وجوه مسرحية

د. هشام زين الدين يكتب: مؤسّسو المسرح اللبناني ودورهم في النهضة العربية


المسرح نيوز ـ القاهرة | لبنان

ـ

دراسة من إعداد الدكتور: هشام زين الدين

(أستاذ الفنون المسرحية في الجامعة اللبنانية)

 

حدث ذلك منذ قرن ونصف القرن، تاجر شاب من لبنان يزور المدن والولايات، القريبة منها والبعيدة، بهدف شراء السلع والتعرّف إلى الأسواق تقليداً وربما عادة، فتعرّف إلى الفن المسرحي الجديد الذي لم يسبق أن شاهده أو اختبره في وطنه، وأعجب فيه لما يحتوي من فائدة ومتعة، فعاد إلى لبنان محمّلاً بالأفكار والطموحات. وصل، بدأ العمل، ألّف رواية، درّب على تمثيلها الأقارب والأصدقاء، وكانت البداية، بداية المسرح العربي من بيروت.

ولد مارون النقاش في التاسع من شباط عام 1817 في مدينة صيدا التي كانت في أوائل القرن المنصرم من المدن المزدهرة في مجالات الثقافة والتجارة والإدارة، وكان والده آنذاك صاحب تجارة ومال وجاه، أمّا مارون الذي انتقل إلى العاصمة مرافقاً أباه، فقد عمل منذ نشأته في التجارة وأتقن علم الأرقام ومسك الدفاتر حسب الأصول الافرنجية، ليغدو فيما بعد مدرّساً لتلك المهنة التي برع فيها وخبر قوانينها وأصولها التجارية(1). ما هيّأ له الفرصة لتبوؤ مناصب حكومية عدة كرئيس كتاب جمارك بيروت وعضو مجلس تجارة بيروت وغيرها من الوظائف.

بالإضافة إلى اهتماماته التجارية في ذلك الحين، فقد كانت لمارون الشاب اهتمامات أخرى بالفنون والمعرفة، فتعلّم اللغات وأتقن منها الفرنسية والايطالية والتركية، إلى العربية التي كان متعمّقاً فيها بأصول النحو والصرف، كما أتقن علم المنطق والعروض والمعاني والبيان والبديع، وتعلّق بنظم الشعر حتى فاق بعض أقرانه، كما يورد شقيقه نقولا في كتاب “أرزة لبنان” الذي يضم مسرحيات مارون النقاش الثلاث وخطاباته، والذي أصدره شقيق مارون نقولا النقاش عام 1869.

إلى ذلك فقد تعلّم مارون الموسيقى وأتقنها، كما كان ميّالاً للسفر بهدف التعرف إلى الأسواق الجديدة واستيراد البضائع، فقام برحلات عديدة إلى الأقطار العربية والأوروبية فزار حلب والشام وغيرهما من المدن السورية، وفي عام 1846 سافر إلى مصر وزار الاسكندرية والقاهرة في أواخر أيام حكم محمد علي ومن هناك غادر إلى إيطاليا “التي كانت لا تزال أكثر ممالك أوروبا علاقة بالشرق، وشاهد فيها تشخيص الروايات على المراسح (المسارح) فأدهشه ما في ذلك من اللذة والفائدة بتمثيل العبرة حتى يراها الناس، فخطر له أن ينقل هذا الفن إلى العربية ليفيد منه أبناء وطنه، وبدأ العمل به حال رجوعه إلى بيروت”(2). فقد عاد مارون النقاش من إيطاليا إلى بلاده ليضع حجر الأساس للمسرح اللبناني والعربي.

لم يصلنا من وصف ملامح شخصية النقاش إلا القليل، فقد ذكر شقيقه نقولا أنه كان مربوع القامة، أسود الشعر والعينين، علماً أنه لا توجد له أي صورة فوتوغرافية في الكتب والمراجع القليلة التي تحدّثت عنه. ولعل سبب ذلك يعود إلى وفاته المبكرة بعد رحلة عمل إلى طرطوس في سوريا، حيث أصابته حمّى شديدة أودت بحياته في الأول من حزيران عام 1855، أي قبل أن يعرف لبنان فن التصوير الفوتوغرافي الذي وصل إلينا في الستينيات من القرن التاسع عشر مع بعض المستشرقين الأوروبيين وبشكل ضيّق جداً، نذكر منهم المستشرق الشهيرBonfils الذي التقط بعض الصور الفوتوغرافية في لبنان وفلسطين في تلك الفترة. أمّا أول صورة فوتوغرافية التقطت في لبنان فكانت لمدينة بيروت عام 1839، ونشرت في كتاب تحت عنوان “رحلات داغيرية” (فن التصوير الفوتوغرافي كان يسمى “داغيروتيب” تيمناً بمخترعه الفرنسي داغير). كما تحفظ لنا المراجع والكتب التاريخية صوراً فوتوغرافية لكبار أهل الأدب والفكر أمثال ناصيف اليازجي (1800- 1871) والمعلم بطرس البستاني(1819-1883) وأحمد فارس الشدياق ( 1801-1887) وناصيف المعلوف (1823-1865) وغيرهم من الذين عايشوا مارون النقاش، إلا أن التقاط صورهم تمّ بعد سنة 1860، علماً أن التصوير قبل ذلك كان يتم بواسطة من كانوا يرسمون ملامح الشخصية رسماً بعد إنارتها بواسطة الأنوار العاكسة من الخلف والأمام، لكن يبدو أن مارون النقاش لم يلتفت إلى أهمية تصوير نفسه، كما لم ينتبه أحد من معاصريه لأمر كهذا، فبقي لنا منه المضمون والأعمال وغاب عنا الشكل، ولعل في ذلك عبرة.

المسرحيات الأولى:

قدّم مارون النقاش ثلاث مسرحيات هي “البخيل” و”أبو الحسن المغفل أو هارون الرشيد” و”الحسود السليط”، وكان قد حصل بعد تقديمه لمسرحيته الثانية على موافقة السلطات العثمانية على طلبه إنشاء مسرح بالقرب من بيته، فأنشأه وعرضت فيه مسرحيته الأخيرة “الحسود السليط”. هذا المسرح تحوّل بعد وفاة النقاش إلى كنيسة عملاً بوصيته، ولا تزال هذه الكنيسة موجودة حتى اليوم في منطقة الجميزة في بيروت.

انطلاقاً من المعلومات التاريخية الواردة في المراجع القليلة المتوافرة بين أيدينا، وخلال البحث الذي قام به صاحب هذه الدراسة عن المكان الذي عرضت فيه المسرحية الأولى في العالم العربي، وبعد الحصول على معلومات مؤكدة عن وجود الكنيسة (مسرح مارون النقاش سابقاً) بحالة جيدة في منطقة الجميزة، وفي عام 1997 تمّ التنسيق مع وزارة الثقافة لوضع لوحة تذكارية كتب عليها “في هذا المكان تم عرض مسرحية البخيل وهي أول مسرحية في تاريخ لبنان والعالم العربي للرائد المسرحي مارون النقاش عام 1847″، وأزيح الستار عن هذه اللوحة بحضور وزير الثقافة وحشد من المدعوين من الفنانين والمسرحين اللبنانين ولا تزال هذه اللوحة موجودة على الجدار الخارجي للكنيسة التي بنيت على أنقاض المسرح الاول في تاريخ لبنان والعالم العربي.

بعد عودته من إيطاليا مأخوذاً بما شاهده هناك من مسرحيات، قرّر النقاش نقل هذا الفن الجديد إلى بلاده مع تكهّنه المسبق بصعوبة ذلك، فقد قال في خطابه الذي افتتح به مسرحيته الأولى: “وها أنا متقدم دونكم إلى قدام، محتملاً فداء عنكم إمكان الملام، مقدِّماً لهؤلاء الأسياد المعتبرين، أصحاب الإدراك الموقّرين، ذوي المعرفة الفائقة والأذهان الفريدة الرائقة، الذين هم عين المتميّزين بهذا العصر، وتاج الألبا والنجبا بهذا القطر، مبرزاً لهم مرسحاً أدبياً وذهباً افرنجياً مسبوكاً عربياً، على أنني عند مروري بالأقطار الأوروباوية وسلوكي بالأمصار الإفرنجية، قد عاينت عندهم فيما بين الوسايط والمنافع، التي من شأنها تهذيب الطبائع، مراسحاً يلعبون بها ألعاباً غريبة ويقصّون فيها قصصاً عجيبة، فيرى بهذه الحكايات التي يشيرون إليها والروايات التي يتشكّلون بها ويعتمدون عليها، من ظاهرها مجاز ومزاح وباطنها حقيقة وصلاح”(3).

هكذا قدّم مارون النقاش مسرحيته الاولى للمشاهدين الذين تجمعوا في باحة بيته لمشاهدة أول عرض مسرحي في تاريخ المسرح العربي، إلا أن المسرح وبحسب المراجع التاريخية كان قد عُرف في لبنان من خلال الارساليات الأجنبية، الأميركية منها والفرنسية، اللتان كانتا تتجاذبان مراكز التأثير الثقافي واللغوي، وكان المسرح التعليمي– الديني في المراكز التابعة لهذه الإرساليات من أهم الوسائل التي اعتمدتها هذه الارساليات لنشر ثقافتها. ويقول المستشرق الروسي كريمسكي: “بين 1830 و 1860 قدمت هذه الارساليات مسرحيات عن عيد ميلاد السيد المسيح ومواضيع أخرى من الإنجيل المقدس”، ويضيف في مكان آخر: “في الاربعينيات من القرن التاسع عشر قامت الارساليات الايطالية بإنشاء مسرح خشبي في بيروت قُدمت فيه مسرحيات ذات طابع ديني”(4)، لذلك يمكن الاعتقاد أن مارون النقاش قد شاهد شيئاً من هذه المسرحيات قبل سفره إلى إيطاليا، كونها تزامنت مع إقامته في بيروت في تلك الفترة، لكن سواء شاهد النقاش هذه المسرحيات في بيروت أم في إيطاليا فإن النتيجة جاءت واحدة وهي أن النقاش قد نقل إلى بيروت الشكل المسرحي الإيطالي أو ما يسمى بالعلبة الايطالية، نقلاً يمكن أن نسميه عفوياً، نظراً لأن المسرح الذي شاهده هناك كان على هذا النحو.

ونورد أيضاً ما جاء في وصف الرحّالة الانكليزي دايفيد أركيوهارت الذي صادف وجوده في بيروت في ذلك الحين ودعاه والد مارون النقاش لحضور المسرحية الثانية “أبو الحسن المغفل أو هارون الرشيد” ومما قاله: “أمّا المسرح فقد أقيم أمام البيت وكان على المثال الذي نحرص على تقليده في قاعاتنا التمثيلية، باب في الوسط تعلوه كوّتان وعلى جانب منه نافذتان، وكانت الكواليس في آخر الفناء، وبالقرب منها تقع الأبواب الجانبية، أمّا المنصة فقد أقيمت في الصدر وجلس النظارة أمامها، ونشرت فوق القاعة ظلل من أشرعة السفن، كان هؤلاء قد شاهدوا في أوروبا أن المسرح له أنوار أمامية وتقوم في مقدمته حفرة للملقّن، فتوهموا أنها من لوازم المسرح الضرورية، فألصقوها حيث لا حاجة لها، ووضعوا كراسي لجلوس الخليفة ووزيره ومرايا كبيرة للسيدات متأثرين بما شاهدوه على المسارح في أوروبا، ولمّا لم يكن بين الممثلين نساء، لم تقع عيني على أمرأة بين الحضور ولا في النوافذ المفتوحة المطلة على الحديقة”(5).

انطلاق التجربة المسرحية

بعد موت مارون النقاش لم يتوقف النشاط المسرحي في لبنان، فقد تابع تلامذته كتابة وتقديم المسرحيات، هؤلاء التلامذة الذين شاركوا في تمثيل مسرحية “البخيل” قبل أعوام، والذين اعتذر مارون النقاش عن قلّة معرفتهم بهذا الفن في الخطاب الذي تلاه قبل بدء عرض المسرحية بقوله: “إن المشتركين معي، الذين ساعدوني بهذا العمل، ووافقوني وأنجدوني لبلوغ الأمل، لم يزالوا متجدّدين ومبتدئين بفعله، ولم يمرّ عليهم قبلاً مظهر كمثله، فلا يخلو الأمر من أنهم يقعون في بعض ورطات، ويشجبون علي بعض سقطات، يشعر بها من له المطالعة، على دقايق هذه الحقايق الساطعة، ولكنهم بالحقيقة معذورون نظراً لبداءتهم، وعدم وجود إمام كاف لهدايتهم”.(6)

يعتبر نقولا النقاش (1825 – 1894) وهو الأخ الأصغر لمارون، تلميذه الأول الذي حمل رسالته من بعده وسار على خطاه في طلب العلم والمعرفة وتعلّم اللغات، كما عمل في التجارة وكان يشغل منصب مندوب الحكومة في مجلس إدارة ولاية بيروت، ومديراً لجمارك الدخان، وكان خبيراً في قوانين الدولة العثمانية وأنظمتها، وتخرّج في العلوم الشرعية على أيدي علماء بيروت، ثم عُيِّن عضواً دائماً لمحكمة بيروت التجارية، واشتغل بالتأليف والترجمة والصحافة، وكان له ديوان شعر طبع عام 1879(7).

كان نقولا النقاش يؤلّف النصوص المسرحية، ويقوم بتدريب الممثلين عليها ويعمل على كل تفاصيل إخراجها، من الأزياء والديكور والموسيقى إلى لعب الأدوار الأساسية فيها، ولم تترك لنا المراجع معلومات عن أعمال نقولا النقاش المسرحية، باستثناء القليل مما ورد في البعض منها.

تقول الباحثة المسرحية الروسية بوتينتسيفا في كتابها “ألف عام وعام على المسرح العربي”: “إن نقولا النقاش قدّم مسرحيته الأولى في بيت أخيه الآخر خليل النقاش، وكان هو مؤلفها، وكانت مكتوبة بأسلوب شعري، وقد رافقتها الأوركسترا، وفي نهايتها عُزف نشيد على شرف السلطان العثماني”(8)، ونقرأ في كتاب “أرزة لبنان” أن نقولا قدّم عدة مسرحيات تزامنت مع تقديم مسرحيات مارون النقاش، فيذكر في خطابه الذي ألقاه بمناسبة تقديم مسرحية “الحسود السليط” التي رُصد ريعها لمساعدة الفقراء والمحتاجين، وذلك بعد موت مارون النقاش ما يلي: “أقول إن رفع هذا الستار لا بد أن يكون قد حرّك إحساساتكم أيها التلامذة الأنجاب، إذ تذكرتم أن بهذا المكان عينه قد تقدّمت أول رواية عربية من أستاذي وأستاذكم مارون النقاش، غير أنه لم يقتف أثره غير هذا الفقير، ومع قصر معرفتي ففي السنة الثانية قدّمت رواية “الشيخ الجاهل”، وفي السنة الثالثة قدّم رحمه الله (أي مارون) رواية “ابو الحسن المغفّل”، وقدم داعيكم بعدها الرواية العبوسة وهي رواية “ربيعة إبن زيد المكدّم” إلى ان قدّم هو أخيراً رواية “الحسود السليط” التي هي تقدمتنا الآن لحضرة هذا الجمهور المعتبر، وبعده قدّمت داعيكم بعض روايات حرية أن لا تذكر”(9).

نستنتج من هذا المقتطف أن نقولا النقاش قد قدّم مسرحية “الحسود السليط” بعد موت اخيه مارون، لكن لا تحديد لمكان وزمان عرض هذه المسرحية في المرجع المذكور. ويتضح لنا أن المسرحية الأولى التي قدمها نقولا النقاش كانت في العام 1849 أي بعد عام واحد من تقديم “البخيل”. إلا أن أهمية نقولا النقاش لا تكمن فقط في متابعته لممارسة الفن المسرحي وتقديم المسرحيات، بل أيضاً في كونه صاحب الفضل في تأريخ سيرة ونصوص مسرحيات أخيه مارون، ونشرهم في كتاب “أرزة لبنان” الذي يعتبر المرجع الأهم والأوحد الذي بنيت على أساسه كل النظريات والابحاث اللاحقة التي عالجت بداية المسرح اللبناني والعربي وتاريخه.

النظرية الأولى في تاريخ فن التمثيل باللغة العربية:

الى ذلك يعتبر نقولا النقاش صاحب أول نظرية في فن التمثيل باللغة العربية، مع الملاحظة أن هذه النظرية لم تأت نتيجة خلق شخصي خالص، بل الأرجح أنها تُرجمت أو نُقلت عن اللغة الايطالية، أو أنها جاءت نتيجة قراءات ومطالعات عديدة لمراجع ايطالية عن فن التمثيل، ذلك لأن المصطلحات التي استخدمها نقولا النقاش في هذه النظرية كانت باللغة الايطالية المنقولة إلى العربية. وقد ألقى نقولا النقاش نظريته هذه في خطابه الذي ألقاه قبل عرض مسرحية “الحسود السليط” حيث قال: “أعلم كما أن الرواية تقسم إلى جملة فصول، هكذا أيضاً كل فصل ينقسم إلى جملة أجزاء، فالفصل هو حد يفصل الرواية ويقسّمها إلى عدة أقسام، من واحد إلى خمسة (وإن وُجد أكثر فيكون نادراً جداً لا يُعوّل عليه، وأمّا الروايات المحزنة، ما نظرت منها لا أقل ولا أكثر من خمسة فصول) وفي نهاية كل فصل يصير تنزيل الستار الحاجب بين محل التشخيص وبين حاضري الرواية. ومحل التشخيص هذا يُسمى عند الافرنج “شينة”، والبنك الذي تطأه المشخصون يسمى “بانكوشيانكو”، وتقسيم الرواية إلى فصول عديدة يوجد له لزوم كلّي”. ويتابع نقولا النقاش حديثه عن الفصول والأجزاء وحركة الممثلين والتمثيل، فيقول: “وقولي الآن إنما هو لأصحابنا الذين ما حضروا التشخيص إلا ما ندر وهم مبتدؤون بهذا الفن فحسبي بهم أن يتقنوا التشخيص بكل ما يلزم إظهاره من الإشارات الحسّية والانفعالات النفسانية، متصورين أن الشيء الواقع مزاجاً إنما هو حقيقة. هذا هو الأمر المهم بهذه الصناعة، لأن المشخّص البارع عند الافرنج حينما يكون دوره يقتضي له إظهار الانفعالات النفسانية المؤلمة كالغيظ والغضب إلخ…، فيظهره بنوع حسّي، حتى أن البعض منهم يؤثّر على صحتهم حتى يفضي بهم الأمر بعد ذلك لتعاطي العلاجات والأدوية، لزوال ذلك المرض الذي يستحوذ عليهم من جراء ذلك، ونحن الآن لا نطلب من أصحابنا الوصول لهذه الدرجة بل نرجوهم الانتباه لذلك قليلاً، وأشور عليهم ألا يزيدوا الحد أيضاً بتكثير الاشارات والانفعالات، بل الموافق أن يكون كل شيء سائراً طبيعياً بالاعتدال، كما لو كان الحادث الواقع أكيداً حتى لا يضيع رونق الرواية وتعب المؤلف، لأنه إذا لم تُحسن الاشارات، فالرواية هي كالعدم”(10).

ولا تحفظ لنا المراجع معلومات إضافية عن نشاط نقولا النقاش سوى أن إبنه قد شارك في تمثيل مسرحية “الحسود السليط” التي قدمها في ذكرى أخيه مارون، وقد حضر هذا العرض الوالي عزيز باشا وبعض أعيان بيروت(11). كما قام نقولا النقاش بتأليف أناشيد عديدة لبعض المناسبات والأعياد الدينية.

روّاد المسرح اللبناني يهاجرون إلى مصر:

التلميذ الثاني لمارون النقاش هو ابن أخيه سليم خليل النقاش، الذي أسس في العام 1860 فرقة مسرحية في بيروت، وكانت أول فرقة تمثيلية تصل إلى مصر من لبنان لتقديم المسرحيات هناك. وكان سليم النقاش سائراً على خطى العمّين نقولا ومارون النقاش، من حيث سعة اطلاعه ومطالعته للمراجع الأجنبية، فكان مثقفاً من الدرجة الأولى وترك لنا مقالاً نشره في مجلة “الجنان” البيروتية سنة 1875 تحت عنوان “فوائد الروايات والتياترات” جاء فيه: “لمّا رأيت الكثيرين يردون خوض هذا الفن، هرعت إليه وكان فيه فضلة فارتشفتها، فقد ثبت ممّا تقدم أن هيئة الاجتماع من أهم أسباب تقدّم الانسان، وقد عُرف ذلك من قبلنا الأوروبيون، فأوجدوا وسائط لتحسينها عندهم، منها قاعات التشخيص المعروفة بالتياترو، وهي المرآة التي تظهر للإنسان تمثال نفسه، فيرى عيوبه ونقائصه فيتجنبها، إذا كان ممّن يهتدون عن غيّهم، فطاب لهم الاجتماع في هذه القاعات ولم يتخلّل صافي كأس اجتماعهم كدر الامتياز أو عكر التعصب، وقد جعلوها واسطة لما يضمهم إلى بعضهم اتحاداً، رادين ما يفصلهم عن بعضهم اختلافاً، على أن من ذلك ما أتى بفوائد لا تحصى ومنها ما أتى بأضرار جمّة، وهذا ناجم عن اختلاف المبادىء المنشورة فيه.

أمّا ما يشترط في الروايات، فهو أن تجلى بها الفضيلة ونتائجها الحسنة، لتميل الناس إليها، وتبدو الرذيلة تحت برقع الأدب مع عواقبها الوخيمة، ليرى الناظر شناءتها وشناعتها، فيتجنبها ويأنف من الإتيان بها، أمّا العشق الشديد فيظهر أيضاً لتبدو عواقبه إن حسنة وإن قبيحة، وذلك يتأتى عن كيفية العشق، فإنه يكون أدبياً لا يأنف الشهم منه، وقد يكون وخيماً لا يقبله الذوق السليم، وفي الأمرين فوائد لا تذكر، وهذا هو المطلوب من كل مؤلف رواية تُشخّص رواياته لدى الجمهور، وما أحسن ما قاله في هذا الباب راسين الفرنساوي الشهير عن مؤلفي الروايات الأدبية، وهو أن رواياتهم تُفيد من يحضر إليها ويسمع حكمها فائدة لا تنالهم من مدارس الفلسفة الكبرى وعليه لا تفيد الروايات ما لم يُنشر بها طي الهزل حكم عن مبادىء التهذيب والتمدّن”.

قلنا أن فرقة سليم النقاش هي الفرقة اللبنانية الأولى التي وصلت إلى مصر لتقديم المسرحيات، أما لماذا غادر سليم النقاش لبنان فيذكر في مقاله: “ولمّا كانت وسائط بلادنا المادية قاصرة عن إنجاح مطلبي، طمحت أفكاري إلى معالجة مقصدي في غيرها، وإذ كنت أسمع بما نال مصر من رفعة الشأن بين الأمصار، إذ فاقت ما سواها من الأقطار الشرقية في التهذيب والتمدّن، ونجحت نجاحاً عظيماً في المعارف والعلوم، قصدتها، ولمّا تعرفت ببعض أعيان مصر الكرام، بسطت إليهم أمري وأطلعتهم على ما بسرّي، فأوعزوا إلي أن ألتجئ إلى المراحم السنية الخديوية، فهي ملجأ الراجي ومنية الراغب ومأمول الطالب، ففعلت، وهكذا بلغت فوق ما تمنيت من أفضال جنابه العالي، وأحسن إلي بقبول طلبي، وذلك بأن أدخل من الروايات باللغة العربية إلى الأقطار المصرية، فعدت إذ ذاك لأجهز في بيروت جماعة للتشخيص، وألفت بعض روايات، وبعد جمع الجماعة باشرت دراسة الروايات فأتقن أكثرها، وعما قليل يتم اتقانها كلّها، فأسير بالجماعة لأجري هذه الخدمة بالديار المذكورة”.

إذاً بعد الاتفاق الذي أبرم بين سليم النقاش والخديوي اسماعيل الذي عُرف بتشجيعه للعمران والثقافة والعلم، قام سليم النقاش بتجهيز فرقته وتدريبها على التمثيل في بيروت، ونظّم برنامج المسرحيات التي سينقلها معه إلى مصر وكان على الشكل الآتي: مسرحيات عمه مارون الثلاث، “البخيل” و”ابو الحسن المغفّل أو هارون الرشيد” و”الحسود السليط”، وترجم أوبرا “عايدا” لفيردي عن الايطالية وحافظ على طابعها الغنائي، واقتبس مسرحية “هوراس” لكورنيه تحت اسم “مي” و”ميتريدات” لراسين و”غرائب الصدف” التي تقع حوادثها في الهند، و”حفظ الوداد أو الظلوم” وهي مسرحية مكتوبة بالفصحى شعراً ونثراً وذات خمسة فصول، وقد صوّرت المسرحية المغامرات والمؤامرات التي تجري في قصر ملك شرقي، وعلى الرغم من عدم الاشارة الى مكان الأحداث وزمانها، يبدو واضحاً أن المقصود هو بلاط الخديوي اسماعيل، أي أن سليم خليل النقاش لم يتغاض عن نقد الخديوي على الرغم من أن الأخير هو الذي أتاح له الفرصة لتقديم مسرحياته في مصر وشمله برعايته.

أمّا فرقة الممثلين فقد تكونت من إثني عشر ممثلاً وأربع ممثلات، ووصلت إلى الاسكندرية في شهر كانون الأول من العام 1876، وفي يوم السبت الموافق 23 منه قدم النقاش وفرقته مسرحية “ابو الحسن المغفل” على خشبة مسرح زيزينيا، وفي 28 من الشهر نفسه قدمت الفرقة مسرحية “الحسود السليط” ثم قدّمت المسرحيات الأخرى في شهري كانون الثاني وشباط من العام 1977.

بعد نجاحه في الاسكندرية استدعى سليم النقاش صديقه الأديب اللبناني أديب إسحق (1856 – 1885) لمساعدته في ترجمة نصوص جديدة لعرضها أمام الجمهور المصري. أما أديب إسحق وهو أحد رجالات عصر النهضة، فقد تلقى تعاليمه في المعهد اليسوعي في بيروت، وعمل في البداية موظفاً في البريد حيث كان يعمل والده ثم انتقل عام 1874 ليعمل في جريدة “التقدّم” ونشر فيها عدد من المقالات وقصة واحدة، وكان قد التقى هناك مع سليم النقاش وتوثّقت بينهما عرى الصداقة التي ولّدت اتفاقاً على العمل معاً في مجال المسرح وفي ترجمة المسرحيات، وعندما دعاه سليم النقاش إلى مصر، سافر أديب اسحق (الذي كان قد ترجم مسرحية “أندروماك” عن راسين في بيروت وقدّمها ثلاث مرّات بناء لطلب قنصل فرنسا) للعمل مع النقاش، فترجم له مسرحية أخرى هي “شارلمان”، لكن الميول الأدبية والسياسية عند إسحق، طغت على نشاطه المسرحي، فتحوّل إلى الصحافة وما لبث أن جرّ وراءه سليم النقاش، خصوصاً وأن نجاحهما أخذ ينحسر شيئاً فشيئاً، فقرّرا ترك المسرح وسلّما فرقة التمثيل إلى يوسف خياط وتحوّلا إلى العمل في الصحافة فأصدرا جرائد “مصر” و”التجارة” و”المحروسة” و”العصر الجديد” كما أسهما في الحركة السياسية التي سبقت الثورة العربية، إلى أن توفي سليم النقاش عام 1884. أما يوسف خياط فكان شأنه شأن من سبقوه ولم يصمد طويلاً في عمله في المسرح وتحوّل إلى الصحافة بعد فترة، وذلك بسبب مزاحمة الفرق المسرحية الأخرى له، وأهم هذه الفرق “فرقة أبو الخليل القباني” الذي وفد إلى مصر قادماً من سوريا نتيجة للظروف نفسها التي أرغمت اللبنانيين على السفر إلى مصر.

أبو الخليل القباني الذي يعتبر مؤسّس المسرح السوري لاقى نجاحاً باهراً في مصر وعمل فيها مدّة طويلة ثم عاد إلى سوريا قبل وفاته بقليل وبعد أن احترق مسرحه في القاهرة، وحديثاً أطلق اسم القباني على أحد المسارح في العاصمة السورية دمشق تخليداً لذكراه.

ال

لا يمكننا الكلام عن النشاط المسرحي بعد مارون النقاش من دون التوقّف عند الحالة الاجتماعية والثقافية والسياسية العامة التي عرفتها تلك المرحلة التي شهدت تعاظماً للاستبداد العثماني ونموّاً للتناقضات الطبقية، خصوصاً مع تغلغل الرأسمال الأجنبي (الأوروبي) وتأثيراته في الحياة السياسية والاجتماعية. هذه الأمور مجتمعة أدّت إلى شعور بالغبن عند المثقفين اللبنانيين العرب، وولّدت لديهم حالة انبعاث للحسّ القومي ولضرورة تطوير الثقافة الوطنية باعتبارعا من أهم دعائم التطور.

مع الاختلاف الزمني بين النهضتين، العربية التي انطلقت من لبنان والاوروبية التي شهدتها أوروبا قبل ذلك بعشرات السنوات، وبالإضافة إلى سعي رجالات عصر النهضة إلى تجديد التقاليد المحلية، فقد عرفت تلك المرحلة محاولات جدّية لاستيعاب منجزات الثقافة الأوروبية، وخصوصاً ما يتعلّق في ايديولوجية الصراع  ضد النظام الاقطاعي والاحتلال العثماني، وقد وجد النهضويون العرب انعكاساً لطموحاتهم وافكارهم في الانجازات التي ظهرت بعد عصر التنوير الفرنسي.

مبادىء النهضة العربية:

أمّا المبادئ التي أعلنها رجالات النهضة واعتمدوها نهجاً في ممارساتهم فهي: بعث الثقافة العربية القديمة في أفضل تقاليدها، مناهضة الخرافات الدينية، إدخال الأفكار التنويرية واستيعاب المنجزات الأوروبية في حقل الثقافة، تشجيع الاتجاهات الجديدة في أجناس الأدب والفن ومن بينها إنشاء مسرح عربي محترف وقيام أدب مسرحي.

نتيجة لهذه الحركة الفكرية الهادفة حصل تغيير في الجو الثقافي العام في لبنان، تقول الباحثة الروسية بوتينتسيفا: “تحت التأثير المباشر من قبل أوروبا على المنطقة، كان اللبنانيون الأوائل الذين حصلوا على إمكانية المقارنة بين الشرق الإقطاعي والغرب الرأسمالي، وبين حال الثقافة المحلية المضطهدة من قبل الاحتلال العثماني وحال الثقافة الأوروبية المزدهرة بانجازاتها”(12)، ولا شك في أن التغيير الذي حصل كان على صلة بالتأثير الأوروبي، وجاء نتيجة عدة ظروف، كالدور الذي لعبته الارساليات الأجنبية على أرض لبنان، والانفتاح الثقافي على الأدب والفكر والفن الأوروبي، الذي حرّك مخيّلة وموهبة المفكّرين والأدباء والشعراء اللبنانيين الذين تأثروا بشكل خاص بالأعمال الكلاسيكية الفرنسية للقرن السابع عشر، وليس صدفة أن يقوم اللبنانيون بترجمة أعمال راسين وموليير وكورنييه المسرحية ونشرها، وفي بعض الأحيان عرضها على الخشبة في الجمعيات الخيرية والثقافية وفي المدارس.

إذاً، في الستينيات من القرن التاسع عشر شهدت الساحة الثقافية اللبنانية بداية ما سمي بعصر النهضة، فدخلت إلى البلاد صناعة الطباعة والنشر(مع التذكير أن الطباعة قد عرفها لبنان بين سنتي 1732 و 1733، لكن هذه الطباعة لم تكت متاحة للعامة وكانت خاصة وبدائية) ومع بدء الطباعة، بدأت الصحف والمجلات العربية بالظهور، وصار بإمكان المؤلفين والمترجمين وأهل الفكر والأدب نشر انتاجاتهم، وبالتالي نشر الثقافة الجديدة، ثقافة النهضة. إلى ذلك فقد شهدت المرحلة حركة إنشاء للجمعيات الثقافية والأدبية التي كانت تشكل مراكزاً لتجمّع أهل الفكر والأدب والفن.

روّاد النهضة العربية والفن المسرحي:

من سلالة العائلة البستانية العريقة برز اسم سليمان البستاني (1856-1925) وهو حفيد المعلم بطرس البستاني، وعُرف كناقد وكاتب ومترجم “إلياذة” هوميروس إلى اللغة العربية، ولم يكن له نشاط في المسرح سوى ما ذكر عن أنه مثّل دور “منتور” في مسرحية “تليماك” التي اقتبسها سعدلله البستاني عن رواية “مغامرات تليماك” للكاتب الفرنسي “فنيليون” الذي عاش في القرن الثامن عشر، هذه المسرحية قُدّمت في المدرسة الوطنية التي أسّسها المعلم بطرس البستاني عام 1869.

من روّاد النهضة أيضاً، برز اسم خليل اليازجي (1858 – 1889) وهو الإبن الأصغر لناصيف اليازجي، من سلالة إسرة عريقة وقَفَ أفرادها حياتهم على خدمة اللغة العربية وبعث تراثها، وجاهدوا في سبيل بعث روح القومية العربية في لبنان.

تلقى خليل اليازجي علومه في بيروت وكانت ثقافته أوروبية متعددة الجوانب، وأمضى فترة طويلة في دراسة الرياضيات والعلوم الطبيعية، ولكن طبيعته الشاعرية الرقيقة وضعف صحته جعلاه يتحوّل إلى الأدب، فأبدع نماذج رائعة من الشعر الغنائي، ضمنها ديوانه المعروف “أنفاس الأوراق”. وقد عُرف خليل اليازجي واشتهر كصاحب أول تراجيديا عربية تاريخية هي “المروءة والوفاء” أو “الفرج بعد الضيق”. تجري أحداث هذه التراجيديا في فترة ما قبل الاسلام، أيام النعمان إبن المنذر (قتل سنة554م.) الذي تولى حكم العراق، أمّا موضوعها فيروي حادثة وقعت مع النعمان حين خرج ذات يوم للصيد وأضاع رفاقه، فآواه إعرابي اسمه “حنظلة” فتأثّر النعمان بكرم الاعرابي وأراد أن يكافئه على حسن ضيافته، وطلب منه أن يأتي إلى الحيرة ليجازيه على حسن عمله، وعندما جاء حنظلة إلى حضرة النعمان صادف مجيئه مع يوم البؤس الذي جرت العادة أن يقتل النعمان كل من يصادفه في هذا اليوم، فأراد قتل حنظلة، لكن الأخير طلب منه أن يمهله سنة واحدة قبل تنفيذ الحكم كي يتسنى له العودة إلأى دياره لوداع أهله وأقاربه، فاستجاب النعمان لطلب حنظلة بعد أن تعهّد أحد الرجال واسمه “قرّاد الكلبي” بأن يضع نفسه مكان حنظلة كرهينة حتى يعود الأخير. ولمّا استحق الإعدام ولم يعد حنظلة أمر النعمان بتحضير المقصلة لتنفيذ حكم الاعدام وفاء للرهن، وقبل البدء بالتنفيذ وصل حنظلة ليفي بالوعد الذي قطعه على نفسه، فلمّا رآه النعمان قال له: ما الذي جاء بك إلى موتك؟ فأجاب حنظلة: الوفاء والدين الجديد، وعرض الاعرابي حنظلة دينه الجديد النصرانية على النعمان فتنصّر النعمان وتبعه أهل الحيرة جميعاً، وألغى النعمان عادته السيئة وعفى عن الإعرابي حنظلة(13). كان لهذه المسرحية عدة نهايات، في إحداها كان حنظلة نصرانياً، وفي غيرها تنتهي المسرحية بزواج الكفيل “قرّاد” من بنت الملك التي أحبته لمروءته ووفائه.

كتبت هذه المسرحية بأسلوب شعري، وتألفت من ألف وسبعماية بيت شعر، وفي مقدّمة المسرحية أعلن المؤلف عن استقلالية مبادئه المسرحية مع حفاظه على الوحدات الثلاث، الزمان والمكان والحدث، وتم تمثيل هذه المسرحية عشرات المرّات وقدّمت للمرة الأولى في بيروت عام 1878 ونُشرت عام 1884. وفي العام 1902 قُدمت في القاهرة وقال عنها جرجي زيدان: “إنها مسرحية نادرة في الأدب العربي، وقد شكّل ظهورها خطوة هامة في تاريخ المسرحية العربية لأن هذه الدراما اقتربت من أعمال كبار الكلاسيكيين الأوروبيين(14). عام 1878 ألّف خليل اليازجي مسرحيته الثانية “قيس وليلى”، وقد استوحى موضوعها كما سليم البستاني من التاريخ العربي، وكان قيس (قيس بن الملوح) أول بطل وقع في الحب وضحى بنفسه في سبيله، لذلك أصبحت قصة حبه لليلى من الروايات التي طافت الشرق بأكمله بدءاً من القرن السابع، وكرّست لها عشرات المؤلفات الشعرية التي أصبحت شائعة في مناطق عديدة من العالم. ففي الاتحاد السوفياتي السابق ألّف الملحّن أوزير غاجيبيكوف أوبرا “ليلى والمجنون” على أساس قصيدة للشاعر الأوزبيكي محمد غيزولي الذي عاش في القرن السادس عشر. كما عالج الموضوع نفسه إضافة إلى اليازجي والبستاني الشاعر المصري الكبير أحمد شوقي، وقد أضفى كل من الشعراء والمؤلفين رؤيته الخاصة وطريقته في معالجة الحكاية، لكن خليل اليازجي تميّز عن غيره بإضفائه على شخصياته طباعاً نفسية متميّزة ومختلفة فيما بينها، ما قرّب نصّه المسرحي نسبياً من فن التمثيل بالمفهوم الحديث، وميّزه عن غيره من الشعراء الذين طغت في معالجاتهم الأهداف الشعرية على الأهداف الأخرى وخاصة المسرحية.

من الأسماء التي لمعت في سماء حركة النهضة اسم نجيب الحداد(1867-1899) وهو حفيد ناصيف اليازجي، وعُرف كمترجم ومؤلف مسرحي وله ستة عشر عملاً بين الاقتباس والتأليف. من مسرحياته المقتبسة “روميو وجولييت” و”هاملت” عن وليام شكسبير، و”السيد” عن كورنييه، و”هرناني” عن فكتور هيغو، و “الخداع والحب” عن فريدريك شيلر، وقد اشتهر الحداد بالتصرف الحر في الترجمة والاقتباس، فكان يقلب الأحداث والمواضيع على هواه ويغيّر الأسماء والأماكن بحيث تناسب أذواق الجمهور العربي، أما المسرحيات التي ألّفها نجيب الحداد فهي: “صلاح الدين” و “ثأر البدوي”. ويقول المستشرق والباحث الروسي كراتشوفسكي عن مؤلفات نجيب الحداد: “في مسرحياته، لا وجود للقيود الكلاسيكية، الشخصيات مرسومة بدقّة، كذلك الحركات والانفعالات الداخلية، وأهم ما يميّزه قدرته على تركيب المواقف الدرامية، وقد حافظت مسرحياته على موقعها في الريبرتوار العربي حتى الحرب العالمية الأولى(15).

في نهاية القرن التاسع عشر وبعد التضييق على أهل العلم والثقافة والأدب من قبل الاحتلال العثماني، وبعد تعاظم سلطة رجال الدين الذين أخذوا يتهمون كل من يعمل في المسرح بالانحلال واللاأخلاقية، وبإهمال القواعد الدينية المعتمدة، ما خلق الكثير من الصعوبات أمام العاملين في المسرح، فاشتدت الرقابة عليهم وأوقفت عدة صحف وتعرّضت للملاحقة الفورية أية محاولة لنقد النظام الحاكم، وخُنقت الحريات إضافة إلى معاناة العاملين في المسرح من الناحية المادية وانقطاع سبل المعيشة عنهم، أمام هذا الواقع لم يكن لدى هؤلاء سوى حلّ واحد هو الهجرة.

مع انفتاح أبواب مصر أمام المهاجرين اللبنانيين، حيث كان الوضع السياسي والثقافي في ازدهار، وذلك بفضل اصلاحات محمد علي (حكم مصر بين 1805 و 1848) الذي كان خضوعه للسلطان العثماني شكلياً في البداية، ثم مستقلاً، ثم معادياً للامبراطورية العثمانية. وقد عرف عن محمد علي أنه كان حاكماً أصلاحياً أعطى العلم والثقافة حيزاً كبيراً من اهتماماته، علماً أنه تعلّم القراءة والكتابة في الأربعين من عمره، وبفضل سياسته التي بدأها في النصف الأول من القرن التاسع عشر، والتي مهّدت الطريق أمام خلفائه الذين حكموا مصر من بعده وهم حفيده عباس الاول (حكم مصر بين 1848 و 1854) وابنه سعيد (بين 1854 و 1863) وحفيده اسماعيل (بين 1863 و 1879) الذي تابع مسيرة جدّه الاصلاحية وأعطاها دفعاً كبيراً.

إذاً، ألى مصر انتقل العديد من رجالات الأدب والفكر والصحافة والمسرح، وأسهموا بشكل مباشر في نهوض المسرح المصري اولاً، والصحافة بعد ذلك، وكان لهم الفضل الأكبر في تكوين المجتمع المصري الحديث، بشهادة المنفلوطي الذي قال: “أنبت اللبنانيون في صحراء مصر القاحلة جذور محبة العمل والجهد والشجاعة، القوة والاستقلالية، هم الذين علموا أبناء مصر التأليف والترجمة وإصدار الجرائد والمجلات، وبفضلهم تحوّل هذا الهوى إلى احتراف وتخصص”(16).

بين الأسماء الكثيرة التي هاجرت من لبنان إلى مصر، لا يسعنا إلا ان نذكر المسرحي اللبناني الأصل جورج أبيض(1880-1959) الذي وُلد في بيروت، وفي طفولته اشترك في تمثيل بعض المسرحيات مع فرق الهواة في المدارس، وذلك قبل سفره إلى مصر حيث عمل هناك بعد احترافه التمثيل في عدة مسارح، وعرف بانتسابه إلى المدرسة الواقعية في المسرح. جورج أبيض سافر إلى باريس في العام 1904 للتخصص في الفن المسرحي على يد المدرّس والممثل الشهير سيليفان الذي بقي بمثابة المثال الأعلى لجورج أبيض طوال حياته، وبعد عودته إلى مصر في العام 1910 أسّس فرقة للتمثيل من اللبنانيين والسوريين والمصريين، ووضع عدة مسرحيات من الريبرتوار العالمي، “عطيل” و”ماكبث” لشكسبير، “أوديب الملك” لسوفوكل، “قيصر وكليوباترا” لبرناردشو، “طرطوف” لموليير، وغيرها من المسرحيات.

حظي جورج أبيض على رعاية الخديوي الذي كان يشاهد عروض فرقته شخصياً، وكان أبيض من المتمسّكين بالمبادىء الفنية، ولم يكن ليتنازل أبداً فيما يخص الحرفية والذوق الفني. وكان من المتشددين في استخدام اللغة الفصحى، ورفض دائماً إدخال اللغة العاميّة في مسرحياته، وقال عنه الدكتور زكي طليمات: “إن إلقاءه النص المسرحي سواء كان عربياً فصيحاً أو إقليمياً خالصاً، كان يجنح إلى شيء من الغرابة التي تستهوي الأذن المرهفة، إذ يجيء هذا الإلقاء في إيقاعات وموسيقى صوتية غير مألوفة للأذن العربية، إنها إيقاعات وموسيقى اللغة الفرنسية”(17)، وعندما بدأت الحرب العالمية الأولى، وتحرّكت الانتفاضات ضد العثمانيين في بيروت، كان جورج أبيض يتبرّع بكل إيرادات عروضه المسرحية في مصر إلى المجاهدين في بيروت، وبالرغم من أن مشاركة أبيض في الحركة المسرحية اللبنانية لم تكن مباشرة، فإنه لا يسعنا إلا الافتخار بأصله اللبناني، وبأنه من أبناء هذا الوطن الذي تعوّد إغناء الحركات الثقافية والفنية في البلدان العربية المحيطة.

بعد الحركة التغييرية التي حدثت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وما تبعها من ولادات وتفاعلات للمواهب الخلاّقة في مجالات المسرح والفكر والصحافة والأدب، وبعد النهضة التي أحدثت تحوّلاً في مسيرة التطور الاجتماعي اللبناني على جميع الأصعدة، حتى قيل في بيروت إنها مركز الثقافة العربية. بعد هذه الثورة الفكرية التنويرية، ومع نهاية القرن التاسع عشر، بدأت هذه الحركة بالانحسار شيئاً فشيئاً في لبنان، وغادر اللبنانيون إلى دول أخرى للعمل على تأسيس حركات تغييرية ونهضوية جديدة فيما بقيت الحركة المسرحية في بيروت شبه مجمدة بانتظار نهضة جديدة، هذه النهضة المنتظرة تأخرت هذه المرة لما يزيد عن نصف قرن من الزمن أي حتى بداية الستينيات من القرن العشرين.

(الهوامش موجودة في النسخة الورقية منعاً للنقل العشوائي للدراسة)


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock