشابهها حياة أوديب. فالحمل لم يكن عادياً ، واختفاء اسمه من نقوش أمنحوتب الثالث يدل على أنه قد عاش بعيدا عن مصر، كما أن نبوءة من كهنة أمون كانت السبب في محاولات القضاء عليه، لكن الطفل أنقذ كما أنقذ أوديب ورباه أبوان آخران في مدينة أخرى. ويرى فيلكوفسكي أن لقب أخناتون : “ذلك الذي تخلف ليعيش طويلا” دليل على أنه كان مهدداً بالموت في طفولته، وأن ثورته الدينية على أمون واستبداله إياه بعبادة أتون وإعلانه التوحيد إنما يدل على مبلغ العداء بينه وبين كهنة أمون أرباب النبوءة.
ولكن في اعتقادي أنه من الظلم أن نرد حركته التوحيدية إلى هذا السبب، ولابد أن نرد الإصلاح الديني الذي قام به إلى تجربة إيمانية طويلة اكتسبها أثناء غيابه عن طيبة أيام كان مطاردا بالنبوءة جعلته يتلقى صوت الحق بعيداً عن ضجيج الكهنة وطقوسهم، وهذا التفرد والتألّه جعلا تجربته أقرب إلى تجربة الأنبياء أو المتصوفة ، وأتاحا له صفاء ذهنيا أهله لإعلان ثورته الإصلاحية.
مها يكن فإن أخناتون يعود إلى طيبة ثانية بعد موت الملك ويؤهله لذلك تحقيقه انتصاراً حاسماً على ملك أو عملاق خرافي ، ومع وجود أمه الملكة ” تي ” التي تسلمت العرش بعد زوجها لعدة شهور ، يظهر ابنها فجأة ، بعد مكاتبات الأمراء الموالين له، فيستولي على العرش ويتزوج أميرة من العائلة المالكة ويقوم بثورته الإصلاحية، لكن نبوءة كهنة أمون ما تزال تلاحقه، وعداءهم له يظل مستمراً ، وهذا هو الدور نفسه الذي قام به كريون أخو جوكاستا في قصة أوديب، وينتهي الأمر بانتصار كهنة أمون وتدمير مدينة طيبة ” تل العمارنة حاليا “، ونهاية غامضة للفرعون أخناتون. وكما صحبت أوديب ابنته أنتيجوني في تجواله ” أوديب في كولونا” فقد صحبت أخناتون اثنتان من بناته في تجواله.
وتلقى الملكة الأم ” تي ” مصيرا كمصير جوكاستا حيث تنتحر . وكما تنازع ابنا أوديب بولينكيس و أتيوكليس على العرش بعد أبيهما كذلك تنازع سمنقرع وتوت عنخ أمون على العرش بعد أخناتون، ولقي سمنقرع مصير بولينكيس.
يرى عالم الأثريات ادوارد نافي أن أم الهول ما هي إلا صورة الإلهة حاتحور المصرية وهي متأهبة للقتل. ومن المعروف أن الملكة ” تي ” زوجة أمنحوتب الثالث قد صورت في هيئة أبي الهول أنثوي ، بوجه امرأة لها ثديان وجسم أسد وجناحين وهي تمزق ضحيتها . ويستنتج فيلكوفسكي أن أم الهول طيبة التي في إقليم يوتيا وهي الفتاة القاسية المجنحة لم تكن ضيفا وفد من ضفاف النيل وإنما كانت بمعنى أدق صورة ظهرت في طيبة المصرية الأولى ولأول مرة أثناء حكم الملكة ” تي “.
إذن ثمة فضاءان متشابهان للأحداث، وهذه الدراسة المقارنة ليست الوحيدة في مجال الدراسات المقارنة المنجزة أو الممكنة التي يمكن أن تشكل مشروعاً، فما يزال الحقل خصيبا غير مكتشف. وليست الغاية من هذه الدراسات تأكيد أسبقية شعب ما في ولادة الأسطورة ورموزها، فتأكيد ذلك يبقى أمراً صعباً، وإنما هو الدلالة على التبادل المعرفي بين الشعوب ، وعلى تتبع الأسطورة في سيرورتها وانتقالاتها وما يعتري أحداثها وشخصياتها ورموزها من تبدلات وتطور.
قصة الأمير محمود حاكم بخارى
لقي الأمير محمود حاكم بخارى الموت على يد الأمير جابر، لكنه تنبأ له قبل أن يلفظ أنفاسه بأنه سيلقى مصرعه على يد ولد من صلبه. وتقض هذه النبوءة مضجع جابر ولهذا فإنه عندما يتزوج من إيمان ابنة محمود يقرر أن يقتل كل ولد ذكر يولد له.
تحبل إيمان وتلد ولداً ذكراً ، وتدفعها عواطف الأمومة ، وخوفها عليه إلى أن تضعه في سلة وترميه في النهر ، فيلتقطه صياد طيب ويدفعه إلى زوجته فتربيه ، وبعد سلسلة من المغامرات تتحقق النبوءة ويعود ملكاً على بخارى ويلقى الأمير جابر مصرعه.
تتقاطع هذه الأسطورة الفارسية في مؤثراتها مع أسطورة أوديب وقصة موسى النبي(ع) فالنبوءة هنا كنبوءة كهنة معبد دلف وكهنة فرعون في قصة موسى . وكما ربي أوديب بعيداً عن مدينته ربي الطفل غريب ابن جابر ، ثم سمي باسم ” عادل ” بعيدا عن مدينته لدى أبوين جديدين، ومثلما وضعت أم موسى ابنها في سلة وألقته في اليم فعلت أم غريب الأمر نفسه . وكما غرق فرعون موسى في البحر غرق الأمير جابر في حفرة من النار .
تتقاطع هذه الأسطورة أيضا مع جانب من الأحداث التي جرت للزير سالم الذي أُثخن بالجراح، وخوفاً من الأعداء وضعته أخته في صندوق وألقته في اليم ليبدأ فترة ضياع بعد أن يسترد صحته ثم يعود بعدها إلى الثأر ويستلم الحكم.
من عمليــق إلى كاليغولا
تتقاطع قصة القيصر الروماني كاليغولا في كثير من تفاصيلها مع قصة عمليق ملك طسم وجديس، وكانت منازلهم في اليمامة.
كان عمليق طاغية ، أحكامه غريبة ، وقد أمر ألا تهدى امرأة من جديس إلى زوجها إلا بعد أن تنام عنده الليلة الأولى. كانت مملكة العمالقة في أوج فسادها وانحلالها وكان لابد من ثورة تطيح بكل شيء .
الأمر نفسه بالنسبة لروما في عهد كاليغولا الذي انتهى صريعا مثلما انتهى عمليق الذي أذل نبلاء جديس وعهَّر بناتهم وزوجاتهم. ولكن الانحدار لم ينته بموت كاليغولا أو بموت عمليق، فالظاهرة الاجتماعية لا تولد فجأة وتختفي فجأة ، ولكن مقتلهما كان إيذاناً بغروب عهد وموت حضارة.
أساطير الهبوط إلى العالم الأسفل
يشكل عالم ما بعد الموت مجهولا مقلقاً ومرعباً للإنسان، فهو لا يملك غير خياله وسيلة لاختراقه. وفي مثيولوجيات ما بين النهرين نطالع تلك الرحلة الغامضة إلى العالم الأسفل في أسطورة الإله الميت التي تتشكل دائماً من جديد بأسماء مقاربة وأحداث مشابهة تبدأ بإنانا ودوموزي ، فعشتار وتموز .. وهكذا ، ونطالعها في رحلة جلجامش بعد موت أنكيدو. فهل استفاد اليونان والرومان من تلك الأساطير الشرقية حيث نطالع رحلات مشابهة عبر نهر الموت إلى العالم الأسفل في الأوديسة والإنيادة؟
استفاد كتاب المسرح والرواية والملاحم من هذه القصص والأساطير فاستلهموها وأعادوا تشكيلها وصياغتها في مقارباتهم النقدية للواقع، وهم بذلك حافظوا على الجذور الأولى للأسطورة وأغنوها بالفكر المتجدد.
أخيرا
إن قراءة رقم المدن المكتشفة والتي كانت مراكز حضارات قديمة مثل أوغاريت وإيبلا وماري وبابل ونينوى وغيرها أتاحت لنا الاطلاع على كنوز من القصص والأساطير التي يمكن أن تخضع للدراسة والمقارنة.
وإن مثل هذه الدراسات المقارنة لا تنحصر قيمتها في الناحية العلمية فحسب وإنما تفتح الآفاق أمام المسرحيين العرب كي يستلهموا تراثهم؛ ففيه من الأساطير والقصص ما لو تم تناولها لرفدت المسرح والمعرفة معا بمادة غنية حافلة بالدلالات والرموز المفتوحة على فضاءات سحرية وتشكيلات فنية مدهشة ومعارف متجددة .ِ