المسرح نيوز يقدم “ركن السؤال” المسرحي العراقي فاروق صبري: نمارس الحياة وسيكون المسرح في يومياتها كفانوس ديوجين!

فكرة وإعداد: حامد محضاوي

المسرح نيوز ـ القاهرة| حوارات

ـ

 

ركن « سؤال الراهن »

 

الناقد حامد محضاوي
الناقد حامد محضاوي

فكرة وإعداد: حامد محضاوي
إشراف: صفاء البيلي

ركن ينتمي لجدارة السؤال في السياق المسرحي الحالي، لا يبنى على أرشفة التصنيف أو أحاديّة الإقناع. ركن يبحث عن حقيقة؛ هناك حقيقة وهناك الحقيقة بأل التعريف والسعي نحو حقيقة ما، وليس الحقيقة. وبهذا المعنى فهي معرفة نسبيّة دائما ولكنّها تتضمّن بذرة من المطلق دون أن تكون هي المطلق. هي كما يقول إدوارد الخرّاط: ” حقيقة دائما أيضا نسبيّة بمعنى أنّها ليست نسقا في الفن فلسفيّا أو معرفيّا كاملة “. بهذا المعنى لا يمكن أن تكون إجابة شاملة ومحيطة بالمعنى ككلّ. هي دائما – كما أرجو – ذهاب إلى أعمق فأعمق بدون الوصول إلى تشكّل راكد.

من هنا أرى « سؤال الراهن » كرافعة لتنضيج المعنى الإشكالي، ورسم مآل متشابك للرؤى المسرحيّة، وليس تجميعا مسقطا للهواجس والتعاريف. لست أظنّ أنّ من مهام المسرح أن يضع حلولا أو يجيب عن أسئلة، مجرّد وضع سؤال في السياق المسرحي هو كلّ ما أسعى إليه عبر هذا الركن.

ركن « سؤال الراهن » محمل تساؤلي عبر جملة الأسماء المتدخّلة، في إطار تثمين التشبيك اللحظوي من خلال تيمات « الراهني » و « الآن وهنا » ابتعاد عن الإخبار الصحفي واقتراب من جدوى التفكّر في السياق المسرحي. عبر أسئلة عشر تطرح لكلّ ضيف نحاول بناء لحظة جدليّة نافذة وفاعلة في رهان التشكّل العام.
يسرّنا في هذا الركن استقبال المسرحي العراقي

 

« فاروق صبري »
في مساحته الحرّة، بين الذات وتفاعلها الراهني في الآن وهنا.

من أنت الآن في المسرح؟

في البدء، تحيّة من قلبي، أعني من المسرح لك يا حامد ولصفاء البيلي أرفع سعف النخيل. يبدو أنّك تريد من إجابتي على ( من أنت ) كي ( ترى ) ما أنجزته في حياتي وفي سفري المسرحي. وتساؤلك فيه نكهة فلسفية، صدقية يتساوق مع عبارة سقراط الشهيرة: ( تكلّم كي أراك ) ويتناغم مع ما قاله الإمام علي بن أبي طالب: ” الرجال صناديق مٌغلقة مفاتيحها الكلام “، وما إن أدركني السؤالٌ تحمّست في الكلام المِلاح. ولكن لن أعطي لنفسي نشوة استعراض بطولات الإنجاز، لأنّي سأبدأ بالكلام: أنا ابن الطين، ابن غرفة طينيّة في كركوك؛ كانت بيتنا، سقفها يمطر ماءً في الشتاء، وأرضٌها تتّسع للنفوس التسع من أهلي

هذه الغرفة الطينيّة ليلها أمي؛ تحملني على ظهرها لتهدأ وجع أسناني، وتنقلني وأخوتي من مكان إلى آخر، كي لا تتبلّل أجسادنا بقطرات مطر السقف. والتي حرّضت خيالي الطفولي على بناء خيمة واسعة، واسعة، واسعة تٌغطّي سماء بيوت الفقراء، بيوت مدينتي التي ولدت بين أريجها – الكردي العربي التركماني الأشوري – وكبرتٌ وأنا أتعلّم في مدارسها. في واحدة منها – مرحلتها التي نسمّيها المتوسّطة – كان مٌعلم يدرّسنا اللغة العربية. هذا المعلّم عرف بأنّني أقرأ كتباً للشاعر « بدر شاكر السيّاب » وأترنّم قصيدته ( أنشودة المطر ). مرّة طلب منّي معلّمي أن أقف أمام تلاميذ الصف وأقرأ هذه القصيدة وغنّيتها
أتعلمين أي حزنٍّ يبعثٌ المطر
وكيف ينشجٌ المزاريب إذا انهمر
وكيف يشعرٌ الوحيد فيه بالضياع
بلا إنتهاء كالدمِ المٌراق كالجياع
ومع كلّ غناء لي للسيّاب كان معلّمي يٌعلن بفرح غامر، فاروق أنت ممثّل، ” أنت لازم تروح وتدرس في المسرح ” ولعلَّ وقفتي الغنائيّة للسيّاب أمام زملائي في الصف، وفرحة معلّمي شكّلتا لي فضاءً لمسرح. صار صفّ الدراسة خشبة مسرح أولى لي؛ ولذلك أصبحت أشعر بأنّني ذاهب إليه، إلى المسرح كمٌراهق مٌتوجِّه للقاء حبيبته للمرّة الأولى
وإلتقيت بعشقي المسرح في بغداد، في معهد الفنون الجميلة، نعم بدر شاكر السيّاب أخذني برفق ورقة انشودته المطريّة إلى حيث دراسة المسرح فيما وضعتني قصيدة (جبل التوباد) للشاعر « أحمد شوقي » في إمتحان الفن الصعب العذِب، وعبر أداء عفوي حاولت مسرحة القصيدة
جــبــل التــوبــاد حــيــاك الحـيـا
وســـقـــى الله صـــبـــانــا ورعــى
فـيـك نـاغـيـنـا الهـوى فـى مـهـده
ورضــعــنــاه فــكــنــتَ المــرضـعـا
وبدأ السفر إلى فضاء دراسة أكاديميّة امتدّت لخمس سنوات مليئة بالأحلام، المحاضرات، الأصدقاء، البروفات. ومزدحمة بالقراءات، المشاهدات، المشاكسات. ومٌنشغلة بالنقاشات، التنقلات بين صالات المسارح، دور السينما، المعارض التشكيليّة، المكتبات، مراكز ثقافيّة: فرنسية، إنكليزية، روسية
أيضاً رسّمت السنوات الخمس الخطوات الأولى كممثّل في العديد من العروض المسرحيّة منها (اسكوريال)، (قائل نعم ، قائل لا) و (أغنية في الممرّ) وصولاً إلى أطروحة تخرّجي المتمثّلة في فيلم سينمائي قصير (التابوت) المأخوذ من احدى قصص (الملكة السوداء) للكاتب الخلّاق « محمد خضير » وبعد التخرّج كان أوّل أعمالي المسرحيّة كممثّل في مسرحيّة (إمتحان الموديل) عام 1978 والتي قٌدمت على مسرح الفن الحديث ببغداد. كنت فرحاً بهذا العرض وبأدائي للشخصيّة الرئيسيّة فيه. وبدأ الحلم يتوهّج، ولكن للأسف ذٌبح الحلم والفرح في أولى خطواتهما، بسبب ظروف سياسية قاسية فرضت عليّ الإبتعاد عن بيتي المسرح والوطن

ما مضى منك في المسرح: ما بقى وما سقط؟

لأنّني أمشي مع المسرح لذلك لم يمض منّي أي شيء وأنا أسير معه، وحتى في سنوات المنافي الأولى؛ حيث اضطررت خلالها للتورّط الجميل والصعب مع المجال الإعلامي، والعمل في الصحافة والابتعاد عن المسرح كممارسة مهنيّة وفنيّة. ولكن كانت ممارستي للكتابة لها نكهة وروح المسرح فمثلاً حينما أكتب عن معرض تشكيلي أتّخذ من اللوحة، التمثال فضاءً لبناء حوار بين الألوان وبين الحيوات، الفراغات واخاطبها، أسائلها، أتخيّل أفكار وطقوس وفق منطقها أو خارجه. مرّة كتبت عن معرض لرسام سوري، وبدأت الكتابة وأنا أدخل إلى إحدى لوحات، بيوت متراصّة ومتداخلة وتحترق. إبتعدت قليلاً عنها وصرخت: ” ياناس تعالوا، عجّلوا لإطفاء الحرائق، كان هناك أناس صعدوا أسطح البيوت، إمرأة تحضن أطفالها وتنادي: إنقذونا
وكنتٌ أكرّر زياراتي لصالات المسرح – خاصة التي تجري فيها بروفات على عرض مسرحي – أتحدّث مع المخرج، والممثلين، والفنيين. أذهب إلى خلف الكواليس، أتابع مصادر الضوء، أدخل غرفة المكياج والأزياء. أتجوّل فوق الخشبة أشم رائحتها وأتذكّر شخصيّات مثّلتها: إسكوريال، قائل نعم ..قائل لا و (الفيترجي، مصلح سيارات) في إمتحان الموديل. ولكن أقف وأخاطب نفسي بصوت عال: ” نعم أنطون تشيخوف لن أتحوّل إلى شخصيّة (فاسيلي فاسيلتش) وسأجعل (طائر التم) الأخرس يٌغرّد ويٌغرّد. وهكذا الأمر كان يحدث مع مجموعة شعريّة، قصصيّة، رواية أو فيلم سينمائي أو عرض مسرحي أو في حوارات مع المثقفين. أدخل طقوسها وأتحدّث مع شخصيّاتها، أطرح تساؤلاتي حول أحداثها ومقولاتها وبيئتها وأتحاور مع هواجسها وفكرتها ومنطقها، نعم، كنت أخلق فضاء مسرح لي مع مخلوقات هؤلاء المثقفين والفنانين والأدباء

بعد سنوات من تواجدي في دمشق، ساهمت في تأسيس فرق مسرحية منها « فرقة بابل » العراقيّة وشاركت في عروض مسرحيّة ومنها (الحصار) مسرحية (أنتيجونا) وأخرجتها الفنانة الرائعة « روناك شوقي » وعرضت في إحدى دورات مهرجان دمشق المسرحي ، وكانت مسرحية (العربانة) للشاعر الكبير « مظفر النوّاب » محطة مهمّة وممتعة في سفري المسرحي كممثّل، وهذا العرض المسرحي الذي قٌدم في صالة الحمراء بدمشق

ورغم منفاي البعيد ـ والبعيد جداً في نيوزلندا، إلّا أنّ ما بقي من هاجسي المسرحي لم يذبل ولم يدركه السقوط. في الشهور الأولى من هذا المنفى وبالضبط في عام 2005 إتصلت بالشاعر العراقي عبدالرزاق الربيعي وإتفقنا على مشروع عرض مسرحي، كتب نصّه بسرعة قياسيّة، لكن واجهتني مشكلة إنتاج العرض ومكان تقديمه؛ فالأصدقاء تحمّسوا رغم فقر امكانياتهم المادية. مكان العرض يكلّف مبلغا لا أستطيع الحصول عليه، لكن لم أتوقّف عن البروفات لإكمال العرض، ولم يسقط أملي في تقديمه. في يوم ما وأنا أدخل كراج بيتي الذي أسكنه صرخت: هنا، اُقدّم عرضي المسرحي ونصبت أوّليات الديكور ونشرت إعلان: مسرحية (أمراء الجحيم) في كراج ثيتر وحضر جمع من العراقيين وشاهدوا ثمّ العرض إنتقل إلى صالة لمركز ثقافي. ومن ثم توالت العروض المونودرامية ( لا أحد يطرق بابي ) والنص للربيعي أيضاً، وبعد ذلك شاركت في عمل كمؤلف ومخرج لعرض مسرحية (الوردة الحمراء) وقد قدّمت في مهرجان أربيل المسرحي. وجاء المهمّ والأكثر تأسيساً لهاجسي المسرحي ألا وهو مشروعي (المونودراما التعاقبية) الذي كتبت نصّه التنظيري عام 2011 وهو المشروع الذي حاولت معه تغيير البنية الفكرية والجماليّة للعرض المونودرامي عبر نص (أسئلة الجلاد والضحية) للكاتب العراقي « صباح الأنباري » حيث قدّمت من خلال هذا النص عرضين مونودراميين متعاقبين في كندا-تورنتو وفي بغداد. عنونت التجربة ب(منيكانات) وكانت من إنتاج دائرة السينما والمسرح

 

في الراهني الآن، ما هي درجات التمثّل الجمالي التى تراها قادرة على بناء العرض المسرحي بأبعاده المختلفة؟

منذ بدء الطقوس والاحتفالات الدينيّة والأغاني الديثورامبيّة، مع ثيسبيس وأسخيلوس وسوفوكليس ويوربيدس وإلى يومنا هذا إزدحم السفر المسرحي بالكتّاب والفنانين والفنيّين، عروضهم وكتاباتهم وأفكارهم وابتكاراتهم المشاكسة، الهادئة ورؤيتهم المتمرّدة والصداميّة تجاه يوميات الإنسان وإرهاصاتها، حروبها السياسيّة وكوارثها الطبيعية. لكن هذا السفر المسرحي في محطّاته الإبتكارية والساكنة اعتمد على الأبعاد الثلاثة: النص، الإخراج، التمثيل.

ومن حيث سكونها أو تطوّرها، تيّاراتها المحافظة أو إجتهاداتها المتعدّدة. اختلفت هذه الأبعاد المسرحيّة من عصر إلى عصر وضمن نفس العصر. هنا لا أريد أن أستعرض سفر المسرح تاريخيّا، لكن قراءة لثورة « شكسبير » الكتابيّة و « ستانسلافسكي » المسرحيّة وانتفاضة « بريشت » الملحميّة ومغامرات « تشيخوف » ،« غروتوفسكي »، « ابسن »، « مايرهولد »، « موليير »، « أرتو »، بيكيت »، « قاسم محمد »، « الفاضل الجعايبي »، « عبدالقادر علولة »، « فواز الساجر »، « الطيّب الصديقي »، « يوسف العاني»، « أريان منوشكين »، « سعد اللّه ونوس »، نعم القراءة النقديّة المعرفيّة لهؤلاء المسرحيّين المجدّدين ترسم لنا، تمنحنا (تمثلاً جمالياً) في غاية المتعة والرؤية المختلفة المبنيّة، والقراءة نفسها تدلّني أو تٌحرّضني أنا شخصياً على أنّ الإبداع المسرحي يتشكّل عبر سينوغرافيا تعني حضور تخييل منفلت، مٌغامر، مشاكس، متمرد، صدامي، متسائل في لغته البصريّة والكتابيّة في التمثيل، الإضاءة، الأزياء، المكياج، الموسيقى والمؤثّرات الصوتيّة.
وأي خلل أو فقر في صياغة المشهديّة المسرحيّة عبر تخييل ذاهب إلى بناء سينوغرافيا العرض يعني شكلانيّة (بصرية) مٌسبقة الصنع. وهذا الأمر البعيد عن الإبداع نلمسه في عروض مسرحيّة عربية وعراقية تقع في فخ تدوير (الحلول البصرية) التي لا نشاهد فيها غير أدخنة ملوّنة متصاعدة من كل الجهات، بارتشنات مختلفة الأحجام متوزعة / مٌعلقة، متطايرة، كراسي مٌتراصفة، مٌتقاربة، مٌنقلبة فوق خشبة المسرح

وأي نقلٍ أو استنساخ لمعالم وملامح الواقع تحت يافطة (المٌحاكاة) يدفعٌ العرض المسرحي إلى نفاذ بثّ الجمال والمعرفة والمتعة. وإذا قال « أرسطو » بأنّ (المحاكاة هي الأصل في الفن) ولكن (إختلاف) طريقة، مادة، وسيلة التعبير عنها مهمّ جدا مثلما يشير الدكتور « رشاد رشدي » في كتابه القيّم (نظرية الدراما من أرسطو إلى الأن) وفي الكتاب نفسه نقرأ أنّ أرسطو يٌركّز على أهميّة ما (يٌحاكيه العمل الفني شيئاً لم يره المشاهد من قبل). هذا المعلم الدرامي الخالد الخلّاق الذي عاش قبلنا بأكثر من 2300 عام يٌدرّسنا على أنّ التدوير المألوف غير مقبول، ومن المهمّ أن يتوقّف المسرحيّون أمام هذا الدرس الدرامي الغائب في العديد من العروض المسرحية

– في الآن وهنا، ما هو انطباعك على المعطى المسرحي العربي الحالي في مستوياته: الجماليّة والأكاديميّة والهيكليّة؟

لعلَّ المهرجانات المسرحيّة العربية هي الفضاء الوحيد ولنقل المحدود الذي يلتقي خلالها – المهرجانات – المسرحيون ويقدّمون في يومياتها عروضهم المسرحيّة. ومن المعروف أنّ المؤسّسات الرسميّة المسرحيّة هي التي ترسل عروضاً مسرحيّة وفق مقتضيات القرب من إدارة هذه المؤسّسات وأمزجة مدرائها أو المهيمنون عليها. لذلك من النادر وصول العروض المهمّة والمتجدّدة. من المؤسف أيضاً أنّي لم أحضر كثيراً في المهرجانات المسرحيّة، والسبب في قلب إدارتها!! ولكن شاهدت بعض العروض المسرحيّة إن كانت مباشرة أو عبر فيديوات. وهنا لن أدوّخ نفسي ولا أشغلكم حتى بذكر عناوين عروض (مسرحية) والحليم يكفيه المعنى بين القوسين. في المقابل شاهدت عروضاً مسرحيّة غامر صٌناعها بمعرفة عميقة ومهنيّة ذكيّة في إبتكار سينوغرافية العرض المسرحي، وهنا نشير إلى « جواد الأسدي » في عرض (أمل) وإلى (الكوميديا الإلهية) « حافظ خليفة »، و « علاء قحطان » في (25 ريختر) و « أسماء مصطفى » في (ادرينالين)، وعرض « أنس صمد » في عرضه (نعم غودو) وإلى « أمين ناسور » في عرضه (شاطارا)، و « علي الزيدي » في عرض (الميت مات). مؤكّد أنّ إشارتي إلى هؤلاء الخلّاقين في البحث، الخلق، النحت المسرحي، لا تعني أبداً تجاوز مبدعين مسرحيّين شباب، خاصة يحاولون صنع لغتهم المسرحية المتفرّدة والمختلفة والمجاوزة للسائد المسرحي التي أشار إليه جدنا ستانسلافسكي وهو يتحدّث عن الكاتب الروسي أنطون تشيخوف كونه الكاتب الأول في المشهد المسرحي لأنّه (تخلص من البنية الفنية السائدة التي كانت تسود المسرح الروسي )، لا مجال هنا بالتفصيل فيها ولا تناسي جهود بحثيّة باهرة ومؤثرة للعديد من المعاهد والأكاديميات الفنيّة والمسرحيّة خاصّة وتنظيرات الباحثين من أمثال المصري الدكتور « أبوالحسن سلام » والعراقي الدكتور علاء والمغربي « أحمد بلخيري » والعراقي الدكتور « تيسير الألوسي » هؤلاء وغيرهم ساهموا ببناء هيكليات مٌبدعة لمؤسّسات مسرحيّة مازالت تٌخرج سنوياً العشرات من طلاب الفن المسرحي .

في الراهني الآن، مدى وجاهة التطوّر في الاشتغالات الحالية للذائقة المسرحيّة العربيّة مقارنة بغيرها؟

إنّ (الذائقة المسرحيّة) في جوهرها مرتبطة، متفاعلة، متداخلة مع الذائقة الثقافية وترتقي وتنحدر مع إرتقاء وإنحدار تجارب المسرحيّين، ومدى تنوّعها وتعدّد تياراتها وإجتهاداتها جمالياً وفكرياً ، وهنا نتساءل: هل هذه التجارب سجلت منسوباً من المدِّ في
طريق بناء ظواهر البحث والخلق والابتكار في جميع مستويات الفضاء المسرحي، في الكتابة، الإخراج، التمثيل، الإنارة، المكياج، الأزياء، والأهم التفاعل مع المتلقي؟ التقنيات التكنولوجية -سأتحدث عنها لاحقاً- صح أنّ الميديا المرئيّة قد أربكت سبل تطوير ذائقتنا المسرحيّة، ولكن هذه الأخيرة يمكنها مقاومة هذا الإرباك وبل إزاحته فيما إذا إشتغل المسرحيّون كتاباً وفنانين وفنيين ومؤسسات في بناء مسرح وليس الإكتفاء ببنايته أو إعادتها مثلما يحصل في العراق؛ أي وضع ريبرتوار مسرحي ممنهج ومدروس أكاديمياً ومهنياً. وهذا الريبرتوار لابدّ أن يشمل أيضاً المعاهد والأكاديميات المسرحيّة والجامعات وفي كافة مراحل الدراسة. هنا أحبّذ أن أتذكّر تجربة طلابية لو تواصلت لكانت خطوة مهمّة في خلق الذائقة المسرحية، والتجربة عشتها وكنت أحد المشاركين فيها عام 1974 قدّم المعرفي الأكاديمي الدكتور « طارق العذاري » أطروحة تخرّجه في معهد الفنون الجميلة عبر مسرحية (قائل لا، قائل نعم) لبريخت ، العرض حضره طلاب المدارس الإبتدائية. هي محاولة أرادت البدء بتأسيس الذائقة المسرحية وسط المرحلة الدراسية الاولى. هذه المحاولة أحبطت ولكن شاهدت مثيلاتها عند عروض مسرحية تنظمها المسارح في الشارقة

في الآن وهنا، أي درجة تُخرج فيها الوسائط التقنيّة والتكنولوجيّة العرض عن كونه مسرحا؟

في الدورة الأخيرة 29 لمسرح القاهرة التجريبي كانت ندوة فكريّة ربما بعنوان التكنولوجيا في المسرح، وقد رغبت في المشاركة في هذه الندوة وأرسلت ملخّص حول هذا الموضوع الشيّق والمثير والملتبس. عنونت مشاركتي ولأقل بحثي بعنوان (إغراء التكنولوجيا) وفيه حاولت تبيان أهميّة جوانب من العلوم التكنولوجيا وتأثيراتها في حياتنا اليومية وامتدادها في سياقات الثقافة المتنوّعة ومنها المسرح؛ فالمسرح كفضاء إبداعي تٌغريه التقنيّات التكنولوجية التي حضر إستخدامها وإن بأشكال بسيطة منذ بدء المسرح الإغريقي، ولكن هذا الإغراء لابٌد أن يٌوظّف كبٌعد معرفي يقترن بخبرة سينوغرافية تتشكّل عبر البحث والتساؤل والإبتكار وإلا فسوف يسقط (الفنان) المسرحي في حالات التباس و شكلانية الحلول البصرية. وبالتالي يتحوّل منجزه الفني إلى باقة ورد بلاستيكية تفوح منها رائحة الغبار يرميها المشاهدون في صندوق القمامة الموجودة عند باب صالة المسرح

– في الراهني الآن، مدى أهميّة التنظير المسرحي وحضور المعطى الفكري والفلسفي والثقافي في مدى الفعل المسرحي القائم؟

حينما كتبت ونشرت تنظيري (المنودراما التعاقبية) تناولته كتابات العديد من الكتاب والمسرحيين والباحثين والنقاد الذين تحدّثوا عن مشروعي التنظيري بإعتباره افقاً جديداً في العرض المونودرامي وكان هناك رأي يعترض على وجود تنظير قبل التطبيق في المسرح. وجاء هذا الرأي بمثل يقول أن المسرح الملحمي كعروض مسرحية سبق التنظير له من قبل الألماني برتولد بريخت والمثل صحيح والإعتراض غير دقيق لأنّ الكثير من البيانات والكتابات والأفكار والتنظيرات إتخذت من أنيّة المنجزات الفنية أرضية لإعلان ولادة أساليب حديثة ومضامين مختلفة. لذلك يمكن التأكيد على أهميّة وفعالية (المعطى الفكري والفلسفي والثقافي) به ومن خلاله ينمّي المسرحي أدواته ورؤيته وأيضاً يدفع مثل هذا (المٌعطى) إلى إعادة قراءة وفحص وتفكيك وتحليل المنجزات المسرحيّة السابقة

ويٌعتبر النقد المعرفي والمهني بٌعداً مٌساهماً ومؤثّراً في عمليّة تطوير التنظير المسرحي. الناقد المالك لأدواته الفنية والثقافية لا يكتفي في إظهار جماليّة الحلول البصريّة وإبراز بنية أحداث وشخصيات العرض وتحليل جوانيتهما وإنما بث رؤيته الفكرية-الجمالية بين سطور كتابته النقديّة. وهذا ما يشكّل بالتراكم النوعي والكمي دروساً عملية في سياق بناء تنظير مسرحي متجدّد وحيوي، يستفاد منه العاملين في المجال المسرحي وأيضاً طلاب المعاهد والأكاديميات المسرحية.

في الآن وهنا، قيمة الجدل في الساحة المسرحيّة تعود لاختلاف الرؤى المسرحية أم لبناء الصفة الذاتيّة والتموضع؟ أي تمثّلات لهذه أو تلك؟

يقول الشاعر والمفكر الكبير أدونيس (وعي الإختلاف والفرادة خاصية يتميّز بها الإنسان) لنلاحظ أنّ أدونيس ربط بين المفردتين (الوعي ) و(الإختلاف ) لأنّ هذا الأخير بدون الأولى تصبح مٌلتبساً ، غير مٌنتجاً، غير مٌؤثر في الحياة عامة وفي المسرح خاصّة. ولأنّ مادة وربان المسرح الإنسان فلابدّ أن نضع الوعي الإختلافي في مكانة حيوية نهتدي به، بدءاً من الخطوات الأولى لإنجاز العرض المسرحي، الذي يتجلى بمفهوم -فعل الدراما وهي في بعض ملامحها إختلاف في الرأي والموقف، ومروراً بظهور التيارات والمختلفة والمدارس المتباينة في سفر المسرح. هنا تكمن القيمة المعرفيّة والفنية للجدل والسجالات والتقاطعات من أجل بناء (رؤىً) مٌبدعة في المشهد المسرحي. أمّا المهرولون (المسرحيون ) خلف سراب (الذاتية والتموضع) توهماً منهم أن المسرح ملك خاص بهم، وإنهم المبدعون الوحيدون لذلك لا يقبلون أي نوع من الجدل والتساؤلات ويعتبرون أيّة كتابة نقدية تٌظهر إخفاقات و(بلاوي) عروضهم (المسرحية) إعتداء صارخ ضدّهم وضد (تجربتهم) ، وإنهم لا يدركون أنّ الجدل الرؤيوي جوهر التطور والتجلي والخلق وفي المسرح بالذات

في الراهي الآن، أذكر لكلّ من هؤلاء وصيّة: المخرج، الممثل، الكاتب المسرحي، الناقد، المتلقي، الهياكل المهتمّة بالمسرح
إسمح لي بأن أوصي نفسي :

كمخرج….1- بالإضافة لقراءاتي للنص الذي أنوي إخراجه، أقرأ نصوص الكاتب إن وجدت

2-على الورق أعني (السكريبت) أضع فكرة النصّ أمامي لأسجّل منطلقاً منها تصوّراتي الخاصّة كي أؤسس بها أولى الحلول البصرية التي أحاول أن تولد دون قيود أو تابوات مع استحضار لجميع التيارات والاجتهادات والتجارب والمدارس. وسيكون هذا الإستحضار بعيداً عن الاستنساخ ومنبعثاً من ذائقتي وهواجسي وقلقي وحلمي ومعرفتي

3- مع كل حلّ بصري وسينوغرافيا أعيد التحديق بمحيطي والتاريخ وما أتوقّعه في المستقبل
أقرأ النص ونصوص الكاتب واشاهد عروض المخرج الذي أعمل معه
أبتعد أن أكون مٌودياً للشخصية التي كتبها المؤلف ومنفذا لتعليمات المخرج
أتبارى في البروفات مع الكاتب والمخرج عبر مقترحاتي واجتهادات قراءاتي الخاصة من أجل تأسيس الشخصية التي أمثلها وحينما أكتب نصاً
لا أبني الحدث والحوار والشخصيات على قاعدة كونكريتية
ولا أسيّج النص بمفاهيم ثابتة ولا أبث من خلاله المٌتوقع وإنما المتسائل
لا أتوقع أن أشاهد العرض مثلما ما كتبت نصه وإنما مثلما قرأ النص المخرج بصرياً وفكرياً
أن أكون ناقداً فهذا ممكن لذلك أوصي نفسي
أطلع على تجربة المؤلف والمخرج والممثلين والفنيين
أحضر بروفات العرض إذا أمكن أو جنرال بروفته أو أشاهده لمرّات
أسرد سينوغرافية العرض ولا أكتفي بسرد حكايته
ومن المؤكد أنني أيضاً متلقي للعروض المسرحية بحكم انشغالي بالمسرح ولذلك:
اطالب ادارة المهرجانات أن تكون لجان المشاهدة من مبدعين لهم خبرات ومنجزات مسرحية
أدعو إدارة المهرجانات أن يعملوا إستفتاء جماهيري مرافق
ومؤثر في قرارات لجان التحكيم و أتمنى من إدارة المهرجانات أن تٌحول العروض المسرحية المحليّة المٌبدعة والمدعوة إلى نظام (الريبرتوار) ينتقل في المسارح داخل البلد المٌضيف وفي البلدان المدعوة إلى المهرجان

في الآن وهنا، هل يمكن من سؤال الراهن استشراف ممارسة المسرح في المستقبل؟ ومساحة حرّة لاختلاج راهني لم نتحدّث فيه؟

وكأنك تسألني: هل يمكن ممارسة الحياة؟ نعم سنمارسها وسيكون المسرح في يومياتها كفانوس ديوجين ، لكن أريد أن أتحدّث عن المختلج في نفسي ليس اضطرابا نفسيّا آنيّا أو مستداما، إنّه صرخة : متى تنتبه المؤسسات المسرحيّة العربية لمشروعي (المونودراما التعاقبية) ، تعالوا أيّها الأحبّة المسرحيون المبدعون، أدعوكم لقراءة نص مشروعي ومشاهدة ما نفّذته في كندا وبغداد، وما كتب عنهما من قبل العديد من الباحثين والكتّاب والفنّانين والإعلاميّين. وإذا لم يكن هذا المشروع تنظيرا وتنفيذا مٌغايراً للسائد العروض المونودرامية فارموني بأحجار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock